قبل النرش وبعد النرش
وائل قنديل
السؤال الأساسي في مصر الآن: مع النرش أم ضد النرش؟
طغت قضية سيدة المطار (ياسمين النرش) على ما سواها من أمور، بدءاً من التفلت من استحقاق الانتخابات النيابية، مروراً بالوضع الكارثي في سيناء، وليس انتهاء بما يتكشف يومياً عن حجم وحقيقة الدور المصري في عاصفة الحزم، معها أو ضدها، لا أحد يعلم على وجه اليقين.
تحت غيمة النرش، لا مجال للنظر في مسائل أخرى، تستمر مقصلة الإعدامات في العمل، وتواصل آلة الوحشية البوليسية إنتاجها، فيطأ شرطي بحذائه الثقيل صدر معتقل، فلا يتوقف أحد، أو يرى في الأمر ما يستحق الغضب.
باختصار تم تحويل مجرى الحديث من "كلنا خالد سعيد" إلى "كلنا ياسمين النرش"، تم ذلك بنجاح منقطع النظير، باستخدام أحدث تقنيات الإنتاج السينمائي، من دقة التصوير إلى اتساع التوزيع، إلى استخدام أسلوب الدراما المقطعة، بحيث ينتشر العمل السينمائي على أجزاء متعاقبة، كنوع من الإثارة والتشويق واختطاف الدماغ على نحو كامل، بدا معه وكأن تاريخ مصر الحديث ينقسم إلى عصرين: قبل النرش وبعد النرش.
هل كان من الممكن ألا تعرف قصة سيدة المطار طريقها للسوشيال ميديا ومنها لوسائل الإعلام؟
نعم لو أرادت وزارة الداخلية ذلك.
إن السلطة، أي سلطة، لديها طوال الوقت أدواتها وأساليبها للعب مع الرأي العام، وبه، وحين يكون على قمة السلطة رجل مخابرات، قادم من مؤسسة اعترفت أثناء أحداث ثورة يناير بأنها كانت تتحكم في إيقاع الميادين، بما لديها من ورش إنتاج الشائعات، وتصنيع قصص الإثارة، يكون منطقياً للغاية أن تلجأ وزارة الداخلية لهذا النوع من الحلول، خصوصاً مع الحملة الإعلامية، من أجنحة أخرى داخل مؤسسة الانقلاب، ضد ممارساتها وأساليبها الوحشية.
ويبقى عنصر المفاجأة هنا هو المتلقي، والذي أقدم على استهلاك هذه التوليفة من الحكايات المخدرة، رغم إدراكه في داخله أنها قصص مصنوعة للإلهاء، بما يؤشر على حالة إنهاك أصابت الجماهير، دفعتها للإحساس باللا جدوى من التعامل بجدية مع كل ما يطرح عليها، خصوصاً بعد انكشاف عملية النصب بالأرقام التي جرت في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، ثم سقوط خرافة "مصر قد الدنيا" وانهيار أسطورة "مسافة السكة" مع اختبار عاصفة الحزم، وإهانة العسكرية في جبال وكهوف سيناء، في معركة لا يعلم سرها إلا كهنة المعبد.
إن تجارب التاريخ تقول إنه غالباً ما تنتعش سوق الخرافة والشعوذة في فترات الانحطاط والهزائم الحضارية، ولديك سبعينيات القرن الماضي نموذجاً، حيث اندلعت عقب الانفتاح الساداتي، والالتحاق بالمعسكر الأميركي الصهيوني، موجة سينما المقاولات، تعتمد الإثارة والدجل والإسفاف منهجاً، ودخلت الأغنية الشعبية حالة من العدمية والركاكة والبذاءة أحياناً، وهاجر المثقفون والمبدعون الحقيقيون، ومن بقي منهم معارضاً، كان مصيره السجن، ليطعن السادات الجميع بعدها بقفزته إلى الكنيست الإسرائيلي.
والآن، ولكي تكتمل حالة الدجل العام، كان لا بد من إغراق حقول الثرثرة بمجموعة من أحلام الإثارة السياسية، فمع زيارة محمد دحلان للقاهرة، يخرج أساطين الإعلام العكاشي (العسكري) بحدوته انهيار مصر والسعودية يوم (5-5-2015)، ثم يكمل ضاحي خلفان بحلم مخيف رأى فيه أحداثاً جساماً ستقع في سيناء غداً "الجمعة"، ثم تخرج فجر السعيد برأي أو رؤية داعمة للحلم الخلفاني، وبالتزامن يجري الإعلان عن افتتاح فرع "داعش غزة"، وتتصاعد مجدداً حملات التحريض على حماس، وفي ورش مثل تلك التي أنتجت "فيلم النرش" تعود الأخبار المنقولة عن المصادر إياها عن تصفية إرهابيين متسللين من غزة، بالطريقة ذاتها التي كانت تخلق بها الأخبار في فترة التحضير للانقلاب، وتنقل في أجولة إلى صحف الدولة العميقة في مصر.
لقد تحدثوا وسربوا مراراً سيناريوهات حمقاء تخص سيناء وغزة، وأخشى أن تدفع قضية العرب المحورية ثمن نزق وحماقة الذين صنعوا "قضية النرش" خطفوا بها الوعي وأغرقوا العقول، ويريدونها ملهاة تصرف الأنظار عن جرائم ترتكب بحق التاريخ والجغرافيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق