نتنياهو السيّئ في إسرائيل الطيبة
مدهشٌ أن يكون رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هو الشخص السيّئ جدًا في عيون بعضهم، ليس لأنّه رئيس حكومة احتلال ترتكب إبادةً جماعيةً بحقّ شعبٍ شقيق، بل لأنّه يقتل بعنف، وبوقاحةٍ سافرة، فيما المطلوبُ التعقل والهدوء في القتل والإبادة على نحوٍ يحقّق الهدف من دون إحراج لهم.
صار سيئًا لأنّه، بسلوكه الإجرامي، يعرّض الاحتلال الصهيوني والمنطقة ومسار التطبيع للخطر، بالإفراط في الخطاب الذي يروْنه متطرّفًاً، بينما هو في واقع الأمر التعبير الأمثل والتعريف الجامع المانع لأن يكون الشخصُ صهيونيّاً، لكونه يجسّد بوضوح أهداف الكيان وتطلعاته، بمختلف درجات ألوانه، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
يشيعون أنّ عبد الفتاح السيسي رفض استقبال مكالمة من رئيس حكومة الاحتلال، تعبيراً عن الامتعاض من سياساته "المتشدّدة" في تحقيق أهداف العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة، الذي ينظر إلى مأساته بوصفها مُثْلة لتخويف الشعوب من مصائر مشابهة إن فكّرت في التمرّد والغضب والاحتجاج على حكّامها ومحاولة صناعة تغيير ديمقراطي ينقلها من حالة القمع والفقر إلى براح الحرية والتنمية الحقيقية.
ينطق الواقع الإسرائيلي بأنّ ثمّة إجماعأً على حتمية استمرار العدوان على غزّة، ورفض إقامة الدولة الفلسطينية، والمضي في التوسّع الاستيطاني، وضرورة اجتثاث المقاومة الفلسطينية من جذورها، وضمان ألّا يبقى فلسطينيٌّ واحدٌ محتفظاً بحلم تحرير وطنه، لا يختلف نتنياهو في ذلك كله عن خصمه السياسي زعيم المعارضة، يائير لبيد، لكن الأخير يريد تحقيق ذلك كله مرتدياً القفازات الناعمة، فيما يريده نتنياهو وجنرالاته بأقصى درجات العنف والتدمير. حتى عائلات الأسرى الصهاينة، إذ تتظاهر مطالبةً بوقف القتال والذهاب إلى صفقات تبادل، فإنّها تريد وقف الحرب حتى استعادة أسراها، وبعدها تُستأنف عملية تدمير غزّة وإعادة احتلالها وطرد الفلسطينيين منها.
لم تتوقّف رياضة التزلج فوق التصنيفات العبثية لحكّام الاحتلال والتقسيم إلى صقور وحمائم على مدار ثلاثة أرباع القرن، وهي التصنيفات التي يسقطها في كلّ مرة واقعٌ صهيونيٌّ يقول إنّ مجتمع الاحتلال كلّه في حالة صقورية دائمة، حتى وإن تظاهر بعض سياسييه بأنهم حمائم، لأغراضٍ انتخابية أو تسويقاً لأنفسهم، دولياً وإقليمياً، باعتبارهم الأجدر بإدارة عملية التفاوض والتطبيع، والحال كذلك ليس ثمّة اختلاف جوهري بين "الليكود" و"العمل"، بين شارون وبيريز في مطلع الألفية، أو بين باراك ونتنياهو لاحقاً، أو بين الأخير ولبيد في اللحظة الراهنة، ذلك أنّ مجتمع الكيان كلّه ينظم علاقته بالشعب الفلسطيني على قاعدة "نحن أو هم"، وهي العبارة التي تسمعها من العسكريين والسياسيين والحاخامات منذ بدأ "طوفان الأقصى".
قد يكون صحيحًا أنّ السيسي رفض مهاتفة نتنياهو، لكن المؤكّد بالوقائع والتواريخ أنّ السيسي كان أوّل من تحمّس للشراكة مع نتنياهو، واعتبره الشريك النموذجي في صناعة وهم السلام في المنطقة، والثابت كذلك أنّ نتنياهو زار قصر الحكم سرًا في الفترة المبكرة من وصول السيسي إلى السلطة، وأنّ الشخصين التقيا سرًا في جنح الظلام بخليج العقبة قبل سنوات، وأنّه في عام 2016 كان للشخصين مكالمة هاتفية كلّ أسبوع، كما أنّ لقطات السعادة بأوّل لقاء معلن في نيويورك لا تزال في الذاكرة، كما أنّ حكومة نتنياهو في أثناء العدوان قرّرت التسامح في مستحقاتها المالية لدى نظام السيسي المتعلقة بصفقات الغاز.
ليس المعيارُ، إذن، إن كانت المكالمة الهاتفية أجريت أو ألغيت، فالمسألة ليست خصاماً عابراً بين صديقين وشريكين، سيمرّ مثل سحابة صيفٍ حال توقف العدوان، بل المعيار هنا امتحان عملي للقاهرة التي أعلنت رسميّاً التصدّي للاحتلال الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، وهنا يتجدّد السؤال: أين ما قيل عن مذكّرة قانونية مصرية ضد الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية؟ أين ما أعلنه رئيس هيئة الاستعلامات المصرية والناطق باسم الجنرال السيسي، السيد ضياء رشوان، إنّ مصر أرسلت ردّها على المزاعم الصهيونية بشأن معبر رفح؟ هل كان ذلك مجرّد بروباغندا إعلامية ودبلوماسية أمام الرأي العام العربي والمصري؟ هل كانوا صادقين أم كذبة؟
ما نعلمه أنّ محكمة العدل الدولية ستعلن قرارها بشأن محاكمة إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية اليوم (الجمعة) بعد جلسات قدمت فيها جنوب أفريقيا أدلتها وترافعت أمام هيئة المحكمة، من دون أن يأتي أحدٌ على ذكر الدفوع المصرية المعلنة بشأن إلقاء محامي الاحتلال مسؤولية مرور المساعدات من معبر رفح على الجانب المصري.
من حقّ شعب مصر الذي يحترق حزنًا على أشقائه في غزّة أن يقرأ نصوص مذكرة حكومته ضد الاحتلال، لكي يمكنه ابتلاع حكاية المكالمة المرفوضة، وغير ذلك سيبقى الوضع كما هو: تظاهر بمعارضة نتنياهو (الشرير) من أجل استمرار التطبيع مع إسرائيل (الطيّبة)، وكأنّ ما بين المحتل والشعب الفلسطيني عركة جيران، وليست معركة تحرير مقدّسة، تُبقى ما بقي الفلسطيني على قيد الحياة، مؤمناً بقضيته.
مرّة أخرى، هذه ثورة شعب بأكمله يريد التحرّر، والثورة، كما فلسطين، هي القضية المؤجّلة طوال الوقت للأجيال المقبلة، هذا ما يدركه الطغاة والمحتلون فيصيبهم الرعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق