جون كيربي.. الرجل الأبيض الذي انتظرناه طويلًا
بوجهه المنمّق، وشعره المهذّب المصفّف بعناية، وعيناه المدوّرتين، وملامحه التمثيلية بالكامل، يطلّ علينا كلّ حين وآخر متحدّثًا باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، وبلسان الإدارة الأميركية على العموم، وممثلًا مثاليًّا للرجل الأبيض، ببعده الاصطلاحيّ السياسيّ التاريخيّ، لا بتفسيره الحرفيّ بناءً على اللون، ليخبرنا أكذوبة جديدةً، لكن في قالب سرديّ دَرَسه داخل الأروقة الأميركية العليا، التي تعلّمهم السحر، وكيف ينطلي على الجميع، إيمانًا بالتفوّق الأميركيّ على ذلك الكوكب الرجعيّ.
تعبنا كثيرًا حتى وجدنا ذلك الوجه، تعبنا من دفاعهم المستميت عن حقوق الإنسان، من أحاديثهم المتكرّرة عن ديكتاتوريينا الكبار، من نغمتهم التي لا تنقطع عن أهمية الحريات في بلاد العالم الثالث، من ظهورهم بمظهر الذي خرج من حمامٍ دافئ للتوّ، تفوح منه رائحة الصابون والفانيليا، يتحدث كلامًا كأنه الدرر، ويردّد تعبيرات تفتح عقولنا على يوتيوبيا هائلة، ما كلّ هذا الود لنا؟ أتحبنا أميركا أكثر منا؟ أتريد لنا أوروبا كلّ ذلك الخير حقًّا؟ يا لها من عجوز طيّبة، تشرب الحليب، وتنام مبكرًا، وتوقظنا بالقبلات الحانية كلّ صباح؛ قوموا يا أيها الأحرار، ابنوا أمجاد أممكم، وانفضوا عنها جهلها، وانتفضوا على الطغيان الأسود، ولكن من فضلكم لا تختاروا من لا يروقوننا، لأنّنا نحدّد مستقبل هذا العالم، والمسؤولين رسميًّا، والمفوضين السامين، من قبَل الإله، باختيار نظام ذلك الكون العشوائيّ، نحن من سيرتبه بعناية فائقة، كشعرات جون كيربي، وياقة بايدن، ومكياج كارين جان بيبر!
صحيحٌ أنّ لدينا ديكتاتوريين سنلقيهم في القمامة ذات يوم، ولكن هذه المرّة، تأكدنا، أنّه ليس من طريق انتظار الثناء الأميركي، ولا بتمويل المنظمات الحقوقية المنتفخة على ذاتها، وإنما بأيدينا وحدها، لأنّ واشنطن لن تريد لعاصمةٍ في العالم السفليّ من الأرض، بجنوب الخريطة، أن تتنفس هواءً غير الذي تصدّره لها، ليكون الهوى والهواء صناعةً أميركية، من مطبعة البيت الأبيض.
لن تريد واشنطن لعاصمةٍ في العالم السفليّ من الأرض، بجنوب الخريطة، أن تتنفس هواءً غير الذي تصدّره لها
طال انتظارنا حتى أطلّ علينا ذلك الوجه الذي يكذب أكثر بكثير مما يتنفس، لا يعبّر عن ذاته، وإنّما عن المنظومة كلّها، ليست الإدارة الأميركية وحدها، وإنما تلك الأروقة والكواليس التي خلفها في الغرف المغلقة والبنتاغون والاستخبارات المركزية، لأنهم يختارون هؤلاء المتحدثين بعناية، لدرجة تصل إلى التقييم على حسب وجوههم وملامحهم، هل يفضحها الكذب، أم تستطيع التزييف ببراعة؟ وجون كيربي. العسكريّ في البحرية الأميركية سابقًا، هو أحد هذه الأحصنة التي كانت رابحة من قبل، لكنها اليوم تعرج ويتساقط لحم وجهها، ويتبدّل جلدها إلى حقيقته، فتجد أفعى متنكرةً في ثوب حصان!
لا بأس بعدد المدنيين الذي يُقتلون، ولا بأس باقتحام المستشفيات وترويع الآمنين وارتكاب المذابح في حق المرضى، سنكرّر الكلمات نفسها كلّ مرة اعتمادًا على التكرار الذي يفيد توكيد الحقائق مهما كانت أكاذيب؛ لكننا اليوم لسنا متلقّين، بل خصوم، وهذا هو مربط الفرس، الذي كشف لنا العمى الذي غمّى عيوننا كثيرًا، تحت وطأة مساحيق التجميل اللفظية والبيانية والجسدية.
جون كيربي النموذج المثاليّ للرجل الأبيض الحقيقي الذي يحتقر دماءنا وأرواحنا وبلادنا وعقائدنا واختلافاتنا
أتخيّل جون كيربي النموذج المثاليّ للرجل الأبيض الذي طالما بحثنا عنه، الرجل الأبيض الحقيقي الذي يحتقر دماءنا وأرواحنا وبلادنا وعقائدنا واختلافاتنا؛ فداءً للنظرة الأميركية من الأعلى، الفوقية الغربية، التي لا ترانا أكثر من "أعراض جانبية" لعمليات ضرورية تضمن أمن وسلامة حلفاء أميركا وأصدقائها الحميميين، ولا تعتبر دماءنا الحمراء أكثر من خطوط عادية بلا لون، خيوط شفافة وسط تفاصيل أكبر من حقوقنا مجتمعة، ولا تساوي حتى حقوق السلاحف، لأنّ انقراضنا (على عكس الحيوانات) لن يخلّ بالنظام البيئيّ، فنحن في عيني جون كيربي الغائرتين لسنا ببشر ولا بحيوانات، بل كما قال "الصديق غالانت" مجرد "حيوانات بشرية"؛ فناؤها حتميّ.
فشكرًا غزّة أولًا، وشكرًا للسابع من أكتوبر، وشكرًا جون كيربي، على كشف الزيف الرديء، وتلك الوضاعة في التمثيل، وذلك الوهم المنتفخ الذي كاد يأكلنا جميعًا، حتى انفجر بدبوس دقيق ذات يومٍ مبارك من أيام أكتوبر/ تشرين الأول، حين ظهرت الخدعة الأميركية بوجهها الأبيض، وشعرها المصفّف، وعيونها المدوّرة، وحركات جسدها الزائفة، غارقةً في الدماء والقرف حتى أخمص قدميها، المتوغلتين "بنجاسةٍ" في أوطاننا الطاهرة المقدّسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق