هل يضيع المسلمون بين جعجع وعون ؟
شريف عبد العزيز
عشرة آلاف وأربعمائة كيلو متر مربع فقط لا غير ، تلك هي المساحة الكلية للبلد الأشد اضطرابا ، والأهم موقعا ، والأكثر تباينا ، والأوسع تأثيرا ، لبنان بلد السحر والجمال ، بلاد شجر الأرز الشامخ ، والشمس والساحل ، لبنان برج الشرق ومرآته ، والتجسيد الحي لكل التيارات السياسية والثقافية والدينية في منطقة الشرق الأوسط ، باختلاف توجهاتها وارتباطاتها الإقليمية والدولية ، لبنان كان وما زال واحدا من أعقد ملفات المنطقة ، وقنبلة موقوتة لا ينزع فتيلها ، ولا تهدأ نارها أبدا.
جاء إعلان الجماعة الإسلامية في لبنان ـ تيار الإخوان المسلمين ـ عن نيتها تأييد المرشح الرئاسي عن تكتل 14 آذار المدعومة غربيا وخليجيا " سمير جعجع " صاحب التاريخ الدموي الكبير ، وأحد سفاحي صبرا وشاتيلا ، وذلك على حساب السفاح الثاني مرشح كتلة 8 آذار " ميشيل عون " المدعوم سوريا وإيرانيا ، لتلقي بظلال جديدة على أم المشاكل اللبنانية ، وأصل الفساد في البنية اللبنانية الداخلية ، ونقصد بها " الطائفية " . فقد كشف هذا الخيار الاضطراري المستغرب عن حجم وأثر وخطورة الخلل البنيوي في النظام القائم على قاعدة الطائفية في لبنان ، كما كشف عن عمق تأثير الطائفية وانعكاساتها الخطيرة على الاستقرار الإقليمي والدولي.
فلبنان بلد مشحون بالصراعات الطائفية منذ عهد الإدارة العثمانية ، حيث كان يعرف بإقليم " الجبل " نسبة إلى جبل لبنان ، وكان الصراع على أشده بين النصارى الموارنة وفرقة الدروز الباطنية ، ووقعت العديد من المذابح بين الجانبين ، مما أثقل الذاكرة اللبنانية بسوداوية زادها الأيام والوقائع سوادا .
لبنان بلد أريد له منذ دخول الاحتلال الأوروبي إلى عالمنا العربي والإسلامي ، أن يكون بؤرة توتر دائمة . ففرنسا عندما استفردت بالانتداب على بلاد الشام وفقا لبنود اتفاقية سايكس ـ بيكو تجاوبت سريعا مع مطالب نصارى لبنان الجبل الرامية لتأسيس وطن قومي للنصارى ، على حساب المسلمين ، فقاموا بقضم أربعة أقضية من سوريا الكبرى وضمها للبنان الصغير أو الجبل وهي: سهل البقاع وبعلبك وطرابلس وصيدا وصور ، معلنة استقلال لبنان تحت انتدابها سنة 1920 ، وبلغة طائفية حادة وأثر فرنسي كبير تم وضع أول دستور للبنان سنة 1926 ، ولم يزده استقلال 1943 إلا طائفية ، بعد أن توافق اضطراريا زعامات لبنان النصرانية بكل طوائفها والمسلمة بكل طوائفها ، على محاصصة طائفية يتم تسيير الحياة السياسية بموجبها وفق تركيبة غريبة جعلت للنصارى تمثيلا أكبر من تكوينهم ، فلهم الرئاسة ، ولأهل السنة رئاسة الوزارة ، وللشيعة رئاسة البرلمان ، وكذلك سائر الوظائف والمناصب القيادية في البلاد ، مع احتفاظ النصارى الموارنة بمعظم الوظائف الأمنية والمخابراتية والمالية في الحكومة ، ومن سنة 1943 ولبنان يسير وفق هذه الأراجيح والقواعد المركبة.
هذه الطائفية السياسية مثلت معاناة مزمنة للدولة اللبنانية صارت بها الدولة زبونا دائما على قائمة الدول الأكثر فشلا ، فالطائفية اللبنانية هي العنصر والمحرك الأساسي في دينامكية عمل النظام ، وكذلك هي العامل الفاعل الأول في طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، فالطائفية تدخل في كل كبيرة وصغيرة في لبنان؛ فالأحزاب السياسية طائفية ، والدستور طائفي ، والسلطات الثلاثة طائفية ، حتى النوادي الرياضية ، والأفلام والمسلسلات طائفية ، فالطائفية ترمي بأطنابها في كل بقعة على أرض لبنان.
الطائفية اللبنانية أدت لاستقلال الطائفة ، واستحواذها على مجالات معينة في الدولة ، وهذا أدى بدوره لفقدان معنى سلطة الدولة وهيبتها ودورها بسبب عدم ممارستها لوظائفها اليومية ، فجل ما تفعله الدولة هو نوع من الإجراءات التي لا تمس استقلال الطوائف ولا تشكل تهديدا لكيانها واستقلاليتها ، لذلك فقد حرص النصارى في خريطة الطائفية على بقاء معظم الوظائف والمناصب الأمنية في أيديهم ، خاصة قيادات الجيش ، مما جعل المسلمون دائما في حالة استنفار وتوجس وحذر من المكون الماروني في لبنان ، لذلك لم يكن مستغربا أن يؤيد كثير من قيادات النصارى في لبنان الاحتلال الصهيوني لبلادهم ، كذلك لم يكن مستغربا رفض الموارنة الاشتراك في الدفاع عن جنوب لبنان بعد وقوعه تحت الاحتلال الصهيوني ، حيث لا يشعر المواطنون اللبنانيون بمعنى الوطن والمواطنة تجاه بلدهم الأم لبنان.
الطائفية هي أس كل بلاء وقع على أرض لبنان ، وكل المآسي التي شهدتها البلاد منذ الاستقلال سنة1943 حتى وقتنا الحالي سببها الطائفية ، فالنصارى يرون لبنان الدولة والوطن جزءا من الغرب الأوروبي النصراني ، والمسلمون يرون لبنان الدولة والوطن جزءا من العالم العربي الإسلامي ، وبين التباين في هاتين النظرتين ضاع لبنان ، ومزقته الطائفية ، فأحداث 1958 الدموية التي راح ضحيتها 1200 لبنانيا ، كانت بسبب التطورات السياسية الإقليمية والوحدة بين مصر وسوريا ،والثورة العراقية في نفس السنة ، وارتفاع المد القومي العروبي في المنطقة ، وانسحاب آثار هذه التطورات على لبنان ونظامه السياسي وزعاماته الطائفية ، فقد سارع الرئيس اللبناني الموالي للغرب " كميل شمعون " باستدعاء أمريكا لحماية لبنان من المد القومي الوحدوي ، فبادرت أمريكا وأرسلت قواتها البحرية إلى سواحل لبنان ودخول العاصمة اللبنانية ومنع قوى المعارضة من تغيير النظام الأساسي للطائفية السياسية . وفي أزمة الحرب الأهلية ( 1975 ـ 1990 ) انطلقت كل شياطين الطائفية لتحول لبنان إلى ساحات قتال وخراب وحمامات دم راح ضحيتها مئات الألوف من القتلى والجرحى ، واحتل الصهاينة الشريط الجنوبي للبنان ، ودخلت سوريا بكل ثقلها ، وتوترت المنطقة بشدة ، وصارت لبنان ميدانا للصراع الدولي بكل تداعياته وحساباته وتوازناته ، وصار كل حدث أو مشكلة دولية نجد أثرها وتداعياتها في الوطن اللبناني لشدة تداخله إقليميا ودوليا مع الأطراف المؤثرة.
الطائفية اللبنانية سمحت خلال فترة الحرب الأهلية الطويلة بظهور قوى سياسية شيعية بأذرع عسكرية مسلحة تسليحا قويا ، مثل حركة أمل وحزب الله الشيعي ، في حين لم تسمح بظهور مثلها ـ أقصد العسكرية ـ لأهل السنة في لبنان ، بسبب انحياز أهل السنة إلى اللاجئين الفلسطينيين في الحرب الأهلية ضد النصارى الموارنة وحلفائهم ، وكان هذا الضعف العسكري لأهل السنة في المعادلة الطائفية اللبنانية من أسوأ تداعيات هذه الحرب الأهلية ، فقد كان أهل السنة الطائفة الوحيدة التي ذهبت الى اتفاق الطائف ورجعت بلا شيء. فلم يكن للسنة عندما بدأ مؤتمر الطائف إلاّ بقيّة من زمن ناصريّ غابر وبعضا من أمجاد قوميّة عربيّة باهتة ، لم تكن مؤهلة لإدراك خطورة وحساسية اللحظة ، فعادوا بعد أن كسرت شوكتهم ، وذهب ريحهم ، واستأسد الشيعة عليهم ، ومن يومها المسلمون السنة هم الجانب الأضعف قوة ، والأقل تأثيرا ، والأكثر تأثرا ، من تداعيات طائفية لبنان التي لا تنتهي.
وغير الضعف العسكري الذي عليه أهل السنة في لبنان فهم يعانون من مشاكل أخرى لا تقل خطورة وتأثيرا ، من أبرزها غياب القيادة السياسية الواعية بمشاكل أهل السنة واحتياجاتهم ، والقادرة على توحيد الصف السني ، في مواجهة التهديد الشيعي النصراني المشترك ، فتيار المستقبل الذي يقوده سعد الحريري في لبنان والذي يمثل أهل السنة سياسيا ؛ تيارا علمانيا له ارتباطات خارجية أكثر منها داخلية ، وشباب أهل السنة يعانون من فراغ ديني وثقافي كبير في ظل البيئة العلمانية الضاغطة علي كثير منهم ، أيضا يعاني أهل السنة من الرؤية المنهجية التي توحد صفوفهم ، وهم يعانون أيضا من تجاهل الحكومات العربية السنية التي من الممكن أن تقدم للبنان كل الدعم إلا دعم المسلمين فيها ، في حين أن إيران الفارسية تقدم الدعم بلا حدود للتنظيمات والمليشيات الشيعية في لبنان ، وتوفر لها غطاءا سياسيا ودعما لوجستيا وعسكريا جعل المليشيات الشيعية مثل أمل وحزب الله رقما صعبا في الحياة السياسية اللبنانية ، بل إن قوتهما العسكرية تفوق قوة الجيش اللبناني كله ، وكما قيل من قبل : من يمتلك السلاح والقوة ، يمتلك القرار والقدرة .
ونظرا لهذه التداعيات المقيتة للطائفية على أهل السنة في لبنان نجدهم اليوم مضطرين للدخول في مفاضلات بين خيارات صعبة وضيقة ، فهم إما أن يقاطعوا العملية السياسية على ضعفهم وقلة حيلتهم ، على أمل أن يكون لهذه المقاطعة دور في تقوية مركزهم وتحسين أوضاعهم ، وإما أن يراهنوا على أحد الطرفين ، وهما طرفان أحلاهما شديد المرارة ، كلاهما سفاح عدو لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن أحدهما وهو سمير جعجع يعادي سوريا وإيران وسيعمل بكل قوة على تقليل نفوذهما في لبنان ، وسيعمل على تحجيم دور حركة حزب الله الشيعي في لبنان ، وربما منعه من الاشتراك بأكثر من ذلك في الشأن السوري ــ وإن كنت أظنه لا يفعل لعداوته للإسلام والمسلمين ــ وهو مدعوم دوليا وخليجيا ، وإما أن يختاروا ميشيل عون المدعوم سوريا وإيرانيا وروسيا ، ويريد مزيدا من التدخل السوري في الشأن اللبناني .
وبين جعجع وعون ما زال يتخبط المسلمون ، وكأني بأهل السنة في لبنان ينشدون قول الشاعر الهاشمي الشهير " عيسي بن موسي ":
خيرت أمرين ضاع الحزم بينهما * إما صغار وإما فتنة عمــــم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق