لماذا لا يثور الجزائريون ؟!
تمثل الجزائر نموذجا فريدا في إقليمنا العربي ، حيث جمعت بين كل المتناقضات التي توافرت في دول الربيع العربي التي شهدت أحداثا درامية عاصفة منذ مطلع 2011 ، ومع ذلك ظلت الجزائر بمنأى عن هذه التغييرات الثورية ، ولم تطلها رياح التغيير التي أخذت ذات اليمين وذات الشمال من حولها ، فالحالة الجزائرية ليست متفردة عن قريناتها المصرية والتونسية والليبية والسورية واليمنية . وبها من شرائط الثورة ما كان متوافرا عند جيرانها وزيادة ، فالجزائر بلد ثري بثرواته النفطية الضخمة التي كان من المفترض أن تجعله في مصاف الدول المتقدمة ، بل إنها قد أقرضت صندوق النقد الدولي 5 مليارات دولار عام 2012 ، ووضعها الاقتصادي قوي كما أكد ذلك تقرير صندوق النقد في 2012 أن الجزائر من البلاد الأقل مديونية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحتل المرتبة الثانية في المنطقة بعد السعودية من حيث احتياطي النقد الأجنبي، وارتفعت إيرادات الجزائر غير النفطية بنسبة 26% خلال العام الماضي لتبلغ 26 مليار دولار، بينما حصدت البلاد نحو 27 مليار دولار من عوائد النفط في النصف الأول من العام الماضي، ولكن رغم الاقتصاد القوي تتفاقم حالة الفقر لدى الشعب الجزائري، إذ تشير الإحصاءات إلى أن أكثر من ربع سكان البلاد تحت مستوى خط الفقر، رغم الأرباح الكبيرة التي تجنيها الدولة من خلال الارتفاع المتواصل لأسعار النفط، وهو ما يجعل الكثيرين يتساءلون "أين تذهب عوائد النفط"؟
وبجانب الفقر، تعاني الجزائر من ارتفاع مطرد في البطالة التي تبلغ 10% من إجمالي القوى العاملة، حيث تحتل الجزائر المرتبة الـ 14، من حيث معدل البطالة، بحسب بيانات صندوق النقد الدولي. مما أدى لتعرض البلاد لموجة احتجاجات على البطالة والفقر والظروف المعيشية الصعبة، حيث أحصت مديرية الأمن الجزائري خلال 2012 نحو 4536 احتجاجاً، منها 3029 احتجاجا اتخذت طابعاً عنيفاً، كما انطلقت عدة مسيرات، خاصة في المحافظات الجنوبية، تنديداً بمستويات البطالة المرتفعة، ارتفع سقف المطالب بها إلى رحيل الحكومة. وبدوره أدى ارتفاع معدلات البطالة لانتشار ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي يطلق عليها في الجزائر اسم " الحرّاقة " نسبة إلى المراكب التي يستخدمها الشباب الباحث عن فرص وأحلام للحياة الكريمة في أوروبا ، وهي أحلام غالبا ما تبتلعها الأمواج الهادرة للبحر المتوسط .
أيضا معدلات الفساد الحكومي والإداري بلغ معدلات قياسية جعل الجزائر يحتل مرتبة متأخرة في تقرير منظمة الشفافية لعام 2013، حيث احتلت المرتبة 105، وفي المرتبة الثـانـية عشرة من بين 17 بلداً في الشـرق الأوسـط وشمال أفريقـيا، كما يشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول القدرة التنافسية، أن النظام القضائي في الجزائر يعاني تدخّل أعضاء السلطة التنفيذية وشركات وأفراد أقوياء، ويصنّف التقرير الجزائر في المرتبة 123 من أصل 144 دولة في مجال استقلال القضاء، ما يجعلها تتخلف عن كل بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا باستثناء لبنان
أيضا يسيطر العسكر على الحياة السياسية الجزائرية منذ الاستقلال أي أكثر من خمسين سنة حتى وقتنا الحاضر ، فمن ثمانية رؤساء للجزائر منذ الاستقلال لم يكن منهم مدنيا سوى رئيس واحد ، ويتحكمون في مصائر الساسة والأحزاب والمشهد السياسي برمته ، وهم الذين ألغوا أول انتخابات نزيهة وديمقراطية في لجزائر بعد أن أتت بالإسلاميين سنة 1992 ، وقاموا في سبيل بقاء سلطانهم ونفوذهم بإغراق البلاد في حمامات دماء مهولة . أيضا محاولات التوريث التي بذلت في مصر وليبيا واليمن جرى مثلها في الجزائر عندما حاول الرئيس الحالي بوتفليقة توريث أخيه الأصغر " سعيد " سنة 2010 ، ولكن محاولاته باءت بالفشل بسبب هبوب رياح الثورة في المشرق . أيضا الرئيس الجزائري الحالي يعتبر شبه ميت بعد وعكات صحية متتالية منذ 2005 حتى 2013 ولا يباشر غالب سلطاته ، كما كان الحال مع مصر ورئيسها العجوز المخلوع مبارك الذي قد بلغ الثالثة والثمانين يوم أن قامت عليه الثورة وهو يطمح في المزيد .
أما مستوى الحريات السياسية والاجتماعية والإعلامية ، وهامش السماح لأحزاب المعارضة والأصوات المخالفة للسلطة ، فهو لا يختلف كثيرا عن معدلاته في بلدان الربيع العربي . فقد اتهمت منظمة العفو الدولية الاثنين الماضي السلطات الجزائرية بتكميم الأفواه المنتقدة والحدِّ من حرية التعبير مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، معتبرة أن ذلك يُعيد إلى الأذهان أوجه الخلل المقلقة بسجل البلاد لحقوق الإنسان بشكل عام.وقالت المنظمة إن التدابير المتخذة لتكميم أفواه المنتقدين وقمع الاضطرابات الاجتماعية تحتل موقعا متقدما في إطار عدد من بواعث القلق المتعلقة بحقوق الإنسان مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في 17 أبريل 2014، وقالت مديرة برنامج الأبحاث في منظمة العفو الدولية نيكولا داكويرث إن إستراتيجية السلطات الجزائرية تقوم على قمع أي محاولة للوقوف في وجهها أو ضد سجلها، وتعمد إلى تصعيد وتيرة القمع، وتظهر أنها ليست مستعدة للتسامح بشأن أي انتقاد علني على أي مستوى، مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية.
فما الذي جعل الجزائر بعيدة عن التغيير الثوري وعصية على التغيير حتى الآن ؟
ولماذا لا يثور الجزائريون ضد انتخاب رئيس شبه ميت لولاية رابعة ، رغم تكامل كل شرائط الثورة ، وتفنن السلطة في استفزاز الشعب لا يثور ، ولكنه لا يثور ؟!
السبب الرئيسي لبقاء الجزائر في مأمن من رياح التغيير على الأقل حتى الآن ، يرجع إلى طبيعة الوعي الجمعي للشعب الجزائري والذي تغير جذريا بسبب الأحداث الدموية والمأساوية لما يعرف بالعشرية الحمراء أو السوداء في التاريخ الجزائري الحديث ، وهي الأحداث التي تلت إلغاء أول انتخابات ديمقراطية نزيهة عقدت بالجزائر منذ استقلالها والتي أتت بالتيار الإسلامي الجزائري ـ جبهة الإنقاذ ـ سنة 1992 ، فقد قام العسكر بإجهاض هذه التجربة الوليدة بإيعاز من فرنسا صاحبة النفوذ الأكبر في الجزائر ، ولم يكتف العسكر بإجهاض التجربة ولكن جرّ البلاد لاضطرابات وأعمال عنف مرعبة كشف النقاب عن كثير من تفاصيلها الضابط المتقاعد " الحبيب سويدية " في كتابه الشهير " الحرب القذرة " ، وقد استمرت المذابح والاضطرابات طيلة العقد الأخير من القرن العشرين ( 1992 ـ 2000) وخلّفت ورائها مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين ، كما خلّفت أيضا جراحا غائرة في عقول ونفوس الجزائريين جعلتهم يكرهون كل ما يذكرهم بتلك الأحداث ، يكرهون التغيير ويكرهون الثورة ـ رغم تاريخهم الثوري المجيد ـ ويكرهون الإسلاميين ، ويكرهون الديمقراطية ، ويكرهون الحرية التي قد تقودهم لذكريات الماضي الأليم . وأصبح الاستقرار الذي نجح بوتفليقة في تحقيق قدر منه ، بغض النظر عن طبيعته وكيفيته وسلطته هدفا رئيسيا عند الشعب الجزائري لا يفكر في التنازل عنه مهما كانت التضحيات ، ولا يعدلون به على هشاشته أي توقعات وردية بمستقبل أزهر ، وهو الأمر الذي أحسن العسكر وأدواتهم العزف علي أوتاره بامتياز طوال الخمسة عشر سنة الماضية . ومما زاد في قناعات الجزائريين برفض الثورة والرضا بالوضع القائم مهما كان مترديا ، مآلات الثورات المأساوية في مصر وليبيا واليمن ، ومشاهدها الدموية المروعة في سوريا وكلها أمور رسخت قناعات السكون والاستسلام للواقع الأليم .
غدا الخميس تعقد الانتخابات الرئاسية الجزائرية ، ورغم التنافس الظاهري لستة مرشحين إلا إنها محسومة لبوتفليقة المريض بدرجة جعلته رهين العناية المشددة لأكثر من أربعة شهور ، والذي يعتبر من الناحية الطبية نصف ميت ، حتى أنه لم يظهر منذ عودته من رحلة علاجه بفرنسا سوى ثلاثة مرات فقط وكانت على شاشات التلفاز ، ولا يتوقع أدنى مفاجأة في نتيجة الانتخابات ، بحيث يظن البعض أنه سيسمع اسما مغايرا في رئاسة البلاد ، فالجزائر شعبا وبلدا في مأمن تام من رياح التغيير بعد أن سيطرت الدراما الطريفة على المشهد القائم حتى أن ولاية معسكر في غرب الجزائر، التي لا تكاد تنتج سوى البطاطا، ستتحول في حال انتخب بوتفليقة إلى كاليفورنيا جديدة، تلك الولاية الأميركية التي يكاد اقتصادها يوازي اقتصاديات دول الشمال الأفريقي مجتمعة وزيادة . فدعك من أحاديث الحريات والديمقراطيات ، وابتسم فأنت في الجزائر المستقرة .
السبب الرئيسي لبقاء الجزائر في مأمن من رياح التغيير على الأقل حتى الآن ، يرجع إلى طبيعة الوعي الجمعي للشعب الجزائري والذي تغير جذريا بسبب الأحداث الدموية والمأساوية لما يعرف بالعشرية الحمراء أو السوداء في التاريخ الجزائري الحديث ، وهي الأحداث التي تلت إلغاء أول انتخابات ديمقراطية نزيهة عقدت بالجزائر منذ استقلالها والتي أتت بالتيار الإسلامي الجزائري ـ جبهة الإنقاذ ـ سنة 1992 ، فقد قام العسكر بإجهاض هذه التجربة الوليدة بإيعاز من فرنسا صاحبة النفوذ الأكبر في الجزائر ، ولم يكتف العسكر بإجهاض التجربة ولكن جرّ البلاد لاضطرابات وأعمال عنف مرعبة كشف النقاب عن كثير من تفاصيلها الضابط المتقاعد " الحبيب سويدية " في كتابه الشهير " الحرب القذرة " ، وقد استمرت المذابح والاضطرابات طيلة العقد الأخير من القرن العشرين ( 1992 ـ 2000) وخلّفت ورائها مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين ، كما خلّفت أيضا جراحا غائرة في عقول ونفوس الجزائريين جعلتهم يكرهون كل ما يذكرهم بتلك الأحداث ، يكرهون التغيير ويكرهون الثورة ـ رغم تاريخهم الثوري المجيد ـ ويكرهون الإسلاميين ، ويكرهون الديمقراطية ، ويكرهون الحرية التي قد تقودهم لذكريات الماضي الأليم . وأصبح الاستقرار الذي نجح بوتفليقة في تحقيق قدر منه ، بغض النظر عن طبيعته وكيفيته وسلطته هدفا رئيسيا عند الشعب الجزائري لا يفكر في التنازل عنه مهما كانت التضحيات ، ولا يعدلون به على هشاشته أي توقعات وردية بمستقبل أزهر ، وهو الأمر الذي أحسن العسكر وأدواتهم العزف علي أوتاره بامتياز طوال الخمسة عشر سنة الماضية . ومما زاد في قناعات الجزائريين برفض الثورة والرضا بالوضع القائم مهما كان مترديا ، مآلات الثورات المأساوية في مصر وليبيا واليمن ، ومشاهدها الدموية المروعة في سوريا وكلها أمور رسخت قناعات السكون والاستسلام للواقع الأليم .
غدا الخميس تعقد الانتخابات الرئاسية الجزائرية ، ورغم التنافس الظاهري لستة مرشحين إلا إنها محسومة لبوتفليقة المريض بدرجة جعلته رهين العناية المشددة لأكثر من أربعة شهور ، والذي يعتبر من الناحية الطبية نصف ميت ، حتى أنه لم يظهر منذ عودته من رحلة علاجه بفرنسا سوى ثلاثة مرات فقط وكانت على شاشات التلفاز ، ولا يتوقع أدنى مفاجأة في نتيجة الانتخابات ، بحيث يظن البعض أنه سيسمع اسما مغايرا في رئاسة البلاد ، فالجزائر شعبا وبلدا في مأمن تام من رياح التغيير بعد أن سيطرت الدراما الطريفة على المشهد القائم حتى أن ولاية معسكر في غرب الجزائر، التي لا تكاد تنتج سوى البطاطا، ستتحول في حال انتخب بوتفليقة إلى كاليفورنيا جديدة، تلك الولاية الأميركية التي يكاد اقتصادها يوازي اقتصاديات دول الشمال الأفريقي مجتمعة وزيادة . فدعك من أحاديث الحريات والديمقراطيات ، وابتسم فأنت في الجزائر المستقرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق