بطرس الناسك والمالكي ودولة آل البيت
هذه حقيقة لا يستطيع أحد إنكارها .وهذه أيضا هي المؤامرة الدولية التي خطط لها المحتل الأميركي وشركاؤه قبل أن يقع الاحتلال بسنوات ،وقبل أن تسقط الدولة العراقية .
فبعد11 سنة من سقوط بغداد في 9 أبريل سنة 2003 ، أصبح العراق البلد الكبير دويلات وكنتونات وكيانات من كل لون ومذهب ، وحدث شرخ عميق بين بيئة ثقافية واجتماعية أنتجت الاستبداد بأشكاله المختلفة ، وبين بيئة متقنة الصنع حلت جاهزة بكل تشظياتها الاجتماعية والثقافية ليكون العراق بعدها دولة ذات قابلية كبرى للانفجار والتشظي ، دولة مكونات متناحرة أو قابلة للتناحر.
كانت ولادة عراق جديد هدفا استعماريا وجد له صدى في نفوس بعض العراقيين الشيعة والكرد ، ممن يدركون أن بلدا بحجم العراق، بتنوعه الاثني والديني وبتاريخه العريق الذي يمكن أن يُقرأ من جهات عديدة لن يُدار موحدا إلا من قبل سلطة قوية ذات ظهير شعبي .
وهو أمر يستحيل ظهوره فضلا عن توافره تحت ظل الاحتلال الذي جاء بأجندة تقسيم ، لذلك اعتمدت خطة إضعاف متتابعة للوصول بالعراق إلى هذا الشكل القائم . ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية الخبيثة اعتمد الأمريكان على وجود شخصيات ذات صفات مخصوصة تجمع بين متناقضات ، من عته فكري ، وبرجماتية سياسية ، وفساد ذمة ، وطائفية غالية ، وتبعية أمريكية ، وولاء إيراني .
كل هذه الصفات تواجدت متناثرة في العديد من الأشخاص ، ولكنها لم توجد مجتمعة إلا في شخص واحد وهو " نوري المالكي " الذي يحاول استنساخ تجربة دول الشرق الأوسط في المسئول الأبدي الذي لا يخرج من منصبه إلا إلى قبره .
على وقع التفجيرات ودوي الراجمات التي أصبحت جزءاً من البروتوكول اليومي للمواطن العراقي بدأ المالكي وشلة المنتفعين والمتاجرين بالعراق شعبا وبلدا جولاته الانتخابية الجديدة التي يرمي بها الحصول على ولاية ثالثة في حكم العراق بعد أن قطع شوطا كبيرا على مضمار الهدف المرسوم له بعناية وهو تمزيق العراق وتقطيع أوصاله .ففي السنوات الأربع الأولى من حكمه ،حاول المالكي في البداية تقديم نفسه باعتباره منقذ العراقيين من العنف والاقتتال الأهلي ، متبنياً سياسة غير طائفية، على الأقل شكلاً وخطاباً.
ولكن لأن الطبع يغلب دائماً على التطبع، والغاية تبرر الوسيلة ، عاد المالكي في النصف الثاني من ولايته الأولى لتبني سياسة تمييز طائفية بشعة، مطيحاً بأي وجود سني ملموس ومؤثر في أجهزة الدولة والحكم، في الجيش، في المؤسسات الأمنية، وفي الجامعات، وقيد حتى نشاطات المؤسسات والجمعيات الأهلية والمدنية والإعلامية السنية. وهذا ما أدى إلى ولادة أفكار الانفصال ، والبحث عن الذات ، والدفاع عن الكيان ضد طائفي محترق بخرافاته .
وبعد عمليات تزييف منهجية واسعة النطاق ، ومحاولات منع المناطق السنية منالتصويت ،وبعد الضغوط التي مارسها المالكي على المحكمة الدستورية، التي أصدرت فتوى سمحت بتشكيل تحالف بين القوى الشيعية جميعاً، بعد ظهور نتائج الانتخابات، والضغوط التي مارستها إيران على القوى الشيعية لتأييد المالكي، والتفاهم الأمريكي الإيراني لتوكيد عودته إلى رئاسة الحكومة.
أصبح المالكي رئيسا للحكومة للمرة الثانية ، ولكنه كان فوزا بطعم الفشل والشقاق ، وبالتالي وصل العراق في هذه الولاية الثانية للمالكي لمستويات قياسية من الفساد والخراب الاقتصادي والاجتماعي ، بعد أن أصبحت الطائفية تكتيكا وإستراتيجية ومنهجا وسبيلا للسياسات المالكي في إدارة شئون العراق الجديد .
ومع اندلاع حركة الثورات العربية، وتداعياتها السريعة في تونس ومصر وليبيا، وتعقيداتها المتفاوتة في اليمن وسوريا، تصور ملالي إيران وزعماء الشيعة في المنطقة أن هذه الثورات ليست سوى تعبير ديمقراطي عن صعود السنة العرب في المشرق.
وبالتالي لم يكن من السهل على أنظمة حكم من طراز نظامي المالكيوالأسد تجاهل الصعود الملموس للقوى السياسية الإسلامية، ذات الخلفية السنية، في المحيط العربي ، وخشية من أن تطاله رياح الثورة في النهاية، ويهب العراقيون السنة المهمشون والمضطهدون لاستعادة حقوقهم ، أسرع المالكي خطواته لإحكام السيطرة على البلاد، وحسم التدافع على ولاء شيعة العراق بين آل الصدر وآل الحكيم ومليشياتهم العسكرية ،وذلك بتسريع عجلة المواجهات مع أهل السنة وتركيز عملياته العسكرية في المحافظات السنية تحت دعوى مكافحة الإرهاب ، ومن ثم كانت مواجهات الأنبار الدموية . دفع رئيس الوزراء بقطاعات واسعة من الجيش والبوليس الفيدرالي والقوات الخاصة بهدف القضاء على قواعد تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية في صحراء الأنبار، فإذا به يوجه هذه الحملة الجرارة نحو فض الاعتصام الشعبي في المحافظة، والمستمر منذ أكثر من عام، أمر قواته باعتقال النائب أحمد العلواني،أحد أبرز المعارضين لحكمه في المحافظة وأبرز المساندين للاعتصام الشعبي. وقُتل العديد من أسرة النائب وحراسه في الاقتحام ، مما ساهم في تعميق شعور العرب السنة بالإحباط وعدم جدوى الوسائل السلمية في تحقيق المساواة بين مواطني البلاد ، فكان حمل العشائر للسلاح ، والمواجهات الدموية التي تكبدت فيها مليشيات المالكي خسائر ضخمة ، قابلتها بقصف عشوائي جنوني للمدنين في الفلوجة والرمادي مما دفع عشرات الآلاف من المدنيين للفرار من بيوتهم للصحراء ، ومن وحشية وضراوة القصف المالكي على المدنيين العزل من أهل السنة ، اتهم النائب الاسكتلندي ستروان ستيفنسون، رئيس وفد البرلمان الأوروبي للعلاقات مع العراق، اتهم المالكي، بأنه يشن حملة إبادة ضد السنة في العراق، وفي كافة المحافظات السنية.
كما اتهمه بشن حملة إرهابية شرسة في الفلوجة والرمادي، في محاولة من المالكي للقضاء على أي معارضة لنظامه قبل انتخابات المقبلة .
المالكي وبالتزامن من حملته الوحشية وحربه الطائفية ضد أهل السنة بالعراق تمهيدا لتفكيكه كما خط لها الرسام الأمريكي والإيراني خريطته الجديدة ، يقوم بحملة انتخابية أقل ما توصف به أنها أشبه بحملات بطرس الناسك التي قام بها في القرون الوسطي تهيجا لمشاعر الأوروبيين للمشاركة في الحرب الصليبية على العالم الإسلامي .
فها هو يوجه خطابا طائفيا في حفل تخريج دفعة جديدة من الشرطة في يناير 2014 فيقول :"على منتسبي المؤسسة الأمنية أن يدركوا أنهم سيقتلون وُيقتلون تحقيقاً لهدف مقدس " على غرار الخطب التي كان يلقيها باباوات الكنيسة أمام الجنود الصليبيين وهم متوجهون لقتال المسلمين في الشرق لتحفيزهم على سفك أكبر قدر ممكن من دماء الكفرة يقصد المسلمين .
فالمالكي يطوف المدن العراقية التي يمثل الشيعة فيها أغلبية سكانية ، ويتحاشى تماما المناطق السنية ، وبقراءة متأنية لأدائه الدعائي ومحتواه الخطابي نجد دلالات مفزعة يقدمها هذا الخبيث الذي اختاره الأمريكان والإيرانيون بعناية لتدمير العراق .
فخطابه بمحافظة واسط الذي ألقاه في مطلع هذا الشهر قال لأنصاره المحتشدين لسماع آخر تجلياته : " إن لهذا البلد ثارات معركتي بدر وحنين " في إشارة إلى تشبيه معارضيه من أهل السنة والقوى السياسية التي تمثلهم بأنهم مثل كفار قيش وهوازن الذين حاربوا الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر وحنين ، على الرغم من خلو كل كتب السيرة والتاريخ من ذكر المالكي كأحد قواد المسلمين في بدر ، ولعله تآمر من أهل السنة الذين كتبوا هذه المراجع كلها !! . ثم إذا به يلقي باللائمة في أحداث العنف الطائفي الذي تؤججه مليشياته هو نفسه على دول في غاية الطرافة ؛ تنزانيا ونيجيريا ، كأن المالكي وشيعة العراق يتعرض لمؤامرة كونية من كل أهل السنة في العالم !. أما خطابه في النجف وبغداد فقد كان تجسيدا كاملا لأفكار الرجل وآماله وطموحاته ورؤيته الإستراتيجية للوطن العراقي ، فقد قال بالنص : " ادعوا المواطنين العراقيين لتأسيس دولة أهل البيت " لاحسا بذلك كل أكاذيبه السابقة بحكومة اغلبية سياسية تشترك فيها جميع مكونات البلد .
إن دعوته الطائفية لإقامة دولة اهل البيت هي دعوة خبيثة تفجيرية ذات مغزيين: إثارة العاطفة المذهبية عند المكون الشيعي واستغلالها لغاياته الانتخابية هذه من جهة، ومن الجهة الاخرى إشعار المكون السني بالتهميش والإقصاء من خلال هذه الدعوة. فالوضع الطائفي المتشنج حاليا في العراق ذو قابلية كبرى نحو امتزاز تلك التصريحات المفخخة لإطلاق كل المخاوف . والحقيقة الثابتة في دعوة المالكي الطائفية أن دولة أهل البيت حسب المواصفات التنفيذية للمالكي هي دولة طائفية يعم القتل أرجاءها وينخرها الفساد والسرقات ، وتضع اللمسات الأخيرة نحو تشطير العراق وتشظيه . فهل يدرك العقلاء العراق قبل فوات الأوان ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق