عن اللفياثان المصري أو "الدولة التنين"
كتب الفيلسوف البريطاني توماس هوبز (1588-1679) كتابه الأشهر "اللفياثان" أو "التنين" الذي شرح فيه نظريته عن الدولة والعقد الاجتماعي. ودافع هوبز عن ضرورة وجود سلطة مطلقة من أجل تفادي الوقوع في الحرب الأهلية.
وكانت المعادلة التي جاء بها هوبز بسيطة وهي أنك كمواطن تتنازل عن جزء من حقوقك وحرياتك مقابل الحفاظ على أمنك وسلامة حياتك. لكن أخطر ما جاء به هوبز أنه منح الدولة والحاكم سلطة مطلقة لا يقيّده فيها أحد انطلاقا من أنه تجسيد لإرادة المجموع وسيادتهم التي تنازلوا عنها لصالحه. وأنه لا يمكن ولا يجوز لأحد أن يقاوم هذه السلطة؛ وإلا فإنه يخاطر بأمنه وسلامته وحياته. وهو ما أعطى الملوك وقتها سلطة مطلقة لا يمكن أخذها منهم وإلا ودخل المجتمع في حالة احتراب أهلي.
"اللفياثان" هو تنين جامح لا يرتبط بأي نوع من أنواع العقد الاجتماعي، وليس على استعداد للدخول في أي مفاوضات أو صفقات مع المجتمع من أجل إعطائه قدرا -ولو قليلا- من حقوقه والاعتراف بحرياته الأساسية. هو "لفياثان" أعمى لا يرى إلا نفسه، ولا يكترث إلا بمصالحه وأهمها البقاء والهيمنة والتسلّط ولو على حساب الأفراد والمجتمع
لا نعرف ماذا كانت عليه نوايا هوبز حين كتب "اللفياثان"، وإن كنّا نعرف أنه كان من أنصار الملكية المطلقة، وأن فلسفته لعبت دورا مهما في التمهيد لنظرية "العقد الاجتماعي" التي طورّها لاحقا فلاسفة ومفكرون آخرون أبرزهم الفيلسوف الإنجليزي جون لوك والفرنسيَين جان جاك روسو وشارل مونتسكيو. وهي الفلسفة التي حرّرت أوروبا من ربقة الاستبداد، وأعادت بناء العلاقة بين الدولة والفرد والمجتمع على أسس متوازنة جعلت المواطن هو السيّد والدولة خادمة عنده، وذلك للمرة الأولى في التاريخ الأوروبي الحديث.
بيد أن أطروحة "هوبز" لم تعرف التطور الذي عرفته في أوروبا خارج حدودها، وذلك باستثناء التجربة الأميركية. بل على العكس من ذلك، فقد تسببت أطروحته، في صيغتها الأولية الخام، في تبرير الاستبداد في أكثر من مكان، وذلك تحت ذريعة تحقيق الأمن مقابل الحرية. وهي الأطروحة التي تُرجمت لاحقا في شعار "إما أنا أو الفوضى" الذي اعتمدت عليه -ولا تزال- الأنظمة السلطوية خاصة في العالم العربي.
في مصر تحديدا فإن "اللفياثان" أو "الدولة التنين" كانت أكثر ضراوة وتوحشا واستبدادا من ذلك الذي تحدث عنه هوبز في كتابه. هو تنين جامح لا يرتبط بأي نوع من أنواع العقد الاجتماعي، وليس على استعداد للدخول في أي مفاوضات أو صفقات مع المجتمع من أجل إعطائه قدرا -ولو قليلا- من حقوقه والاعتراف بحرياته الأساسية. هو "لفياثان" أعمى لا يرى إلا نفسه، ولا يكترث إلا بمصالحه وأهمها البقاء والهيمنة والتسلّط ولو على حساب الأفراد والمجتمع.
بدأ "اللفياثان" الحديث في مصر مع محمد علي الذي أنشأ دولة قاهرة متغلبّة لا ترى المجتمع ندا لها، وإنما خصما يجب قهره وقمعه واستغلاله. وهي دولة لا تعترف بأن للشعب حقوقا، وأن للسلطة حدودا لا يجب أن تتجاوزها في علاقتها بمواطنيها. وهي أيضا دولة تم بناؤها في مخيّلة شعبها باعتبارها كائنا متجاوزا للواقع والتاريخ، فأصبحت أقرب إلى "بقرة مقدسة" لا يجب أن تُمسّ، وإلا أصاب الجميع لعنة الفوضى وعدم الاستقرار والتفكك… إلخ.
وصحيح أن محمد علي وضع الأسس اللازمة لبناء دولة حديثة، ولكنها دولة خادمة للسلطة والسلطان، قاهرة للشعب والأفراد، متغلّبة عليهم بالقوة والقمع وليس بالرضا والتوافق.
سقط محمد علي أو أُسقط بعد معاهدة "لندن" عام 1840، ورحلت أسرته من السلطة، ومن مصر منتصف القرن الـ20، ولكنه ترك لنا وحشا أكثر ضراوة أو "لفياثانا" متوحشا امتطاه مجموعة من صغار العسكر المغامرين الذي استخدموه لفرض مزيد من القمع والقهر على المواطنين. وهو وحش مطيع لسيده فقط، يأتمر بأوامره، وينتهي بنواهيه.
لم يعد "اللفياثان" معمما، ولا يرتدي "الطربوش"، ولكنه ارتدى "البوريه" يحمل فوقه نسرا جارحا يقتنص كل من يخالفه أو يعارضه. امتطاه عبد الناصر ورجاله، ومن بعده السادات، وكذلك مبارك، ولم تفلح ثورة يناير/كانون الثاني في ترويضه فانقلب عليها والتهمها، وعاد مرة أخرى كي يمتطيه العسكر. وهو لا يزال على حاله تلك التي بدأت قبل قرنين من الزمن. وحش يركض خلف مواطنيه يرهبهم ويقمعهم ويخوّفهم حتى لا يثوروا عليه أو يفكروا في التخلص منه.
ولذلك فإن أي حراك شعبي أو انتفاضة مجتمعية لا تستهدف إسقاط هذا التنين ووأده وتشييعه إلى مثواه الأخير، فهي مجرد تضييع للوقت، واستهلاك للجهد، واستنزاف للنفس. ولن تتحرك مصر خطوة واحدة إلى الأمام ما دام هذا التنين موجودا ومهيمنا ومتسلطا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق