دستور يا أسيادنا!!
قطب العربي
في الثقافة الشعبية المصرية ومن قبلها التركية القديمة (العثمانية)؛ حين يدخل أحد بشكل مفاجئ فإنه يرفع صوته بكلمة "دستور" أو "دستور يا أسيادنا" طلبا للإذن بالدخول، هذا يعني أن كلمة دستور ذات قوة رمزية في الوعي الشعبي العام. وفي الخبرة السياسية أيضا فإن للدستور مكانة سامقة، فهو القانون الأعلى أو أب القوانين، وهو الذي يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين سلطات الدولة نفسها، وبين عموم الشعب ومكوناته وهيئاته، وهو الذي يحدد حقوق وواجبات كل طرف. وقد كان من مفاخر حضارتنا الإسلامية دستور المدينة الذي أعلنه نبينا صلى الله عليه وسلم وتضمن 52 بندا؛ رسمت العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة من مهاجرين وأنصار ويهود وغيرهم.
لمصر تاريخ عريق مع الدساتير، ولكن الحكم العسكري قديما وحديثا لا يحترمها، ذلك أن الجنرالات يعتبرون كلامهم هو الدستور، في تطابق مع مقولة لويس الرابع عشر: أنا الدولة والدولة أنا.
يضطر العسكر من الناحية الشكلية لقبول دساتير (صورية) يُقسمون على احترامها، ويكونون أول منتهك لها، ولا يستطيع أحد محاسبتهم على ذلك، ويزداد احتقارهم للدساتير الحقيقية التي تأتي عقب الثورات الشعبية، وتكون تعبيرا صادقا عن الإرادة الشعبية الحقيقية كما هو الحال مع دستور 1923 و2012. وقد تخلص عسكر يوليو 1952 من الدستور الأول، والقوه في صندوق القمامة، فيما تخلص عسكر يوليو 2013 من الدستور الثاني بإدخال تعديلات عليه أفرغته من مضمونه، إنهم يتعاملون مع الدساتير كما تعاملت القبائل العربية قبل الإسلام مع أصنام العجوة التي كانوا يعبدونها ثم إذا جاعوا يأكلونها.
في العام 2014 وبعد شهور قليلة من انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، سمح العسكر للقوى السياسية الداعمة لهم بتعديل دستور 2012 وفقا لأهوائهم، وقد أقحموا في ديباجته ما يسمى بثورة 30 يونيو إلى جانب ثورة 25 يناير، لكن المهم أن السيسي الذي أقسم على احترام ذلك الدستور لم يخف احتقاره له، وقد وصفه بأنه "مكتوب بحسن نية، بينما الدول لا تدار بحسن النوايا"، تبريرا مسبقا لعدم الالتزام به.
يتضمن الدستور رغم كل ما لحقه من تشوهات بابا عظيما للحقوق والحريات هو من مكتسبات ثورة يناير، لكن هذا الباب بأكمله يظل حبرا على ورق، ويجري انتهاكه جهارا نهارا منذ صدور هذا الدستور في 17 كانون الثاني/ يناير 2014 وحتى الآن.
تضمن الدستور أيضا بنودا تتعلق بقضايا كبرى وحدد لتنفيذها مددا زمنية، كما حدد لبعضها نسبا مئوية، ولكنها لم تنفذ حتى الآن، نذكر من ذلك المواد 18 و19 و21 المتعلقة بالصحة والتعليم والتي حددت نسبة لا تقل عن 3 في المئة من الناتج القومي الإجمالي للخدمات الصحية، ولا تقل عن 4 في المئة للتعليم، ولا تقل عن 2 في المئة للتعليم الجامعي ترتفع تدريجيا لتتوافق مع المعدلات العالمية، وهو ما لم يحدث حتى الآن بحجة عدم القدرة.
في مجال الحقوق والحريات وكما ذكرنا من قبل، فإن الدستور يتضمن بابا عظيما لكنه مجمد، ومنتهَك، ونشير فقط إلى المادة 35 عن "صون الملكية الخاصة وعدم جواز فرض الحراسة عليها" والمادة 40 حول "حظر مصادرة الأموال، إلا بحكم قضائي" والمادة 57 الخاصة بـ"حرمة الحياة الخاصة، والمراسلات"، والمادة 58 حول "حرمة المنازل، وعدم جواز دخولها، ولا تفتيشها، ولا مراقبتها أو التنصت عليها".. وليست خافية تلك القرارات بفرض الحراسة ومصادرة الأموال والممتلكات الخاصة للمعارضين السياسيين، حتى قبل صدور أحكام قضائية، وكذا ليس خافيا انتهاك حرمة الحياة الخاصة والمنازل والمراسلات، والتجسس على هواتف المعارضين السياسيين.. الخ.
وفي مجال الإعلام تحظر المادة 71 فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام، أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، وكذلك عدم توقيع عقوبة سالبة للحرية (الحبس سواء حكمي أو احتياطي) في جرائم النشر. وليس خافيا على أحد وقف وإلغاء العديد من الصحف وحجب مئات المواقع الالكترونية، ومع أن المادة 72 تلزم الدولة بضمان استقلال الإعلام وتعبيره عن كل الآراء والاتجاهات، إلا أن الواقع هو الهيمنة الكاملة على الإعلام وفرض إعلام الصوت الواحد.
في المواد الانتقالية هناك أكثر من نص قانوني انتهت المهلة القانونية لتنفيذه ولم ينفذ، ومن ذلك المادة 236 التي تلزم الدولة بوضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات (انتهت يوم 17 كانون الثاني/ يناير ولم يعد أهل النوبة)، والمادة 241 التي تلزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بإصدار قانون للعدالة الانتقالية "يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقا للمعايير الدولية"، وقد انعقد مجلس النواب ثم انفض دورات عديدة دون أن يصدر هذا القانون، كما ألزمت المادة 242 بوضع نظام جديد للإدارة المحلية خلال خمس سنوات، وقد انقضت عشر وليس خمس سنوات ولم يصدر القانون.
بشكل عام ليست هناك إرادة لاحترام الدستور رغم القسم على ذلك علانية، فنحن أمام حاكم يعتبر نفسه طبيب الفلاسفة، وحكيم زمانه، يردد الآية القرآنية "ففهمناها سليمان" مسقطا لها على نفسه، ويطالب المصريين بألا يسمعوا كلام أحد غيره، وبالمحصلة يعتبر كلامه هو الدستور النافذ، ويلغي كل ما يتعارض معه من نصوص وقرارات سابقة.
twitter.com/kotbelaraby
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق