الإستيلاء على الأراضى :
آخر معاقل الإستعمار |
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
|
لقد أصبح الإستيلاء على الأراضى فى هذه الآونة الأخيرة يمارس على المستوى العالمى وعلى نطاق إجرامى واسع المدى.
فعقب الأزمة الإقتصادية سنة 2007 أصبحت الأراضى الزراعية، خاصة فى البلدان النامية، هدفا جنونيا للشركات المتعددة الجنسيات ، التى تعمل فى مجال الزراعة، بحثا عن مساحات شاسعة لإنتاج الوقود الحيوى.
كما توجد شركات مالية أخرى تعمل على الإستيلاء على الأراضى وإستثمارها لتحقيق أرباح مالية مضمونة.
مما أدى إلى خلق نوعا من الإستعمار الجديد الذى قد يقوم بتغيير التوازن الدولى مثلما هو واضح من الثورات الحديثة فى شمال إفريقيا المرتبطة بإرتفاع أسعار المحاصيل الغذائية.
ولقد بدأ النظر إلى الأزمة الغذائية كظاهرة بنيوية بعد الإستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضى فى البلدان النامية وصارت ظاهرة تثير القلق. إذ يلجأ كبار المستثمرين بالتعاون مع بعض "المتعاونين" فى السلطة بمساندة بعض المنظمات الدولية إلى تنظيم حملة دولية طموحة للسيطرة على الأراضى وعلى مصادر المياة، وذلك بنزعها من سيطرة الفلاحين فى كل من إفريقيا وأمريكا الجنوبية.
إذ نطالع فى التقرير الصادر عن منظمة "أوكسفام"، المهتمة بالشئون الزراعية فى العالم، أنه خلال العشر سنوات الماضية تم بيع مساحات من الأراضى الشاسعة على الصعيد العالمى، تعادل ثمانية مرات مساحة المملكة البريطانية !
ويقول التقرير أن حجم هذه الأراضى يمكنه إطعام مليار من البشر. وهو نفس العدد من الناس الذين ينامون بلا طعام..
ففى البلدان الفقيرة يقوم المستثمرون بشراء مساحات من الأراضى تعادل حجم لندن كل ستة أيام، بينما يتواصل إرتفاع أسعار الأغذية فى كل مكان. والتقرير مكون من 28 صفحة، وهو جدير بالدراسة هو وغيره لتفادى عديد من المآسى القادمة. إذ كاد هذا الإستيلاء المتعمد على الأراضى أن يفلت عن أى سيطرة.
وتخفى عملية الإستيلاء على الأراضى الزراعية للبلدان الفقيرة عملية إستعمارية قاسية الفساد.
فالملاحظ فى السنوات العشر الأخيرة إرتفاع متواصل للطلب العالمى للمواد الغذائية والوقود الحيوى. فالبلدان الثرية أو ذات الكثافة السكانية العالية بدأت منذ فترة القيام بشراء الأراضى أو إستئجارها لمدد طويلة.
ففى الوقت الذى لا يجد فيه كثير من الأفارقة ما يطعمون به أسرهم تم تحويل ملايين الهكتارات من الأراضى الإفريقية من الفلاحين العاملين عليها إلى شركات تتولى الإنتفاع بها. ففى كل يوم ينضم مستثمرون جدد لقافلة منتزعى الأراضى وجشعهم اللا إنسانى.
فمنذ أواخر التسعينيات، قامت وكالات تابعة لجماعة البنك الدولى، خاصة الشركة المالية الدولية، وهى فرع من جماعة البنك الدولى للقطاع الخاص والخدمات الإستشارية للإستثمار الأجنبى، و مهدوا الطريق من خلال مساندات تقنية وخدمات إستشارية لحكومات البلدان النامية بهدف تسهيل دخول المستثمرين لهذه البلدان. وقد قام مكتب الخدمات الإستشارية بإعداد قوانين تسمح للمستثمر بحرية إستثمار أكثر مرونة.
ومكتب الخدمات الإستشارية للشركة المالية الدولية متورط فى الكثير من العمليات فى العديد من البلدان الإفريقية. وتبدأ خدماته بدراسة مناخ البلد والتعرف على الحواجز الإدارية للإستثمار والقيام بعمل خطة لنزع هذه الحواجز، أى نزع الحواجز الإدارية فى مواجهة الإستثمار. ففى سييرا ليون مثلا أدى التشريع الجديد إلى خفض مصروفات تسجيل الأرض بنسبة 97 % ، أى من 1500 دولار إلى 50 دولار. وبهذا التواطؤ حصل المستثمرون على تصريح العمل وتصريح الإقامة !! كما تم تعديل القوانين لتسهيل عملية التصدير. ومن ناحية أخرى أقام البنك الدولى فى كل إفريقيا شركات قومية تساعد على عمليات قرض الإيجارة لتشجيع المستثمرين لإنتهاز فرصة الإستيلاء على الأراضى التى يزعمون أنها لا صاحب لها أو أنها شاغرة.
فعلى سبيل المثال، فى سنة 2009 أعلنت شركة "دايوو لوݘستيكس" عن إنتاج ذرة وزيت نخيل على مساحة مليار وثلاثمائة ألف هكتار من الأراضى الزراعية فى مدغشقر، أى ما يعادل تقريبا نصف الأراضى الزراعية لهذه الدولة.
ويوضح التقرير أن 47 % من البلدان الخاضعة لهذه القرصنة الدولية توجد فى إفريقيا، و33 % منها فى آسيا.. وأن 90 % من الأراضى التى تم الإستيلاء عليها تقع فى 84 دولة.
وذلك بسبب تواطؤ العديد من الحكومات المحلية التى ألَفت الخضوع للمستعمر الغربى ويمنحونه مساحات شاسعة بأسعار رمزية. وكثيرا ما يتم طرد السكان المحليين من هذه الأراضى أو يتم تأجيرهم للعمل عليها بأجور رمزية. وقد قام خوزيه جراتسانو دا سيلڤا، المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة بتشبيه عملية الإستيلاء على الأراضى فى إفريقيا بغزوات الغرب الوحشية للسكان الأصليين فى الأمريكتين. وهو ما يعنى ضمنا أنه من الصعب وقف عملية الإستيلاء هذه، فما حدث لسكان الأمريكتين كان عبارة عن قتل عرقى وإبادتهم بالملايين لإستعمار أراضيهم..
ومن المؤكد أن هذه الأراضى الريفية، التى يتم الإستيلاء عليها، كانت ستأتى بأرباح أكبر بكثير للشعوب المحلية إن كانت هى التى ستقوم بزراعتها وتستنفع بها وتبيع محاصيلها بنفسها للمؤسسات المحلية أو للدول الأجنبية. إلا أن الخسائر التى يعانون منها نتيجة الإستيلاء والإستغلال قد أدى إلى فقدان آلاف مؤلفة من العائلات المحتاجة إلى ضياع منازلهم و وسائلهم الحياتية لإفساح مكان للمستعمر الجديد، وذلك وفقا لأخر تقرير للفاو حول عدم الأمن الغذائى فى العالم.
وفيما يتعلق بإفريقيا ، فإن التوقعات جد مأساوية. ونظرة على تقرير منظمة الفاو الصادر سنة 2013، ويقع فى 63 صفحة بعنوان : "حالة عدم الأمن الغذائى فى العالم، الأبعاد المتعددة للأمن الغذائى"، فإن 842 مليون شخص فى العالم يعانون من الجوع المزمن، أى شخص من كل ثمانية أشخاص لا يجدون ما يأكلونه بصرة منتظمة لممارسة حياة عملية.
وقد قامت إحدى المنظمات بعمل تحقيق فى 35 دولة إفريقية، يتضح منه أنه فى اللحظة التى بدأت القارة الإفريقية تعرف نموا لإحتياجاتها الغذائية فإن المستعمرين الجدد استهدفوا أراضى المزارعين التى تتكون من مليار وأربعمائة مليون هكتار من الغابات والأراضى الزراعية. إلا أن الأنظمة القانونية القائمة فى معظم البلدان الإفريقية لا تعترف إلا فيما ندر بأحقية الضعفاء على أراضيهم. وتقوم الدولة بتوزيع حق الإنتفاع لشركات أجنبية نهمة الإستثمار. ويتم تحويل الأراضى الزراعية الخصبة إلى إنتاج وقود حيوى تستمد منه الطاقة، وذلك على حساب المحاصيل الزراعية. ففى خلال عام 2012 تبين بوضوح أن البلدان النامية سيقع عليها القيام باختيار أساسى : هل ستختار التنمية القائمة على التضمين واحترام القانون وحقوق مواطنيها، أم ستبحث عن طرق سريعة للتوصل إلى التنمية بالتنازل عن الأرض والمواد الطبيعية الخاصة بالأهالى وإسنادها للمستثمرين الدوليين والنخب المحلية ؟ أو بعبارة أخرى هل ستقوم بتحويل ملاك الأراضى الزراعية إلى فلاحين بلا أرض ؟!
إن تفعيل الخصخصة التى تقوم بها مجموعة البنك الدولى عامة، وتغيير القوانين الخاصة بأراضى الدولة تهدد بهدم كيان الجماعات التقليدية مالكة الأراضى فى إفريقيا، إذ تقوم هذه الشركات بتسهيل الأعمال تحت زعم مساعدة الشعوب المحلية فى حين أن ما تقوم به حكومات هذه البلدان هو تسهيل مهمة المستعمر الأجنبى الجديد لأن السياسات التى تتبعها مجموعة البنك الدولى هى لصالح المستثمر الأجنبى أولا وأخيرا، وهى استثمارات لا تحل مشاكل الفقر والجوع أو الحاجة إلى عملية إصلاح زراعى حقيقية.
وفى تقرير آخر نطالع كشفا بأكبر ملاك الأراضى فى العالم صادر يوم 17 مايو 2011 حول أكبر عشرين من ملاك الأراضى فى العالم سواء أفرادا أو مؤسسات، يمتلكون وحدهم ثلاثة مليارات ومائتان الف مليون هكتارا، لدهشنا لمعرفة أن الملكة إليزانث الثانية، ملكة بريطانيا، هى أغنى الملاك إذ تمتلك 5 % من مساحة اراضى الكرة الأرضية ؛ وأن الثانى فى الترتيب هو الملك عبد الله عاهل السعودية ، أما المفاجأة الحقيقية فهى أن ثالث كبار ملاك الأراضى هو البابا السابق بنديكت 16، وهو ما يكشف عن كثير من الحقائق المغيّبة، وإن كان يرتبط موضوعيا بما تقوم به الكنيسة فى مصر.
إن الموضوع أكبر بكثير من أن يتم تناوله فى مقال عابر أو محدود المساحة، لكن اذا ما أخذنا فى الإعتبار ما تم نشره حديثا فى مقالين شديدى الأهمية أحدهما للدكتور محمد موسى الشريف والثانى للأستاذ عامر عبد المنعم، لتزايدت أبعاد الموضوع لتأخذ منحنيات أمنية خطيرة بحاجة إلى وقفة صارمة من المسئولين فى الدولة. فالمقال الأول يتحدث عن مساحات شاسعة من الأراضى المصرية تم منحها للإستغلال بشروط جد مجحفة لبعض المستثمرين العرب ؛ أما المقال الثانى فمتعلق بآلاف الأفدنة التى استولت عليها الكنيسة المصرية بوضع اليد بلا أية محاسبة، وآخرها أراضى محمية وادى الريان بالفيوم التى لم يتمكن الجيس من إستعادتها وفقا لما نشرته جريدة الأهرام فى حينها، وغيرها كثير.
ليت المسئولين يفيقون وينتبهون لحال البلد قبل أن تتفاقم المسألة ويصبح من الصعب تداركها.
11 إبريل 2014
وفيما يلى بعض الروابط المتعلقة بالموضوع : رابط منظمة إفريقيا أوروبا الواقع والعدالة : http://www.aefjn.org/index.php/materiel-410/articles/la-banque-mondiale-est-un-acteur-important-dans-le-phenomene-daccaparement-de-terres.html تقرير البنك الدولى ومعه تعليق تحليلى عما أخفاه التقرير : http://www.grain.org/article/entries/4023-le-rapport-de-la-banque-mondiale-sur-l-accaparement-des-terres-au-dela-du-rideau-de-fumee تقرير البنك الدولى بالإنجليزية : http://www.donorplatform.org/content/view//457/2687 رابط منظمة اوكسفام : http://www.cultivons.be/fr/qui-sommes-nous رابط أغنى ملاك الأراضى فى العالم : http://www.journaldunet.com/economie/magazine/plus-grands-proprietaires.shtml رابط مقال الدكتور محمد موسى الشريف : http://www.al-omah.com/newsDetail.aspx?NewsID=9329 رابط مقال الأستاذ عامر عبد المنعم : http://www.al-omah.com/NewsDetail.aspx?NewsID=36014 |
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الخميس، 17 أبريل 2014
الإستيلاء على الأراضى : آخر معاقل الإستعمار
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق