الخميس، 25 يناير 2024

ثورة يناير مرثية الحلم والألم

 

ثورة يناير مرثية الحلم والألم

في الثانية من بعد ظهر الخميس يكون قد مر على القادمين إلى ميدان التحرير يوم 25 يناير اثنتا عشرة سنة، بلغت الثورة المغدورة بدايات الصبا، لم يكن القادمون في تلك الظهيرة يتصورن أنهم وبعد تلك السنوات ستكون ذكراها دمعة من القلب تشق وجوههم عبر مقلة الأعين، لم يكن أقسى كابوس تراءى لهم ما حدث بعد تلك السنوات، يناير كانت اللحظة التي تورات خلفها أحزان الماضي كلها، وظهرت في أعقابها كل الآلام لمن شارك فيها.

لم تكن قلوب العابرين على ميادين مصر مؤتلفة في أي لحظة طوال ثمانية عشر يومًا استمرت حتى السادسة والعشرين دقيقة من يوم الحادي عشر من فبراير/شباط 2011، ولو تألفت ما صرنا هنا، ولا صار الذين أخلصوا هناك.

كانت هناك قلوب نقية تعبر إلى الميادين في تلك الظهيرة، وقلوب أكثر عبرت يوم الجمعة التي تلت هذا اليوم، ولكن كانت هناك أيضًا عقول لم تقدر الذين أخلصوا فصار الحال كما نعيش جميعًا دمعة قاسية تشق في القلوب.

بقدر ما كان الكثير يحمل أملًا وحلمًا ويمارس عشقه للوطن بقدر ما كان هناك في القلب والأطراف من يحسب خطواته الشخصية والمستقبلية وبين هؤلاء الصادقين والمفكرين ضاعت اللحظة الأكثر نورًا في تاريخنا الحديث، وقعت يناير ودفقتها الحانية في المأزق الأكثر تدميرًا لكل التضحيات الفردية المبهرة.

نعم رأيت في سنوات يناير الكثير من المبهج المبهر في عيون الشباب والصبية الذين جاءوا على مدار عام ونصف عام من الثورة، في تضحيات هؤلاء الذين واجهوا العنف في شوارع ميادين الثورة في مواجهة الرصاص، وقنابل الدخان، بعيدًا عن الذين كانوا يفكرون في مصالح ما بعد الثورة، هؤلاء الشباب الذين دفعوا موجة الغضب من إقالة وزير إلى الشعب يريد إسقاط النظام، تلك الصرخة التي دخلت إذني ظهر الثلاثاء 25 يناير أطلقها عدد من الشباب أثناء دخول ميدان التحرير في اللحظة الأولى لغضب يناير.

 سنوات من الآلام

الآن وعلى بعد تلك السنوات نرى عشرات الآلاف من هؤلاء الذين عبروا خلف الأسوار في السجون، يعانون من البرد والوحدة والألم، يعانون برد ليالي الشتاء، يأتيهم يناير فتفر من عيونهم تلك الدمعة، برد الزنازين قاسٍ، لكن برد الوحدة والنسيان أشد، عاجزون هم عن رؤية الأحباب، الأهل، والأصحاب، حتى الزيارات منعت عنهم، انكمش الأبطال الصافية قلوبهم في أطراف الزنازين يتخطون بخيالهم ظلام أيامهم ولياليهم.

برد الزنازين قاسٍ، لكن برد النسيان أشد قسوة وجرحًا، لقد نسيناهم، سقطوا من الذاكرة كأنهم لم يكونوا، لا يشعر بهم سوى قلوبهم الجريحة، وقلوب ذويهم الذين يعتصرون ليل نهار من أجل رؤيتهم فقط، ربما يغضب عليهم أحدهم من الألم فيقول “ماذا أخذنا من يناير غير العذاب والجراح؟”، وربما يتسولون زيارة رؤية لأحدهم ولو عبر الأسلاك والقضبان.

برد الزنازين قاسٍ، لكن النكران والجحود أشد قسوة وعذابًا، نحن الذين تنكرنا لهم نزيدهم ألمًا في قلوبهم، هل تذكر آخر مرة تذكرت فيها اسم سجين من سجناء يناير، -لا أقصد هنا شركاء الألم من أهاليهم- لكني أسأل شركاء الميادين متى تذكرت؟ وحينها ماذا فعلت؟ تذكرت أم أخذتك الحياة وعالم الإلهاء فلم تذكر أحدهم أو إحداهن، أجدنا فعل نسيان هؤلاء وحتى الذين لحقوا بهم حديثًا منذ أعوام قليلة.

الآن وبعد سنوات من يناير هناك عشرات الآلاف من أبناء تلك الثورة لا يملكون هوياتهم المصرية وهم في بلاد الغربة منهم من يختبئ خلف الأسوار وهؤلاء من البسطاء وهم الأكثرية، والذين يعجزون عن استخراج شهادة ميلاد لأطفالهم الوليدة من أي مؤسسة مصرية، يعجزون عن الحصول على بطاقة هوية تتيح لهم البقاء والعمل.

الآلاف منهم شباب فقدوا الانتماء وفقدوا القدرة على مواجهة ما يعانون، خرجوا تحت ضغط المطاردات السياسية أو الحياتية، هل تتصور أحوالهم ومعاناتهم في تلك الأيام الصعبة؟ تساءلت: ماذا تخسر الدولة وقد تركوها؟ هربوا بعيدًا، ولم يعد لهم أمل في العودة حين تمنع عنهم أوراق هوية، هل تصورت طفلًا مصريًا يولد في بلاد غريبة فلا تستطيع أن تستخرج وثيقة تثبت فيه مصريته؟ لم تتخيل، لكنك تجيد التغني بالثورة وصناعها.

على بعد سنوات من يناير هناك الطرف الآخر من الثوار من سعى في بدايتها للحصول على مكاسبها الضئيلة، وخسرت بسببهم وأطماعهم وخبث نواياهم، هؤلاء تأقلموا مع انكسار الثورة وهزيمتها، كل حسب طاقته، في البداية حولوا يناير لغنيمة تكالبوا عليها وتكاثروا يحاولون نهش بعض المكاسب، تنافروا ودخلوا صراع المكاسب، تم استغلالهم فقد كانت قلوبهم شتى، تركوا المخلصين وذهبوا يبحثون عن الغنائم، فكان الانكسار والهزيمة، وتلك كانت البداية أو الطامة الكبرى.

تمادوا في مطامعهم فتوالت الهزائم والإحباطات، ثم أصبحوا وبالًا على الوطن والمخلصين غي لحاقهم بفتات السلطات، ومحاولة التعايش والاستفادة بأي فائدة، فخذلوا الجميع، الوطن وناسه، ومن أخلصوا فصاروا سجناء أو غرباء، ولا يزالون يحاولون اللحاق بفتات المكاسب ويخذلون من يتعشم فيهم.

ما فقدناه في يناير؟

لم يتحقق من أحلام ثورة يناير في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية أي شيء، أو أي هدف رفع شعاره، كانت نصف ثورة فصارت مقبرة للشعب، تضاعفت أوجاع ما قبل يناير، اتسعت الفوارق الاجتماعية، أهدرت كرامة الجميع، حوكم من حوكم، وطورد من غادر، لم يتبق للمصريين لا عيش ولا حرية، صارت مصر اثنتين مصر و”EGYPT”، ولم نعد نملك من الحرية سوى حرية البكاء على أطلال يناير، هل تظنني يأسًا أو بائسًا؟ لا ولكن أفكر معك في الطريق.

افتقدت ثورة يناير أو ثوار يناير ما سعوا إليه، لم يستطيعوا أن يكونوا وحدة واحدة تؤمن بما تدعيه، افتقدوا عقيدة واحدة وتلك في ظني أحد الأسباب في انكسار ثورة الغضب التي تأتي ذكراها اليوم، هل كانوا مؤمنين بما يفعلون؟ أم طغت الفئة المنتفعة على المؤمنة؟ لم تملك يناير مشروعًا واحدًا تفتّت كتلتها بين مشاريع صناعية، لأنها لم تكن مشاريع أصيلة فكريًا واجتماعيًا، مشاريع نبتت في أرض غير الأرض، وبقيم غير القيم، ومشروع التفتيت هذا له عمر من الزمان صنعه من أصبحت الثورة الآن بين أيديهم، وصناعها في السجون، أو مطاردون.

ما حدث بعد 18 يومًا في ميادين التحرير هو أشبه بصراع الديوك، لعبة الملوك في الماضي، والأغنياء في العصر الحديث، احضروا لنا الديوك وقدموهم إلى الحلبة وتركوهم يتعاركون، ومن ينهي أمر الآخر ننهيه نحن، كانت القوى السياسية ديوكًا وشعبًا من المتفرجين يهللون للديك الذي ينقر منافسه أكثر ويفرحون بموت أحدهم، بينما هناك في الخلفية من يديرون الحلبة مبتهجين في انتظار موت الديوك في نهاية السهرة ليذهبوا إلى كراسيهم مستمتعين بالعرض.

ألم يحن الوقت بعد لتفيق الديوك؟ أم أننا بحاجة إلى عصر بلا ديوك، وبإيمان وعقيدة واحدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق