الأحد، 27 أبريل 2014

مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط


مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط 

-العنوان: مسيحيو الشرق والإسلام في العصر الوسيط
-المؤلف: ألان دوسلييه
-ترجمه عن الفرنسية: رشا الصباغ، رندة بعث
-الناشر: دار الساقي/ رابطة العقلانيين العرب، بيروت 2014
-عدد الصفحات: 720





عرض/زياد منى
هذا الكتاب مهم لأن موضوعه يعالج -أو لنقل يتعامل مع- مرحلة مهمة من تاريخ المشرق العربي، تبدأ بالفتوحات وتمتد إلى العهد العثماني، تأخذ في الاعتبار عوامل ذاتية في الطرف الآخر، أي من منظور بيزنطة وعلاقاتها مع روما وبقية العالم "المسيحي".

إضافة إلى ما سبق، فإن الكاتب يتناول بالبحث والتدقيق موضوعه، اعتمادا على المصادر الأولية، ما أمكنه، وشرح تعقيدات ذلك في المقدمة.

يقول الكاتب إن كتابه يتقصى أشكال الاحتكاك بين مسلمي المشرق ومسيحييه، وهذا يعني أن الكتاب معني بالدرجة الأولى بتقصي العلاقات بين العالم الإسلامي من جهة، و"نصف" العالم المسيحي في ذلك الوقت من جهة أخرى.

موضوع البحث (أي العلاقة بين العالم الإسلامي والمسيحية، أو نصفها) ما كان ليفصل القول فيه إلا بعد تمكن الإسلام من توطيد سلطته على أراضي الإمبراطورية البيزنطية التي شملت قبل الفتوح الإسلامية كل بلاد حوض البحر المتوسط، إضافة إلى العراق وإرمينية، وغيرها.
هذا مهم لأن الجدل الديني الفكري الذي قام بين الإسلام من جهة والمسيحية من جهة أخرى اقتصر بالتالي على المسيحية الشرقية، ولم يتأثر كثيرا، في حقب محددة، بالصراع المسيحي-المسيحي بين بيزنطة من جهة وروما من جهة أخرى، حتى انطلاق الحملات الصليبية، اللاتينية.

الهدف الذي وضعه الكاتب أمام ناظريه -إضافة إلى تسليط الضوء على العلاقات الملتبسة بين الطرفين- توضيح أن الانتماء إلى أي من الطوائف لا يولد شعورا فطريا بالكراهية والعداء تجاه الآخر، لأن طريقة المرء في عيشه وممارسة إيمانه وتأويله تعتمد على كيفية رؤيته إيمان الآخرين وفهم ذلك.

هذا -برأي الكاتب- يعني أن إساءة فهم الجار أمر غير وارد، لذلك يمكن فهم أن مشاعر المسيحيين الشرقيين تجاه الأخ الطبيعي (أي المسيحي الغربي) كانت دوما تزداد سلبية باطراد، وصار ينظر إلى المسلمين -مقارنة بالطرف الأول- على أنهم الدرع الأخير الحامي لثقافة مسيحيي الشرق وإيمانهم.

لكن الكتاب لا يتوقف عند ذلك، بل يبحث بعمق في العلاقات بين الطرفين وأسباب تطورها واقتراب كل منها من الآخر وفي الوقت نفسه ابتعادها عنه، كما يبحث في العلاقات بين كافة الأطراف: العربي والعثماني والبيزنطي والرومي وبقية الأقاليم الأوروبية الغربية، في الفترة الممتدة من القرن السابع إلى القرن الـ15، أي حتى بدء العهد العثماني.

الكاتب قسم كتابه، بعد مقدمة مستفيضة ومهمة، إلى الأقسام الثلاثة التالية، ويحوي كلا منها عدة فصول هي:

- المسلمون: هل هم عدو ديني أم سياسي؟ غزاة كالآخرين؟ المغلوبون يحاكمون الغالبين، المسيحية في سوريا وبلاد ما بين النهرين، الدين الزائف، الصورة البيزنطية عن الإمبراطورية الإسلامية، بيزنطة والإسلام، الإخوة الأعداء.

- بيزنطة والإسلام وغزوة الغرب: الجماعة الشرقية، صدمة الحملة الصليبية، زمن من الريبة (القرنان الـ12 و13)، تدريب طويل على التعايش.
يسلط الكتاب الضوء على العلاقات الملتبسة بين الطرفين، مع توضيح أن الانتماء إلى أي من الطوائف لا يولد شعورا فطريا بالكراهية والعداء تجاه الآخر
- "الإحياء الإمبراطوري-عقبة في وجه التقارب الديني": قتال الأتراك أم من أجل الأرثوذكسية؟، من الدين إلى السياسة: الخضوع أو الاعتزال، 1453: عام نهاية أم عام تجديد؟

الكاتب ينهي الكتاب بخاتمة عنوانها دال حقا وذو صلة بالحاضر، هو "الإسلام ومسيحيو الشرق.. لقاء مستحيل".

كل فصل من فصول المؤلَّف قسمه الكاتب إلى أقسام فرعية، تتناول بالتفصيل أحداثا ذات صلة، ومن ذلك على سبيل المثال فتوح مصر، وفق المصادر الكنسية والانتماء المذهبي للعرب المسيحيين في شرقي المشرق وغربه، والذين عدتهم الكنيسة الأرثوذكسية هراطقة، لكنهم في الوقت نفسه حلفاء، وسبب وقوف أولئك العرب مع الجيوش الإسلامية القادمة من جزيرة العرب ودورهم في الفتوحات، وموقف بيزنطة منهم بعد انفراط التحالف بينها وبينهم.

لم يتطرق الكاتب إلى علاقات الفرس الساسانيين مع القبائل العربية لأن الإمبراطورية الفارسية انتهت بالفتوح الإسلامية وإخضاع فارس -وغيرها- لسلطة دمشق. ومن ناحية أخرى، فإن الهم الرئيسي للكاتب كان فهم العلاقات الإسلامية-المسيحية (الشرقية) وشرحها على نحو يوضح أسباب تطورها في مختلف الاتجاهات وفي مراحل معينة.

هنا تكمن أهمية إضافية لهذا المؤلف الذي لا يلتفت إلى تفاصيل الأحداث إلا من منظور شرحها لسببية الأحداث نفسها والتطورات الناتجة عنها، وتأثير ذلك في المسار التاريخي.

من هذا المنظور، فإنه ليس كتابا سرديا، لكنه سِفر تاريخي-فكري يميط اللثام عن أحداث تبدو لغير العالِم بتفاصيلها وتأثيراتها كأنها حدث فجائي غير متوقع، حيث يضع الكاتب الأمور ضمن سياقاتها التاريخية والفكرية، من منظور علاقات الطرفين (المسيحي والإسلامي)، وأيضا من منظور علاقة المسيحية الشرقية بالغربية والتكامل بينهما وصراعهما أيضا.

لا يخفى على القارئ أن هدف الكتاب الصادر بالفرنسية في باريس عام 1996 سياسي وفكري، يكمن في شرح أسباب التباس العلاقات الإسلامية-المسيحية، وتطورها الماضي، وتعايش الطرفين الذي وصل أحيانا إلى حد التحالف حتى في مواجهة ممالك مسيحية غربية، وأسباب تخوف كل طرف من الآخر.
يهدف الكتاب إلى شرح أسباب التباس العلاقات الإسلامية-المسيحية، وتطورها الماضي، وتعايش الطرفين، الذي وصل أحيانا إلى حد التحالف حتى في مواجهة ممالك مسيحية غربية
إضافة إلى ذلك، لا يخشى الكاتب من مقاربة نقدية لعوامل ملتبسة وإشكالية، يعالجها بالصراحة الأكاديمية المطلوبة والضرورية، إن كان للأطراف ذات الصلة أن تلتقي في أجواء بعيدة عن الحروب ورهاب الآخر.

الكاتب لم يطرح برنامجا سياسيا، ولا حاول فرض رأي فكري ديني أو غير ذلك على الأحداث، وإنما قاربها اعتمادا على النصوص التاريخية ذات العلاقة.

ولأن القسم الأكبر من تلك النصوص كانت لاهوتية، أي تشرح التاريخ والأحداث من منظور ديني وليس سياسيا، كان على الكاتب الإسهاب في ذكر دوافع هذا الكاتب أو ذاك، وخلفية كل واحد، والظرف التاريخي الذي كان يمر فيه. فالمسيحية على نحو عام، والمشرقية على نحو خاص، "تمأسست" وتحولت إلى دولة هي بيزنطة، ما جعل محاكمة الآخر تنطلق من منظور الدولة.

أما العالم الإسلامي فقد انشق بعد فترة إلى ثلاثة أقسام هي: العباسية في بغداد، والأموية في الأندلس، وأخيرا الفاطمية في مصر وبلاد الشام، كل منها في دولة تبرر صحة منظورها الفكري-الديني في وجودها، وهذا دوما وفق كلمات الكاتب.

أخيرا، المكتبة العربية تغنى بهذا المؤلَّف القيم، المترجم بلغة راقية وحرص علمي كبير على التقيد بالمصطلحات وذكر الأسماء برسومها الأصلية كما وردت في المراجع التاريخية ذات العلاقة. هذا لا يعني إطلاقا اتفاقنا مع بعض المصطلحات التي وردت في الترجمة، ومنها (العدوان) و(احتلال) وما إلى ذلك. فهذه مصطلحات سياسية حديثة من غير الصحيح توظيفها بمفعول رجعي يُفرض على مرحلة تاريخية سادت قبل قرون كثيرة، ومنحها دلالات سياسية محضة لم تكن تحويها حينذاك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق