الحرب ومواقف دول جوار السودان
لا يختلف اثنانِ، على أن الحرب الدائرة في السودان الآن، بدأت من يومها الأول حربًا إقليميَّة لا عاصمَ من اتساع رقعتها، مع تورّط دول ومنظمات وهيئات في الإقليم في لهيبِها المستعر، وتعمل كل هذه الجهات على تحقيق مطامعها وأهدافها، وتتخذ مواقفها المعلنة والمستترة، ونشأت تحالفات بينها. فقد أماط الاقتتال الضاري في أرض النيلَين اللثام عن حجم التهافت والتكالب الإقليمي والدولي على السودان وموارده وموقعه، وتم توظيف هذه الحرب لإحداث التحولات الجيوسياسية في المنطقة الأهم في أفريقيا جنوب الصحراء والقرن الأفريقي، والسيطرة على الموارد.
ظلَّ المسرح السوداني يتهيأ لهذه الحرب وضواريها وَفق مرئيات إستراتيجية جامحة، منذ ذهاب نظام البشير في الحادي عشر من أبريل/ نيسان 2019م، عندما انفتحت الشهية على أشدها، ونسجت الأطراف الدوليَّة تحالفاتها، وتشابكت الخطوط في الداخل، وعُقدت الصفقات مع بعض دول الجوار، وتحددت التوجهات طَوال الأربع سنوات الماضية، وعندما اندلعت الحرب سرعان ما تراصت الصفوف واصطفّت اصطفافًا مرتبًا، حيث تتخذ المواقف المطلوبة، ويُكشف المحجوب والمستور من تحالفات وتفاهمات إقليمية ودولية، وتُوضع كل أوراق اللعبة على الطاولة.
من الممكن قراءة مواقف دول الجوار السوداني، وَفق معيار واحد، وهو نوع وحجم وشدّة الشراهة في ربح المصالح والمطامع ما بين مكوّنات الداخل والخارج.
غني عن القول؛ إن عوامل الجغرافيا – بما في ذلك موقع السودان في القارّة، والطمع في الموارد الطبيعية، وموجبات منظومتي الأمن الإقليمي والدولي، والتوازنات السياسية في المنطقة- لعبت دورًا في قدح نار الحرب وتأجيجها وإطالة أمدها، حتى تحقق أهدافها في دولة كانت أكبر البلدان الأفريقية والعربية، ولا تزال ضمن الدول الكبرى في المساحة حتى بعد انفصال جنوب السودان.
تتلخص مواقف دول الجوار السوداني واتجاهاتها فيما يلي:
إريتريا
ظلّ التوجس من قوات الدعم السريع قائمًا لدى الرئيس أسياس أفورقي منذ العام 2015م، بعد مشاركتها في حرب اليمن ودورها في معارك دارفور ضد الحركات المتمردة آنذاك. فعند زيارة قائد الدعم السريع اللواء محمد حمدان دقلو إلى مدينة كسلا في معية والي الولاية الجديد آدم جماع في يونيو/ حزيران 2016م، أثيرت تساؤلات في إريتريا حول مغزى مشاركة قائد الدعم السريع في احتفالات الولاية؛ هل توجد رغبة من الخرطوم في تمدد هذه القوات شرقًا والعمل على تجنيد أبناء قبائل الشرق في صفوفها؟ وأبدى أكثر من مسؤول إريتري مخاوفَ في زيارات متكررة للخرطوم، خاصة بعد تدهور العلاقات بين البلدين، وإغلاق الحدود بقرار من السودان في عام 2016م.
لكن سرعان ما تبددت المخاوف الإريترية نوعًا ما بعد عودة العلاقات إلى طبيعتها، وعندما أصبحت قوات الدعم السريع تشارك في مكافحة الهجرة غير الشرعية للهاربين من دول القرن الأفريقي عبر حدود إريتريا وإثيوبيا إلى ليبيا، ثم عبر البحر الأبيض المتوسط إلى دول الاتحاد الأوروبي. وقد بذلت الخرطوم جهدًا في طمأنة الجانب الإريتري. عقب التغيير في 11 أبريل/ نيسان 2019 ورحيل البشير، ووصول قائد الدعم السريع إلى موقع الرجل الثاني في الدولة، تهيأت الظروف لعلاقة مباشرة لحميدتي مع الرئيس الإريتري.
جرت لقاءات بينهما في العاصمتَين، وكان الإقليم داعمًا للتغيير في السودان بجانب دول الخليج التي عمل بعضها على تشجيع نوع من التفاهم بين إريتريا والدعم السريع. في الوقت نفسه، كانت لدى أسمرا علاقات جيدة مع قيادة الجيش في السودان، وتوجد ملفات أمنية وسياسية تحكم مسار هذا التفاهم.
حاولت بعض الدول الإقليمية بناءً على علاقاتها مع إريتريا دمج قضية الدعم السريع كملف نشط بينهما، بالإضافة إلى ملف حرب إقليم تيغراي الإثيوبي والدور الإريتري فيها. تمت محاولات للاستثمار من قبل الدعم السريع في إريتريا، حيث تعاونت إريتريا مع بعض الدول في إنشاء مركز لتجميع وعبور بعض قوات الدعم السريع التي شاركت في حرب اليمن عبر موانئ إريتريا.
قبل شهر واحد من اندلاع الحرب، قام حميدتي، بزيارة إلى إريتريا في 13 مارس/ آذار 2023، وذلك في ظل تصاعد التوتر وإشارات الحرب وعمليات التحشيد. خلال اجتماعه مع أسياس أفورقي، شنّ هجومًا قاسيًا على الفريق عبد الفتاح البرهان، والجيش السوداني، وألمح إلى نية تنفيذ عمل عسكري حاسم إذا لم يوقع الجيش بقيادة البرهان على الاتفاق الإطاري بصيغته النهائية. ردّ أفورقي بعدم الدخول في هذه المغامرة الخاسرة، وأكد أن الأمور ليست سهلة في الجيش السوداني.
وبالرغم من سخرية حميدتي من الجيش وانتقاده له، إلا أن أفورقي أنهى اللقاء بنصيحة له بعدم المخاطرة بهذه الخطوة المدمرة، وذلك في مصلحة حميدتي أولًا، ومن ثم في مصلحة السودان.
عندما اندلعت الحرب، أعلنت إريتريا موقفًا واضحًا يدعو إلى وقف الحرب، ومنع تصاعد الصراع.
أعلنت أسمرا عن دعوتها إلى وقف الحرب ومنع تصاعد النزاع وعدم تدويل الصراع، وأكدت ضرورة مساهمة الدول المجاورة للسودان بشكل إيجابي في إيجاد حلول تضمن سلامة التراب السوداني. كما تسلط إريتريا الضوء على شرق السودان والعلاقات الثقافية والقبلية والروابط التاريخية بين البلدين، وتأخذ في الاعتبار تداعيات النزاع السوداني على منطقة القرن الأفريقي.
في الآونة الأخيرة، تعززت علاقة إريتريا مع مجلس السيادة والحكومة والجيش السوداني، حيث تم التنسيق في العديد من القضايا والملفات. يمكن أن تشهد الفترة المقبلة تطورات مهمة في منطقة القرن الأفريقي؛ بسبب النزاع الصومالي الإثيوبي وزيارة الرئيس الصومالي لإريتريا قبل أيام. لذا ستجد إريتريا نفسها وسط صراعات معقدة، وقد تضطر إلى إعلان مواقف قد تؤثر على الوضع في السودان.
إثيوبيا
منذ أبريل/ نيسان 2019 وحتى اندلاع الحرب في أبريل/ نيسان 2023، دخلت إثيوبيا في علاقة استثمارية ومالية وثيقة مع الدعم السريع. بدأت هذه العلاقة بالاستثمارات التجارية والودائع المالية الكبيرة، وتجلى هذا التعاون في العديد من الجوانب، بدءًا من الدعم السياسي وصولًا إلى التعاون متعدد الاتجاهات. في عام 2020، تم استيعاب 12 جنديًا من الدعم السريع للتدريب على الطيران في إثيوبيا، كما تم تسجيل عدة شركات تابعة للدعم السريع في أديس أبابا في العام نفسه.
شملت هذه العلاقة أيضًا الاستثمار في المشروعات العقارية، حيث اشترت "الدعم السريع" مستشفى إثيو تبيب (Ethio-Tabib hospital) وشرعت في توسيع أعمالها في مشروعات استثمارية عقارية. بالإضافة إلى ذلك، قامت الدعم السريع بشراء سلسلة منتجعات كُرفتو (Kuriftu) في مناطق متنوعة في إثيوبيا، وشملت الصفقة أيضًا منتجعًا فاخرًا يُعرف باسم "آللالا – Allala resort" في مدينة أواسا بجنوب إثيوبيا.
تشير مصادر إثيوبية إلى أن الأموال التي تم استثمارها في هذه المشروعات في العامين 2020 و2021 بلغت في المرحلة الأولى 100 مليون دولار. كما هناك دراسات مستقبلية لمشروعات عقارية وفنادق، بالإضافة إلى عمليات شراء أسهم في بعض المؤسسات الأخرى.
لذلك، عندما نشبت المواجهات المسلحة في منطقة الفشقة السودانية على الحدود مع إثيوبيا، وشاركت مكونات القطاع العسكري مثل الجيش والحركات المسلحة في الدفاع عن الفشقة، رفضت قوات الدعم السريع المشاركة في الدفاع عن الأراضي السودانية. يبدو أن ذلك يعود إلى تورط إثيوبيا في مشروع مشترك في المنطقة، الأمر الذي قد يمنع الدعم السريع من إرسال قوات لحماية المنطقة.
على الرغم من ذلك، ذكرت تقارير دبلوماسية غربية أن آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، لم ترُق له فكرة طرحها عليه محمد حميدتي خلال زيارته إلى إثيوبيا في منتصف العام 2021. الفكرة كانت تتعلق بتدخل قوات الدعم السريع لصالح الحكومة الإثيوبية والمشاركة في مطاردة ومحاربة مليشيات "فانو" ومجموعات "الأمهرة" العسكرية. وقد اعتبر آبي أحمد أن هذه الفكرة غير محبّذة وغير مقبولة، حيث اعتبر أن الجيش الإثيوبي قادر على التعامل مع هذه المسألة بمفرده، وأنها تعتبر مسألة سيادة وطنية تخصّ إثيوبيا.
بالنسبة للموقف الإثيوبي من القوات المسلحة السودانية، فمنذ عهد البشير، كانت هناك اتهامات إثيوبية لاستخبارات الجيش السوداني بدعم جبهة التيغراي. ولكن خلال الفترة الأخيرة، تراجعت هذه الاتهامات مع استمرار القلق الإثيوبي.
هناك عدة تيارات داخل الحكومة الإثيوبية تدعو إلى علاقة طيبة مع السودان وعدم التصعيد. ومع ذلك، يبدو أن التيار الغالب حاليًا ينحاز إلى التوجهات الإسرائيلية تجاه السودان.
من الواضح أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد يؤكد حق السودانيين في التواجد في عاصمة إثيوبيا، أديس أبابا، وممارسة الأنشطة السياسية المدنية. ومع ذلك، يشير إلى أن أي تحول لهذا التواجد إلى أعمال عدائية مسلحة، سيتم وقف هذه الأنشطة وطردها على الفور. هذا يعكس استعداد إثيوبيا للسماح بوجود سياسي سوداني في العاصمة، دون التسامح مع أي أعمال تهدد الأمن والاستقرار.
من ناحية أخرى، يشير الدعم غير المحدود للتمرد وأعوانه، والضغط السياسي من قبل إثيوبيا ودول أخرى على مفوضية الاتحاد الأفريقي وتعزيز مواقفها المتشددة تجاه السودان – إلى التورط المحتمل لإثيوبيا في دعم العناصر المعارضة للحكومة السودانية. قد يشمل هذا التورط تقديم الدعم المادي أو اللوجيستي أو الدعم السياسي.
من الجدير بالذكر أن موسى فكي رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي ومدير مكتبه محمد ولد لبات يمكن أن يكون لهما دور في محاولة تسوية النزاع أو التدخل في المسائل المتعلقة بالسودان. وقد يكون هذا تحالفًا ممكنًا مع إثيوبيا في الوقت الحالي.
خلال زيارة قائد التمرد إلى أديس أبابا يوم 28 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تبدَّى حجم الاستقبال الرسمي الكبير الذي جرى له بمطار أديس أبابا، وفي لقائه رئيس الوزراء الإثيوبي في مبنى البنك التجاري الإثيوبي، حيث أودع حميدتي خلال هذه الزيارة مبالغ مالية في البنك التجاري الأثيوبي Ethiopian commercial bank ECB.
من الجدير بالذكر أن توقيع اتفاق بين حميدتي ورئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك ومجموعته من تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، يمكن أن يكون له تأثير كبير على المشهد السياسي في السودان. تفاصيل هذا الاتفاق والتزامات الأطراف المتعاقدة ستكون مهمة لمستقبل السياسة في البلاد.
خلاصة القول إن الموقف الإثيوبي الذي يعبر عنه رسميًا أنه مع مبادرة "الإيغاد" وإيجاد حل سلمي للنزاع في السودان وحرص إثيوبيا على الحل السياسي إلا أن السودان وأطرافًا أخرى في جوار السودان وقوى إقليمية ودولية ترى أن الموقف الإثيوبي متطابق مع دعم التمرّد، ويفتح الباب على مصراعيه في سبيل تقوية شوكة المتمردين.
بجانب ذلك لا يساورُ المراقبين في القرن الأفريقي شكٌّ في أن استقبال إثيوبيا أحدَ قادة المتمرّدين في منطقة النيل الأزرق ( جوزيف تكة – قائد عسكري منشق على مالك عقار رئيس الحركة الشعبية ونائب رئيس المجلس السيادي)، وترتيب زيارة مشتركة له مع عبد العزيز الحلو قائد الحركة الشعبية "شمال" إلى أبوظبي وقبول مقترح إنشاء مطار ترابي قرب الحدود السودانية – الإثيوبية في مناطق (يابوس)، ثم التراجع عنه مؤقتًا، هو خطوة تصعيدية غير محسوبة النتائج، ربما تكون عواقبها وخيمة على المنطقة الحدودية، خاصة أن عناصر جوزيف تكة المتواجد هناك، غير مرحب بها في إقليم بني شنقول والجبهة الإثيوبية المعارضة للحكم في أديس أبابا، فأي معارك هناك أو توترات أمنية تهدد موقع سد النهضة الإثيوبي، ولا يمكن أن تخاطر الحكومة الإثيوبية بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق