هل أصبح عصر مبارك تاريخا أم تجريبا؟
علمنا التاريخ أنه يصعب على المؤرخ -وعلى المثقف والمفكر كذلك- أن ينظر نظرة كلية ثاقبة إلى عصر من العصور إلا بعد مضي أعوام كافية على هذا العهد.
ونبدأ فنقول إنه ربما كان من حق المثقف أن يصدر أحكاما سريعة على العهد الذي عاشه، فهو ليس مطالبا بالتأني، ولن يضيف التأني إليه إلا فقدان الشعور والذاكرة والموقف تجاه العصر الذي يعنيه، وهو ما يتجلى في قول المثقف العادي إذا سألته عن عهد السادات؟ لقد بعُد العهد به، أو أين نحن وعهد السادات؟
يقصد بذلك أن الزمن قد تباعد بحيث فقدنا المعرفة. وهكذا تتوالى مثل هذه التعليقات المقدرة التي لا يمكن إنكار أنها هي المسيطرة على مثل هذا الموقف المعرفي أو الوجودي من باب أولى.
أما المفكر أو الذي يبحث عن الحقيقة عن طريق الفكر، فإنه قد يصل إلى رأي مختلف، وقد يذهب إلى القول إن من حقه أن يتثبت وأن يتدبر في ما حدث، وأنه ليس مشتريا سلعة طازجة (من قبيل السلطة الخضراء)، ولذا لا بد له أن يفحص تاريخ صلاحيتها ويحكم على مناسبتها، فهو يتأمل الشيء بعد انقضاء زمن البهرجة وبعد الخلاص من تأثيره الوقتي والراهن، وبعد البعد عن المشاعر الانفعالية التي تعبر عن الحب أو الكراهية والإعجاب أو الازدراء والانبهار أو الاحتقار.
في مقابل هذين الموقفين شبه المتباينين، فإن موقف المؤرخ يبدو جد مختلف لأنه يجد نفسه مطالبا بأن يقدم تاريخا، فإن لم يكن قادرا على تقديم تاريخ، فهو مطالب بأن يقدم رؤية تاريخية، فإن لم يكن فإن عليه أن يقدم مدخلا تاريخيا، وسيكون لعمله حتى وإن كان ضئيلا أو ضيقا فائدة متحققة.
ونبدأ فنقول إنه ربما كان من حق المثقف أن يصدر أحكاما سريعة على العهد الذي عاشه، فهو ليس مطالبا بالتأني، ولن يضيف التأني إليه إلا فقدان الشعور والذاكرة والموقف تجاه العصر الذي يعنيه، وهو ما يتجلى في قول المثقف العادي إذا سألته عن عهد السادات؟ لقد بعُد العهد به، أو أين نحن وعهد السادات؟
يقصد بذلك أن الزمن قد تباعد بحيث فقدنا المعرفة. وهكذا تتوالى مثل هذه التعليقات المقدرة التي لا يمكن إنكار أنها هي المسيطرة على مثل هذا الموقف المعرفي أو الوجودي من باب أولى.
أما المفكر أو الذي يبحث عن الحقيقة عن طريق الفكر، فإنه قد يصل إلى رأي مختلف، وقد يذهب إلى القول إن من حقه أن يتثبت وأن يتدبر في ما حدث، وأنه ليس مشتريا سلعة طازجة (من قبيل السلطة الخضراء)، ولذا لا بد له أن يفحص تاريخ صلاحيتها ويحكم على مناسبتها، فهو يتأمل الشيء بعد انقضاء زمن البهرجة وبعد الخلاص من تأثيره الوقتي والراهن، وبعد البعد عن المشاعر الانفعالية التي تعبر عن الحب أو الكراهية والإعجاب أو الازدراء والانبهار أو الاحتقار.
في مقابل هذين الموقفين شبه المتباينين، فإن موقف المؤرخ يبدو جد مختلف لأنه يجد نفسه مطالبا بأن يقدم تاريخا، فإن لم يكن قادرا على تقديم تاريخ، فهو مطالب بأن يقدم رؤية تاريخية، فإن لم يكن فإن عليه أن يقدم مدخلا تاريخيا، وسيكون لعمله حتى وإن كان ضئيلا أو ضيقا فائدة متحققة.
يجد المؤرخ نفسه مطالبا بأن يقدم تاريخا، فإن لم يكن قادرا على تقديم تاريخ، فهو مطالب بأن يقدم رؤية تاريخية، فإن لم يكن فإن عليه أن يقدم مدخلا تاريخيا، وسيكون لعمله حتى وإن كان ضئيلا أو ضيقا فائدة متحققة |
ومهما ضاق المدخل الذي سيقدمه، فإنه بحكم كونه متصلا بالتاريخ الذي يبحث الناس عنه، سيفتح لهم طريقا إلى القراءة أو الفهم أو التحليل أو التعقيب أو ربط الحوادث والأحداث وترتيبها ومحاولة تحليلها.
ومن الإنصاف هنا أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن طائفة القراء في كل حضارة تدرك مثل هذه الفروق وهذه السمات الثلاث للأعمال التي تقرؤها على أنها تاريخ أو أنها مقدمة لدراسة التاريخ، ولهذا فإن من عادة القراء الأذكياء أن يقولوا إن فلانا المفكر تعجل في كتابة ما كتب عن العصر الذي عاشه، ومن عادة القراء الأذكياء أن يقولوا أيضا إن فلانا المؤرخ تكاسل عن تأريخ الحقبة التي عاشها، أو إن فلانا (المثقف) معذور لأنه كتب ما كتب من كتابة حافلة بالحماس أو الاندفاع في ظل آنية الحدث، ولم يكن من الممكن له أن يكتب بأعصاب هادئة ولا بعقل بارد.
ومع أن ما بلورناه في الفقرات السابقة يبدو أقرب إلى التنظير منه إلى الواقع، فإن التاريخ المصري المعاصر قد شهد كثيرا من الوقائع التي تدل دلالة واضحة على أن عامة المصريين عاشوا تجربتهم السياسية بعيون مفتوحة ومتفتحة، وإن صعب على هذه العيون أن ترى أجزاء كثيرة من الحقيقة، بسبب ظروف كثيرة كانت أقسى بكثير من الواقع الذي عاشه المصريون.
وحتى لا نوغل أو ننزلق في الوصف النظري للواقع المعلوماتي الصعب الذي عاشته الجماهير، فإننا سنلجأ إلى الحديث الرمزي عن الفترة التي تم نفي الملك فاروق فيها خارج مصر، ونتأمل كتبا صدرت لأسماء أصبحت لامعة بعد هذا، فنجد نوعا من أنواع الافتراء الذي لم يسبق إليه أحد في كتابات أسماء أخذت حظها الأكبر على يد عهد ٢٣ يوليو من قبيل حلمي سلام وأحمد بهاء الدين، ونرى الملك فاروق وقد صُور "شيطانا كامل الشيطنة" عند أحمد بهاء الدين، كما نراه وقد باع نفسه للشيطان على حد عنوان حلمي سلام.
فإذا ما قارنا هذه الكتابات بما كتبه مصطفى أمين بعنوان "ليالي فاروق"، وجدنا ما يمكن وصفه بأنه تجليات الفارق بين "الشيطنة" و"الأنسنة" مهما كانت خطاياها، ووجدنا عند مصطفى أمين فنا روائيا من نوع خاص لم تكتمل فنياته وتقنياته بحكم أن نهايته معروفة للقارئ من قبل الكتابة، كما وجدنا عند مصطفى أمين وعند التابعي وفكري أباظة -وأضرابهم من ذلك الجيل- نوعا من أنواع شحذ الذهن نحو أدبيات الخطيئة نفسها.
أما الكاتبان اللذان قاما بالمهمة التخريبية أو التدميرية لصورة ملك وملكية فقد شغلا تماما بتقديم كل ما يمكن له أن يرضي العهد الجديد عهد 23 يوليو على نحو أو آخر.
تكررت التجربة بحذافيرها مع آلام أعمق ومعاناة نفسية بالغة التأثير في القراء والمطالعين والمتصفحين عندما خرج جمال عبد الناصر من الواقع المعيش بقوة واختفى أثره الذي كان يعبر عن نفسه في كل همسة وكل لمسة، وكل عطفة وكل ثنية، وكل دقيقة وكل ثانية. وعرف المصريون أنواعا من الكتابة السياسية الانفعالية لم يعرفوها من قبل في ظل خروجهم من تجربة قاسية لم يعرفوها من قبل، وفي ظل انتهاء هذه التجربة بنتيجة مأساوية قاسية لم يخبروها ولم يعانوها من قبل.
ومن الإنصاف هنا أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن طائفة القراء في كل حضارة تدرك مثل هذه الفروق وهذه السمات الثلاث للأعمال التي تقرؤها على أنها تاريخ أو أنها مقدمة لدراسة التاريخ، ولهذا فإن من عادة القراء الأذكياء أن يقولوا إن فلانا المفكر تعجل في كتابة ما كتب عن العصر الذي عاشه، ومن عادة القراء الأذكياء أن يقولوا أيضا إن فلانا المؤرخ تكاسل عن تأريخ الحقبة التي عاشها، أو إن فلانا (المثقف) معذور لأنه كتب ما كتب من كتابة حافلة بالحماس أو الاندفاع في ظل آنية الحدث، ولم يكن من الممكن له أن يكتب بأعصاب هادئة ولا بعقل بارد.
ومع أن ما بلورناه في الفقرات السابقة يبدو أقرب إلى التنظير منه إلى الواقع، فإن التاريخ المصري المعاصر قد شهد كثيرا من الوقائع التي تدل دلالة واضحة على أن عامة المصريين عاشوا تجربتهم السياسية بعيون مفتوحة ومتفتحة، وإن صعب على هذه العيون أن ترى أجزاء كثيرة من الحقيقة، بسبب ظروف كثيرة كانت أقسى بكثير من الواقع الذي عاشه المصريون.
وحتى لا نوغل أو ننزلق في الوصف النظري للواقع المعلوماتي الصعب الذي عاشته الجماهير، فإننا سنلجأ إلى الحديث الرمزي عن الفترة التي تم نفي الملك فاروق فيها خارج مصر، ونتأمل كتبا صدرت لأسماء أصبحت لامعة بعد هذا، فنجد نوعا من أنواع الافتراء الذي لم يسبق إليه أحد في كتابات أسماء أخذت حظها الأكبر على يد عهد ٢٣ يوليو من قبيل حلمي سلام وأحمد بهاء الدين، ونرى الملك فاروق وقد صُور "شيطانا كامل الشيطنة" عند أحمد بهاء الدين، كما نراه وقد باع نفسه للشيطان على حد عنوان حلمي سلام.
فإذا ما قارنا هذه الكتابات بما كتبه مصطفى أمين بعنوان "ليالي فاروق"، وجدنا ما يمكن وصفه بأنه تجليات الفارق بين "الشيطنة" و"الأنسنة" مهما كانت خطاياها، ووجدنا عند مصطفى أمين فنا روائيا من نوع خاص لم تكتمل فنياته وتقنياته بحكم أن نهايته معروفة للقارئ من قبل الكتابة، كما وجدنا عند مصطفى أمين وعند التابعي وفكري أباظة -وأضرابهم من ذلك الجيل- نوعا من أنواع شحذ الذهن نحو أدبيات الخطيئة نفسها.
أما الكاتبان اللذان قاما بالمهمة التخريبية أو التدميرية لصورة ملك وملكية فقد شغلا تماما بتقديم كل ما يمكن له أن يرضي العهد الجديد عهد 23 يوليو على نحو أو آخر.
تكررت التجربة بحذافيرها مع آلام أعمق ومعاناة نفسية بالغة التأثير في القراء والمطالعين والمتصفحين عندما خرج جمال عبد الناصر من الواقع المعيش بقوة واختفى أثره الذي كان يعبر عن نفسه في كل همسة وكل لمسة، وكل عطفة وكل ثنية، وكل دقيقة وكل ثانية. وعرف المصريون أنواعا من الكتابة السياسية الانفعالية لم يعرفوها من قبل في ظل خروجهم من تجربة قاسية لم يعرفوها من قبل، وفي ظل انتهاء هذه التجربة بنتيجة مأساوية قاسية لم يخبروها ولم يعانوها من قبل.
وبعد فترة قصيرة من عمر الزمان، حاولت تجربة "مراجعة الناصرية" بحكم حضورها الحديث الطاغي أن تتكرر مع أنور السادات عقب اغتياله، لكنها سرعان ما انحسرت وانحسرت آثارها، ذلك أن دوافعها النفسية القوية لم تكن إرضاء حاكم جديد أو إرضاء مجتمع جديد، وإنما كان جوهر دافع أصحابها الثلاثة البارزين هو الانتقام والتشفي من صديق قديم لهم، قدّر لهم أن ينتفعوا به كثيرا على مدى حياتهم، وكان كل منهم أقرب الناس إليه في فترة من الفترات، لكنهم لسبب أو آخر فقدوا هذا القرب وعانوا من هذا الفقد وتكررت معاناتهم في شقيها الروحي والمادي، ومن ثم كانت النتيجة النفسية المرتبطة برد الفعل أن يعبروا عن هذا الشعور بأقصى ما يستطيعون من الانتقام في التصوير والتعبير أولا، ثم في التحوير والتدوير ثانيا، ثم في التفسير والتجذير ثالثا، ثم في الحكم القاسي بما لم يكن أي مصري قابلا لتصديقه مهما كان انتقاده للسادات.
وكان هؤلاء الثلاثة بترتيب بدء علاقتهم القديمة بالسادات هم: يوسف إدريس، ومحمد حسنين هيكل، وأحمد بهاء الدين، وقد استسهل يوسف إدريس أن يسمي كتابه عن السادات بـ"البحث عن السادات"، وهو ما يوحي للوهلة الأولى بأن السادات واحد من اثنين: رجل ضائع يبحث إدريس عنه، أو رجل عميق يبحث إدريس عنه ولم يصل إلى البحث فيه.
أما أحمد بهاء الدين فقد آثر بنصف الفن الذي يجيده وبكل التحوير الذي يمتلكه أن يسمي كتابه اسما مسرحي الإيحاء أو الإسقاط، وأن يصوغ كتابه على نحو حواري احتفظ فيه لنفسه بروح الإنسان العاقل الحكيم المفكر الواعي الواعد، وترك للسادات روح الإنسان المتعجل أو المتردد أو الجاهل أو الأمي... إلخ.
أما كتاب هيكل فقد تفوق في حقده على الكتابين الآخرين، ومع أنه كان الأول في الصدور، فقد كان الأول في الاختفاء والموات أيضا، حتى أنه لم يبق منه إلا اسمه وذكرى حديثه المؤلم عن سواد بشرة والدة السادات.
ثم توالت كتب عديدة عن السادات، جمع فيها أصحابها بعض المقالات أو الحوارات، وكان من حسن حظ تاريخنا أن انضمت إلى أدبياته بعض هذه الكتب الناضجة التي كانت أنضج بكثير من الكتب التي نشرت من قبل عن عهد عبد الناصر، وليس من شك أن السبب في هذا يعود أولا إلى نضج التجربة، ويعود ثانيا إلى تفوق الإتاحة النسبية للحقائق والوثائق والروايات والأدبيات.
وليس هناك شك أيضا في أن أحداث عهد السادات صادفت دراسات تاريخية تفوق تلك التي صادفتها أحداث عهد عبد الناصر، على الرغم من أن الاحتفال الإعلامي لأحداث عهد عبد الناصر لا يزال متفوقا على نظيره في عهد السادات.
ويكفي على سبيل المثال أن نشير إلى أن التمجيد الذي حظيت به هوامش نصر وهمي في 1956 تفوق التمجيد الذي حظي به النصر الوحيد في 1973 حتى أن مسمى النصر لا يزال بعد أكثر من 55 عاما يطلق على هذا النصر الوهمي في 1956، ويحتفل به يوم 23 ديسمبر/كانون الأول التي كانت سيناء فيه -ومن بعده بسبعة شهور- لاتزال في أيدي الإسرائيليين تحت احتلال فعلي.
ومضت السنوات حتى جاء وقتنا هذا، وأصبحت كل هذه المقدمات تفرض نفسها على كل من حاول أن يتناول عصر مبارك بالتحليل أو التقييم أو التأريخ، ولم يكن بد لأي صاحب محاولة في هذا المجال أن يحدد قبل أي شيء طبيعة النظرة التي يريد أن يرنو بها إلى المنهج الذي اختاره مبارك لنفسه واختطه لعصره.
ولم يكن هذا بالأمر الغريب، ذلك أننا وجدنا أنفسنا نواجه في عصر مبارك أسلوبا واحدا من أساليب الحكم، دون أدنى تغيير على الخط نفسه الذي مضى مستقيما ممتدا دون أن يتأثر بأي انفعال أو أي طارئ أو أي من الظروف التي تثور وتفور وتمور من حوله، ومع أننا من الذين عشنا هذا العصر ولم ندرك معالم هذا الخط الواضحة إلا بعد مرور الأيام، فقد كنا في كثير من الأحيان نزعم لأنفسنا أو نحاول إقناعها أن مبارك عدل عن خط إلى خط آخر، ثم تمضي الأيام فنكتشف أنه هو هو، وأن الذي كان يبدو لنا من التغيير لم يكن تغييرا في سياسته هو، وإنما كان تغييرا في لسان أو لهجة المتحدث باسمه أو باسم رتبة عالية في النظام.
وكان هؤلاء الثلاثة بترتيب بدء علاقتهم القديمة بالسادات هم: يوسف إدريس، ومحمد حسنين هيكل، وأحمد بهاء الدين، وقد استسهل يوسف إدريس أن يسمي كتابه عن السادات بـ"البحث عن السادات"، وهو ما يوحي للوهلة الأولى بأن السادات واحد من اثنين: رجل ضائع يبحث إدريس عنه، أو رجل عميق يبحث إدريس عنه ولم يصل إلى البحث فيه.
التاريخ المصري المعاصر شهد كثيرا من الوقائع التي تدل على أن عامة المصريين عاشوا تجربتهم السياسية بعيون مفتوحة وإن صعب عليها أن ترى أجزاء كثيرة من الحقيقة بسبب ظروف كثيرة كانت أقسى من الواقع |
أما كتاب هيكل فقد تفوق في حقده على الكتابين الآخرين، ومع أنه كان الأول في الصدور، فقد كان الأول في الاختفاء والموات أيضا، حتى أنه لم يبق منه إلا اسمه وذكرى حديثه المؤلم عن سواد بشرة والدة السادات.
ثم توالت كتب عديدة عن السادات، جمع فيها أصحابها بعض المقالات أو الحوارات، وكان من حسن حظ تاريخنا أن انضمت إلى أدبياته بعض هذه الكتب الناضجة التي كانت أنضج بكثير من الكتب التي نشرت من قبل عن عهد عبد الناصر، وليس من شك أن السبب في هذا يعود أولا إلى نضج التجربة، ويعود ثانيا إلى تفوق الإتاحة النسبية للحقائق والوثائق والروايات والأدبيات.
وليس هناك شك أيضا في أن أحداث عهد السادات صادفت دراسات تاريخية تفوق تلك التي صادفتها أحداث عهد عبد الناصر، على الرغم من أن الاحتفال الإعلامي لأحداث عهد عبد الناصر لا يزال متفوقا على نظيره في عهد السادات.
ويكفي على سبيل المثال أن نشير إلى أن التمجيد الذي حظيت به هوامش نصر وهمي في 1956 تفوق التمجيد الذي حظي به النصر الوحيد في 1973 حتى أن مسمى النصر لا يزال بعد أكثر من 55 عاما يطلق على هذا النصر الوهمي في 1956، ويحتفل به يوم 23 ديسمبر/كانون الأول التي كانت سيناء فيه -ومن بعده بسبعة شهور- لاتزال في أيدي الإسرائيليين تحت احتلال فعلي.
ومضت السنوات حتى جاء وقتنا هذا، وأصبحت كل هذه المقدمات تفرض نفسها على كل من حاول أن يتناول عصر مبارك بالتحليل أو التقييم أو التأريخ، ولم يكن بد لأي صاحب محاولة في هذا المجال أن يحدد قبل أي شيء طبيعة النظرة التي يريد أن يرنو بها إلى المنهج الذي اختاره مبارك لنفسه واختطه لعصره.
ولم يكن هذا بالأمر الغريب، ذلك أننا وجدنا أنفسنا نواجه في عصر مبارك أسلوبا واحدا من أساليب الحكم، دون أدنى تغيير على الخط نفسه الذي مضى مستقيما ممتدا دون أن يتأثر بأي انفعال أو أي طارئ أو أي من الظروف التي تثور وتفور وتمور من حوله، ومع أننا من الذين عشنا هذا العصر ولم ندرك معالم هذا الخط الواضحة إلا بعد مرور الأيام، فقد كنا في كثير من الأحيان نزعم لأنفسنا أو نحاول إقناعها أن مبارك عدل عن خط إلى خط آخر، ثم تمضي الأيام فنكتشف أنه هو هو، وأن الذي كان يبدو لنا من التغيير لم يكن تغييرا في سياسته هو، وإنما كان تغييرا في لسان أو لهجة المتحدث باسمه أو باسم رتبة عالية في النظام.
وفي هذا الصدد، فقد تعددت وتنوعت مصادرنا لرؤية أو قراءة مبارك في عصره الطويل، ومرت هذه الرؤية بمحطات متعددة لمعت فيها أسماء كثيرة دون أن يزعم أحدهم، بل دون أن يزعم أكثرهم التصاقا به وهو الدكتور أسامة الباز أنه هو وحده العارف وليس سواه.
كان أداء مبارك رسميا إلى أبعد الحدود، وربما كان هذا هو السبب في نجاحات متعددة حققها، وكان هذا أيضا السبب في إخفاقات متعددة أصابته |
والطريف في هذا التعداد أنه يبين لنا مدى التباين الواسع والشاسع الذي وصلت إلينا عن طريقه روح مبارك، مع أن روح مبارك كانت بعيدة تماما عن هذا التعدد واسع الطيف.
وإذا قدر لي في فقرة واحدة أن أصف أهم المصادر التاريخية لعصر مبارك، فإني أستطيع أن أقول بكل ثقة إن أفضل هذه المصادر هي الجريدة الرسمية لا الجريدة الصحفية ولا الجريدة الإنشائية، فقد كان أداء الرجل رسميا إلى أبعد الحدود، وربما كان هذا هو السبب في نجاحات متعددة حققها، وكان هذا هو أيضا السبب في إخفاقات متعددة أصابته.
ولهذا السبب فإنني لا أجد حرجا في أن أقول إن دراسة كدراستي عن النخبة المصرية الحاكمة في عهد الثورة تمدنا بكثير من حقائق تاريخ عهد مبارك، وهي حقائق يسهل على أي قارئ متبصر أن يعتبرها بمثابة خرزات شبيهة بخرزات السبح، ومن ثم فإنه يمكن له أن يضعها في أي خيط يختاره لتصبح في يده شيئا أقرب إلى أن يوصف تجاوزا بأنه مسبحة عصر مبارك.
وقل مثل هذا عن هذه الآراء الحادة التي أبديتها في مجموعة مقالاتي التي كتبتها عن نخبة عصر مبارك في نهايته، ولقيت من الاستحسان والقبول ما كان دافعا قويا من دوافع التشجيع على ثورة 25 يناير، وهو أمر لا يمكن لي أن أفخر به، وإنما الأولى بالطبع أن أفخر بأصحاب الثورة الذين حولوا الفكر إلى واقع، والخيال إلى ثورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق