الحروب الصليبية
استمرت الحروب الصليبية ما يقرب من مائتي سنة، حتى تمكن المسلمون أن يطردوا الصليبيين بشكل كامل، لكننا نقف مشدوهين أمام معلم أساسي هو سرعة صعود الأمة الإسلامية في سلم الانتصار وفرض التراجع على القوى الصليبية، إذ حدث ذلك بعد أربعين سنة تقريبًا، حينما احتل عماد الدين الزنكي قلعة الرها التي كان احتلالها إيذانا بانتهاء الهبوط وبداية الصعود للأمة الإسلامية وعلى العكس ببداية الهبوط وانتهاء الصعود بالنسبة للقوى الصليبية.
ما السبب في ذلك؟ السبب هو الصفات التي اتصفت بها الدول التي جاءت استجابة للاحتلال الصليبي.
الدولة المواجهة للصليبيين:
تشكلت عدة دول بعد الاحتلال الصليبي للقدس عام 1099م، منها: الزنكية، والدولة الأيوبية، ثم دول المماليك، لكنها كانت تتصف جميعها بصفات مشتركة أهلتها للانتصار، وأبرز هذه الصفات هي:
1- النزعة التوحيدية:
لقد كانت هذه النزعة التوحيدية موجودة عند بعض القادة قبل أن يستطيعوا أن يشكلوا دولاً ومن هؤلاء قطب الدين مودود أتابك الموصل، سلف عماد الدين الزنكي، فقد اجتمعت جيوشه مع جيوش طغكتين أتابك دمشق مع جيوش أمير سنجار، والأمير إيازين إيلغازي سنة 507هـ / 1113م، بالقرب من طبرية، وتم تدمير الجيش الصليبي تمامًا، ومما خفف من قيمة الانتصار العسكري، اغتيال مودود أتابك الموصل في ربيع الثاني/أكتوبر 1113م، على يد أحد الباطنية، ثم موت رضوات أمير حلب مما خفف وطأة الهجوم على جبهة الشمال.
ثم برر عماد الدين الزنكي عام 521هـ/1127م، حاكمًا للموصل، ثم حكم حلب 522هـ، ثم استولى في العام التالي على حماة، ثم استولى على حمص 532هـ/1143م، ثم انتزع (الرها) من أيدي الصليبيين عام 1142م، بعد حصار دام ثمانية وعشرين يومًا، وكان سقوطها صدمة نفسية مؤلمة للصليبيين في كل مكان لأنها كانت أول إمارة صليبية تقوم على الأرض الإسلامية، وكان هذا الانتصار بداية النهاية للصليبيين.
خلف نور الدين الشهيد والده عماد الدين الزنكي إثر اغتيال الأخير على يد الباطنية 1146م، وسار على نهج والده في توحيد البلاد الإسلامية وكانت دمشق هي البلد الوحيد الخارج عن نطاق التوحيد شمال الخلافة الإسلامية، وكان حاكمها معين الدين أنر يمثل عقبة في وجه جهود نور الدين محمود، وفي كل مرة كان يظهر فيها نور الدين محمود أمام أسوار مدينة دمشق كان الصليبيون يهبون لنجدتها، ثم عقد تحالفًا ضعيفًا معها بعد موت حاكمها، إلا أنه استطاع أن يدخلها في النهاية برغبة أهلها الذين سئموا ظلم حاكمهم.
وهكذا استطاع نور الدين محمود أن يوحد الجبهة الشرقية، ثم اتجهت أنظاره إلى مصر، وكانت تحكمها الخلافة الفاطمية، وتسابق في الوصول إليها مع الصليبيين، واستغل المنازعات الداخلية، فأرسل أسد الدين شيركوه وبرفقة شاب في السابعة والعشرين من عمره هو ابن أخيه صلاح الدين يوسف الأيوبي، الذي خلف أسد الدين شيركوه في الوزارة بعد وفاته 564هـ/1169م، ثم استطاع صلاح الدين أن يلغي الخلافة الفاطمية ويلحق مصر بالخلافة العباسية، وذلك عام 567هـ/1171م.
وهكذا توحدت كل من بلاد الشام والعراق والجزيرة ومصر تحت راية واحدة، ثم حدثت معركة حطين في 4 يوليو 1187م، التي كانت مقدمة لأخذ القدس من الصليبيين في 2 أكتوبر 1187م، وسارعت بعد ذلك المدن والقلاع الصليبية إلى الاستسلام لصلاح الدين فلم يبق في أيدي الصليبيين إلا بعض مدن محدودة هي صور، أنطاكية، طرابلس، وهكذا تأكدت نهاية الحروب الصليبية، كثمرة لعملية التوحيد التي قامت بها الدولتان: الزنكية والأيوبية.
2- الاستقلال السياسي والاقتصادي:
لقد جاءت الدولة الزنكية استجابة لحاجة الأمة في مواجهة الهجوم الصليبي الكاسح، وقد بدأ الالتفاف حولها، وكانت قيادة هذه الدولة الزنكية مستقلة في قرارها، وكان أفقها الأمة ومصالحها، وكان المرجع الوحيد الذي ترجع إليه هو الخلافة العباسية على ضعفها، وكذلك كان صلاح الدين الأيوبي، يعلم الخلافة ببعض تصرفاته حينا، ويستشيرها حينا آخر، وفي إحدى المرات عام 570ه، كتب إلى الخليفة العباسي في بغداد يعدد فتوحاته وجهاده ضد الفرنج، وإعادته الخطبة للخلافة العباسية، وطلب من فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله بالتشريف والأعلام السود وتوقيع بسلطنة مصر والشام وغيرها.
أما في المجال الاقتصادي فقد ذكرت كتب التاريخ أن الدولتين الزنكية والأيوبية كانتا دولتي حرب، وقد صيغ الاقتصاد ليكون في خدمة الدولة الحربية، فبعد أن كان الإقطاع الإداري هو السائد في الدولة السلجوقية سلف الدولة الزنكية، أصبح الإقطاع العسكري هو النمط الاقتصادي المتبع لدى الدولتين الزنكية والأيوبية، وهو الأنسب لتجييش الجيوش، المرحلة مواجهة الصليبين، فقد اعتمد عماد الدين الزنكي على قوته العسكرية الخاصة، وربط الإقطاع بالخدمة العسكرية وولائه الشخصي وبذلك نجح في تحقيق انتصاره على الصليبين في الرها عام 1144م، وأصبحت الإقطاعات وراثية في عهد نور الدين محمود، وكانت هناك سجلات تبين عدد الرجال والعتاد الذين كان على كل أمير صاحب إقطاع أن يقدمهم الجيش نور الدين محمود، واستمر صلاح الدين الأيوبي على نهج نور الدين محمود وأبقى الإقطاعات الوراثية وقد ارتكز الإقطاع على الأرض الزراعية.
وكان يمنح صلاح الدين رواتب نقدية وعينية لصغار الجنود والفرسان الذين لا يأخذون إقطاعات زراعية، وكان من حق السلطان عزل أي أمير عن إقطاعه العسكري في حال التقصير في أداء الواجبات العسكرية في الجهاد ضد الصليبين، لذلك يتعين أن نعتبر هذه الصورة من التنظيم الإقطاعي تقوية للسلطة المركزية، وإحكاماً لسيطرة السلطان على الأمراء التابعين له تحت وطأه العزل والحرمان من الإقطاع.
3- ترسيخ القيم الدينية:
ليس من شك بأن زيادة العلم بالدين يساهم في قوة الأمة، ويساعدها في مواجهة الأحداث، لذلك قام قادة الدولتين الزنكية والأيوبية بإنشاء المدارس الدينية التي تدرس مختلف العلوم الدينية في بيت المقدس، والشام، والقاهرة، والإسكندرية، وقام العلماء والفقهاء الذين تخرجوا من هذه المدارس بشحن روح الحماسة في نفوس المسلمين للدفاع عن بلادهم ودينهم ضد الصليبين، وقربت القيادات السياسية القيادات الدينية إليها، وضمتها إلى حاشيتها، وصرفت لها الأموال، وقد برز إلى جانب صلاح الدين الأيوبي بعض العلماء كالقاضي الفاضل، وعماد الأصفهاني والقاضي بهاء الدين بن إلخ… وقد اتصف صلاح الدين الأيوبي بشكل خاص بأنه كان محباً لعلوم الدين حريصاً على سماعها، لذلك كان يحضر دروس العلماء ويستمع إليهم في حلقاتهم العلمية.
إن هذه القواعد والتوجهات التي أدت إلى الانتصار والتي أشرنا إليها سابقاً، وهي: النزعة التوحيدية، والاستقلال السياسي والاقتصادي وترسيخ القيم الدينية، مازالت عوامل فاعلة تحتاجها الأمة -الآن- من أجل تسديد مسيرتها، وتحقيق الانتصار على الصهاينة في فلسطين، فهي بحاجة إلى الوحدة، وهي بحاجة إلى أن تسخّر الاقتصاد للمعركة وبنائه على حاجات الجهاد، وهي بحاجة إلى زيادة الوعي الديني وتعميق الإيمان من أجل إذكاء روح الجهاد وتوسيع حجم التضحيات بالمال والدم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق