الأحد، 17 ديسمبر 2023

كيف يغذي الخطاب العنصري الإبادة الجماعية الإسرائيلية؟

كيف يغذي الخطاب العنصري الإبادة الجماعية الإسرائيلية؟


ترجمة وتحرير نون بوست

منذ بداية العدوان الإسرائيلي والإبادة الجماعية على غزة، كثّف قادة إسرائيل ومؤيدوها خطابهم العنصري واللاإنساني ضد الفلسطينيين. في إعلانه للحرب، أشار وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إلى الفلسطينيين على أنهم “حيوانات بشرية“. وبالمثل، وصفهم السفير الإسرائيلي في ألمانيا رون بروسور بـ “الحيوانات المتعطشة للدماء“، وأشار السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة دان غيلرمان إلى الفلسطينيين بأنهم “حيوانات فظيعة وغير إنسانية“.

هذا التجريد العنصري الاستعماري للفلسطينيين من إنسانيتهم هو استراتيجية خطابية متعمدة لتمكين إسرائيل وحلفائها الغربيين من تنفيذ مذبحتها الجماعية للفلسطينيين في غزة. وفي كتابه “المعذبون في الأرض“، يوضح المفكر المناهض للاستعمار فرانتز فانون هذه “المفردات الاستعمارية”، بما في ذلك كيف يحول المُستعمِر المُسَتعمَر إلى جوهر الشر من خلال تمثيل السكان الأصليين المستعمَرين كحيوانات: “في كلام صريح،” يقول فانون إن الذات المستعمَرة “تُختزل في حالة الحيوان”. ويكتب أن المستعمِر “يجرد ذات المستعمَر من إنسانيتها…. عندما يتحدث المستعمِر عن المستعمَر فإنه يستخدم مصطلحات علم الحيوان… ويشير المستعمِر باستمرار إلى الحيوانات”.

هذا التمثيل الحيواني للفلسطينيين من قبل المستعمرين الإسرائيليين يجعل السكان كتلة مكتظة بلا اسم تحتاج إلى الإبادة. نشر إسرائيل الحالي لهذه اللغة هو استمرار لقرون من الخطابات الاستعمارية الأوروبية العنصرية التي تم حشدها لخدمة الإبادة الجماعية للأمريكيين الأصليين والأفارقة وسكان جزر المحيط الهادئ، من بين آخرين كثيرين.

التجريد الاستعماري من الإنسانية

إن الحياة الفلسطينية في ظل الظروف القمعية في غزة، التي شبهها الكثيرون بمعسكرات الاعتقال، يتم تقديمها بشكل “حي” على حدود ما هو غير طبيعي ووحشي. لقد اعتبر الأوروبيون منذ فترة طويلة أن السكان الأصليين أبعد ما يكون عن الإنسانية، حتى منذ المشاريع الاستعمارية الأولى في الأمريكتين والجنوب العالمي.

تستحضر شخصية كاليبان التي رسمها شكسبير في مسرحيته “العاصفة”، هذا الجزء من الإنسان والجزء الحيواني الذي يتعرض للعبودية والحرمان عندما يأخذ بروسبيرو جزيرته الأصلية منه. كثيرًا ما أشارت الخطابات الأوروبية للسكان الأصليين إليهم على أنهم جزء من “التاريخ الطبيعي” لمختلف المناطق الجغرافية، وتضمنت في كثير من الأحيان سمات بربرية أو شبه حيوانية تؤكد خروجهم عن الأعراف البشرية.

كثيرًا ما كان يتم الاحتفاظ بالسكان الأصليين الأفارقة والأمريكيين والآسيويين في “حدائق الحيوان البشرية“، وعرضهم في العواصم الاستعمارية في الولايات المتحدة وأوروبا، في المعروضات التي تهدف إلى عرض الموائل “الطبيعية” أو “البدائية” للبشر المأسورين والمسجونين الذين تم عرضهم كحيوانات.

أعطى “مبدأ الاكتشاف” الأوروبي، الذي رفضته الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في آذار/ مارس 2023، للمستوطنين الأوروبيين ملكية جميع الأراضي “المكتشفة”، بما في ذلك استعباد السكان المحليين إلى الأبد. وظلّ تجريد الشعوب الأصلية من سيادتها جزءًا من البرنامج الاستعماري على مستوى العالم طوال القرون الخمسة التالية.

تم إنكار إنسانية الشعوب الأصلية دائمًا، وكان وجودها نفسه موضع شك دائمًا. في وصفهما للتجريد العنصري من إنسانيتهما ضد السكان الأصليين في الولايات المتحدة، يوضح عالما السياسة آشلي جاردينا وسبنسر بيستون أن “الأرض التي يطمع فيها المستوطنون الأوروبيون كانت تُصوَّر في كثير من الأحيان على أنها شاغرة”. وإنكار إسرائيل للوجود الفلسطيني وغزوها لما زعمت أنه “أرض بلا شعب” يعكس المبررات الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية للإبادة الجماعية وسرقة الأراضي.

ألّف الكتاب الاستعماريون الأوروبيون موسوعات واسعة النطاق عن التاريخ الطبيعي للأمريكتين تمثل الشعوب الأصلية على أنهم أكلة لحوم البشر، لتبرير غزوهم وتحويلهم واستعبادهم. وتصف قصيدة روديارد كيبلينج “عبء الرجل الأبيض” الأهداف الفلبينية للإمبراطورية الأمريكية في الحرب الإسبانية الأمريكية سنة 1898 بأنها “نصف شيطان ونصف طفل”.

تصوير السكان المستعمرين والسكان الأصليين على أنهم وحشيون وحيوانيون هو جزء من الأيديولوجية الاستعمارية الأوروبية. ومن السهل التعرف على المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يتبع المخطط الأوروبي في النظام الجيوسياسي الحالي بموجب “القانون الدولي”، وهو مصادرة الأراضي، ومحو سيادة السكان المحليين، والترويج للخطاب الذي يجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم باعتبارهم “حيوانات” خاضعة للعنف الاستعماري.

قال الحاخام الإسرائيلي مئير ماروز على شاشة التلفزيون الإسرائيلي: “لو كانوا [سكان غزة] بشرًا لأرسلنا إليهم مساعدات إنسانية… لكن الأمر يتعلق بالحيوانات”. وأشار مؤثرون إسرائيليون آخرون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى الفلسطينيين على أنهم “قرود” بعد أن تم تصوير حيوانات حديقة الحيوان في غزة وهي تتجول بين أنقاض منطقة حضرية مدمرة.

يتم تصوير الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل روتيني على أنهم حشرات أو قوارض، كما هو الحال عندما شارك ما يسمى بـ “محامي حقوق الإنسان” أرسين أوستروفسكي رسمًا كاريكاتوريًا على موقع “إكس”، تويتر سابقًا، لفلسطيني تم تصويره على أنه صرصور على وشك أن يُسحق بحذاء مكتوب عليه “جيش الدفاع الإسرائيلي”. ووضعت منصة التواصل الاجتماعي في وقت لاحق “مذكرة مجتمعية” أسفل المنشور حول الاستخدام التاريخي لصورة الصراصير لتصوير اليهود خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

العرق والسياسة الحيوية

على مدى العقدين الماضيين، أظهر الحصار الإسرائيلي لغزة أسلوبين وحشيين للعقاب الجماعي يجسدان كيفية ممارسة هذا الخطاب العنصري على الفلسطينيين، الذين تحولوا إلى حياة مخلوقة أو بيولوجية مجردة: “جز العشب” و”نظام التجويع الغذائي“.

يشير المسؤولون العسكريون والحكوميون الإسرائيليون إلى الهجمات الجماعية الدورية على قطاع غزة المحاصر على أنها “قص العشب”، وهي استعارة بستنة تستخدم للإشارة إلى الفلسطينيين على أنهم “أعشاب ضارة”، أي عناصر غير مرغوب فيها في العشب، للحد من السكان من خلال القصف العشوائي.

تم تسييج قطاع غزة المأهول بالكامل وتطويقه ووضعه تحت حصار عسكري خانق منذ سنة 2006، وهو إجراء عقابي فُرض على 2.3 مليون ساكن. وفرضت إسرائيل، التي تسيطر على مجمل البضائع التي تدخل غزة وتخرج منها، ما يعرف بـ “نظام التجويع” على السكان الفلسطينيين.

فعلى سبيل المثال، قدم مسؤولو الصحة الإسرائيليون حسابات للحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاجها سكان غزة لتجنب سوء التغذية والمجاعة، في حين حظروا أطعمة مثل الكزبرة والشوكولاتة. كما أعاق الحصار إنتاج الغذاء في غزة، مع نقص البذور وحيوانات المزرعة مثل الدجاج. تذكرنا مثل هذه التكتيكات العسكرية اللاإنسانية بتلك الحصارات التي حدثت في العصور الوسطى حيث حُرمت البلدات المسورة من الغذاء والماء لتسريع انهيارها.

تفاقمت هذه الظروف إلى أقصى الحدود منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر، مع التدمير المنهجي الذي قامت به إسرائيل للبنية الأساسية الغذائية المدنية، بما في ذلك المخابز وأنظمة تنقية وتحلية المياه – مما أدى إلى انتقال النظام الغذائي الذي كان يقترب من المجاعة إلى مجاعة فعلية واسعة النطاق.

صُممت هذه السياسات لتقليص حياة الفلسطينيين، ليس فقط على المستوى الخطابي، بل على مستوى ظروف وجودهم المادية. إن التصوير العنصري للفلسطينيين، الذي نراه من قبل المسؤولين العسكريين الإسرائيليين على أنهم “أعشاب ضارة”، وحساب السعرات الحرارية التي يتناولونها، يجرد حياة الفلسطينيين في غزة إلى حياة بيولوجية مجردة خالية من الهوية السياسية والمواطنة والوضع القانوني. إنها محاولة لتحويل كل السياسات داخل المخيم إلى سياسة حيوية، لإخضاع الحياة الفلسطينية والسيطرة عليها من خلال السلطة الحيوية، أو السلطة على القدرة على استمرار الحياة.

تحتفظ إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة والمسيطرة ذات السيادة، بالسلطة على الحياة والموت في قطاع غزة، من خلال الجوع والعطش والعنف والظروف الشمولية التي يُسمح للفلسطينيين بالبقاء على قيد الحياة في ظلها.

“لا يوجد مدنيون أبرياء”

في منطق معسكرات الاعتقال، حسب الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، فإن المعسكر هو تعليق للقانون، وحالة قانونية استثنائية ناشئة عن الأحكام العرفية و”خلق الفضاء الذي تدخل فيه الحياة المجردة والقاعدة القانونية إلى عتبة عدم التمييز”. بمعنى آخر، اختُزلت حياة سكان المخيم إلى حياة بيولوجية مجردة، بمصطلحات أقل من البشر.

عندما تتحول حياة الإنسان إلى حقيقة بيولوجية، وليست سياسية، فإن حالة الاستثناء التي تنشأ عن الأحكام العرفية تصبح دائمة. ولأنه لا يمكن لأي قانون أن يصل إلى جسد سكان المخيم المقهور، فلا يمكن ارتكاب أي جريمة. والقتل ليس جريمة قتل (لأن القتل يفترض الاعتراف بالانتماء السياسي) لأن ساكن معسكر الاعتقال موجود في منطقة قانونية غامضة. وبهذه الطريقة، تم إخراج السكان المدنيين بالكامل خارج القانون، ولهذا السبب تستطيع المحامية الفرنسية الإسرائيلية نيلي كوبفر ناعوري التأكيد على أنه “لا يوجد مدنيون أبرياء في غزة”، بما في ذلك الأطفال حديثي الولادة لأنهم جميعًا “مذنبون” بمعاداة السامية.

وبالمثل، تم تصوير الجنود الإسرائيليين وهم يهتفون “لا للمدنيين الأبرياء” ويشيرون إلى الفلسطينيين باسم “العماليق”، وهي الأمة التوراتية التي ألمح إليها بنيامين نتنياهو في دعوته للإبادة الجماعية للعنف ضد غزة. ولا تنطبق عمليات القتل دون الجناة على سكان غزة فحسب، إذ يُقتل الفلسطينيون في الضفة الغربية، بما في ذلك الصحفيون مثل شيرين أبو عاقلة، بشكل روتيني على يد القوات الإسرائيلية مع الإفلات التام من العقاب.

لهذا السبب أيضًا يمكن لمصادر الإعلام الغربي أن تذكر مقتل الفلسطينيين دون مرتكبي الجرائم. “يُقتل” الإسرائيليون بسبب ما يسميه بيرس مورغان “برابرة العصور الوسطى”، لكن الفلسطينيين “يموتون في ظروف غامضة” دون أن يُقتلوا.

لقد أدّت الصور العنصرية المستمرة، بصريًا وشفهيًا، من قبل المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين والغربيين، والشخصيات الإعلامية، وشخصيات وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جرائم قتل ومحاولات قتل للفلسطينيين في الولايات المتحدة، بما في ذلك مقتل وديع الفيوم البالغ من العمر ستة سنوات طعنًا في شيكاغو في 14 تشرين الأول/ أكتوبر، وإطلاق النار على هشام عورتاني وكنان عبد الحميد وتحسين أحمد في بيرلينجتون، فيرمونت، في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر. وتلا ذلك أيضًا حملات قمع واسعة النطاق على الخطاب المؤيد لفلسطين من قبل الجامعات والحكومات والمؤسسات الإعلامية.

إن العنف الذي يمارس على الأجساد الفلسطينية يُرافقه نفس الخطاب العنصري الذي صاحب أعمال العنف ضد السود والسكان الأصليين في جميع أنحاء الجنوب العالمي على أيدي المستعمرين والغزاة الأوروبيين. ولا يمكن فهم العنصرية ضد الفلسطينيين (وبالتالي العرب والمسلمين) في الولايات المتحدة وأوروبا دون معالجة القهر المادي للفلسطينيين في غزة من خلال القوة العسكرية والسياسية من خلال مشروع الفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني.

لعقود من الزمن، كانت السياسات الإسرائيلية تهدف إلى تقليص حياة الفلسطينيين إلى أبسط مكوناتها، وتجريد الفلسطينيين من أراضيهم ومواردهم وإنسانيتهم، ورعيهم مثل الماشية في نقاط التفتيش الأمنية، وإطلاق النار عليهم مثل “البط“، ووصف أطفالهم بأنهم “ثعابين صغيرة” والدعوة إلى ذبحهم جميعًا.

منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، أصبح الفلسطينيون أكثر تجريدًا من إنسانيتهم في ظروف معسكرات الاعتقال الوحشية في قطاع غزة المحاصر والضفة الغربية المقسمة إلى كانتونات. واستخدمت الحكومات الصهيونية الإسرائيلية والغربية خطابات عنصرية في حربها الخطابية لتبرير قتل وتهجير الفلسطينيين في غزة.

هذا التجريد من الإنسانية الذي يمارسه العنصريون البيض قد يكون له قبول بين السياسيين والنخب الإعلامية الغربية، إلا أنه بالنسبة للآخرين كشف كيف أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي هو امتداد للمشروع الاستعماري الأوروبي ويوحّد الجنوب العالمي تضامنًا مع فلسطين، مما يضع الإنسانية الفلسطينية في المقدمة.

المصدر: ميدل إيست آي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق