الثلاثاء، 5 مارس 2024

اللحظات الأخيرة ليزَن الكفارنة

اللحظات الأخيرة ليزَن الكفارنة

يوسف الدموكي  

@yousefaldomouky

صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما 

في كلية الإعلام بجامعة مرمرة

هيكل عظمي، وجلدٌ على عظم، قل ما شئتَ أن تقوله عنّي، تلك هي صورتي الحقيقية التي تحاول الهروب منها بالكلام أو بالصمت على حدٍّ سواء، وذلك هو المشهد الأخير لي (أنا يزن الكفارنة) في تلك الحياة الظالمة؛ عشر سنوات عشتها مشلولًا دماغيًّا، لي وجبات خاصة، واحتياجات خاصة، وحياة خاصة كذلك، ودائمًا ما كانت فرصي أقل في المعيشة، والحياة، فما بالك لو كانت في وقتٍ يُظلَم فيه العامة، ويُباد فيه الجميع، من أنا لتكون لي خصوصيتي؟ ذلك المشهد، أيقونة جديدة، مجرّد إطار سيضاف للصور التي على هواتف العاجزين المعجَّزين، الباكين ليل نهار، بصدق، علينا.

كنتُ لا أريد سوى وجبةٍ في اليوم لأعيش، سوى مكمّلات غذائية تبقيني على قيد الحياة، سوى ماء وغذاء مناسبَين، على الأقل، لتبقيني ميتًا، بصورة لا تكون بتلك البشاعة، بوفاةٍ أكرم من تلك التي تتنازع فيها الكاميرات عليّ، منتهكةً موتي كما انتهكت حياتي، ليس من أجل سبقٍ صحافي، ولا غرض وظيفي، ولكن لعلها تُوقظ ضميرًا من سباته، فيمنع مصرعَ المزيد، لكنّ ذلك أيضًا لم يحرّك ساكنًا، ولم يغيّر متحركًا تجاه قتلي.

لم أكن أرجو حياةً عريضة، ممتلئةً بما يلبّي حاجتي، ويكفي حالتي، ويغنيني عن غيري، وإن كانت تلك الحياة من حقي، وإنّما رجوتُ حياةً أطول بقليل، إن متّ فيها سيكون من مرضي، أو انقضاء أجلي القصير، ولكن، أرجوكم، ليس جوعًا، أرجوكم، ليس عطشًا، أرجوكم، ليس بهذه الكيفية والطريقة والشكل، أرجوكم، ليس "بالتريند" على مواقع التواصل، أرجوكم، موتة هادئة، على الأقل، بما أنّ الحياة كانت صاخبةً بشكل لا يصدّق، لدرجة طنين الأذن الدائم بأصوات الصواريخ.

طالما تمنيت وفاةً أكرم من تلك التي تتنازع فيها الكاميرات عليّ، منتهكةً موتي كما انتهكت حياتي    

سمعتُ قبل موتي، عن تلك الإنزالات الجوية، والإسقاطات الرهيبة العجيبة، وقلتُ لو أنّ أحد الصناديق فقط، يبعث لي بحاجتي، لو كان لي صندوق واحد بينها، ولكن، من يهوى الاستعراض لن يهتم بالتفاصيل، ثم هَب أنّها سقطت، من كان سيحملها سوى انتحاريٍّ يمشي إلى مصرعه؟ ذلك إن نجا الصندوق من مياه البحر، وتلاطم الأمواج، ورصاص الاحتلال؛ تلك المسرحية المعدّة مسبقًا، لم تتضمن أيّ فصل، ولا مشهد، ولا صفقةٍ، ولا تصفيقة، تخصّني، ولستُ الوحيد، بل أقصد مليون طفل جائع، يلهث آلاف منهم كلّ يوم خلف فقاعات وهمية تهبط من السماء، وبرفقتها، صواريخ تفتّت تلك الأجساد الهزيلة جميعًا، وتلقي عظامهم في كلّ مكان، لا لحومهم، لأنهم مثلي، جلدٌ على عظم.

ذلك العالم الخبيث، وهذا الطوق الماكر المخادع الذي يخنقنا كلّ يوم، وذلك الحصار الجائر، من العدو والمجاور، كلّ الحكومات المتواطئة، كلّ من يضعون أيديهم في أيدي الاحتلال، كلّ من تمتلئ خانة الاتصالات الواردة في هاتفه، أو هاتف قصره، بأرقام دولية قادمة من تل أبيب، كلّ أصحاب المصالح، والمنافع، الذين يأكلون على الموائد أطعمتهم الخاصة، من دماء وأجسام شعوبهم الحيّة، بينما يبخلون عليّ، ويمنعون عني، وجبةً خاصةً واحدةً في اليوم، كلّ أولئك شركاء في قتلي، وتلك الشعوب العاجزة (في معظمها) مثلي، الملتصقة جلودها بعظامها فقرًا وسجنًا وقمعًا، قد لا ألومهم هذه المرّة، بقدر ما سأصب لعناتي على قاتليّ، الذين اجتمعوا على جثّة طفل صغير مشلول قعيد عاجز، وبدؤوا خطَبهم، وكتبوا على صناديق وهمهم: "إلى الأشقاء في غزّة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق