لماذا عاد الشيطان لأفريقيا بعد 22 سنة؟!
ـ لا شيء يقع في محيطنا الإقليمي وفضائنا الاستراتيجي مصادفة أو خبط عشواء ، وعندما تسير في حقل ألغام ممتلئ لآخره بالألغام والمتفجرات والأشراك فلابد أن تحسس موضع قدميك ، ولا ترفع قدم أو تضع الأخرى إلا وأنت تبصر ـ من البصيرة ـ لا ترى فحسب ما تحت قدميك . لذلك لا يمكن وصف تحرك رئيس الوزراء الإسرائيلي " نتنياهو " هذا الأسبوع نحو القارة الأفريقية وزيارته لعدة دول ، واجتماعه مع رؤساء دول حوض نهر النيل ، وذلك لأول مرة لرئيس وزراء إسرائيلي منذ 22 سنة على أنه مجرد إحياء لذكرى أخيه المقتول في أحداث عنتيبي، أوتجديد لمواثيق الصداقة !! فالأمر أبعد من ذلك بكثير ، خاصة أن كان هذا التحرك آتيا بعد هذه السنوات الطويلة ، والمتحرك هو شيطان يهود الذي من طبيعته الخاصة أنه قليل السفر إلى الخارج . وأن الأوضاع الإقليمية شديدة التوتر والالتهاب ، فلماذا عاد الشيطان لأفريقيا بعد 22 سنة من البعاد ؟
إسرائيل وأفريقيا تاريخ ملتبس وبرجماتية متقلبة
ـ أفريقيا لم تكن قارة مجهولة على مستوى التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي وذلك مقارنة بقارات العالم الأخرى. فأميركا اللاتينية مثلت دائرة نفوذ للولايات المتحدة الأميركية، كما أن إسرائيل وجدت دعما ومساعدة من القوى الغربية الرئيسية في أوروبا. وهنا كان عليها في سعيها للبحث عن الشرعية الدولية أن توجه أنظارها إلى آسيا وأفريقيا. أما بالنسبة لآسيا فقد كانت أشبه بالقارة "المغلقة" أمامها لوجود دول كبرى قطعت شوطا كبيرا في ميدان التنمية الاقتصادية، وتضاؤل فرص تسويق النموذج الإسرائيلي في التنمية، ووجود دول وجاليات إسلامية كبيرة وهو ما يجعلها أقرب لتأييد الموقف العربي. وعليه فقد كانت أفريقيا -التي تؤهلها مكانتها الجيوإستراتيجية فضلاً عن وجود عدد كبير من الدول بها والتي تتطلع للحصول على مساعدات تنموية وتقنية من الخارج- الخيار المناسب أمام صانع القرار الإسرائيلي .
ـ ويمكن التمييز بين أربع مراحل أساسية في تطور مسيرة العلاقات بين إسرائيل وأفريقيا:
1 ـ مرحلة الانتباه : وامتدت من سنة 1948 ـ 1957 ، فبعد إعلان قيام الدولة العبرية عام 1948 أولى صانع القرار الإسرائيلي اهتماماً كبيراً بتأسيس علاقات قوية وراسخة مع القوى الكبرى الأساسية في العالم مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي. يعني ذلك أن إسرائيل في بحثها عن شرعية الوجود على الساحة الدولية وتأمين وجودها العضوي لم تنظر إلى المستعمرات الأفريقية بل انصب جل اهتمامها على القوى الاستعمارية الأوروبية ، مما جعلها تهمل علاقاتها مع القارة ، غير أن نقطة التحول الأساسية في التوجه أفريقيا، والانتباه لأهميتها الإستراتيجية تمثلت في عقد مؤتمر باندونج عام 1955، إذ لم توجه الدعوة إلى إسرائيل لحضور هذا الحدث التاريخي الهام، بل ولم يقف الأمر عند هذا الحد حيث أدان المؤتمر في بيانه الختامي احتلال إسرائيل للأراضي العربية ، فكانت لطمة سياسية قوية لإسرائيل دفعتها في التفكير في الخروج من شرنقة الحصار العربي ، بالالتفاف حول المحيط العربي باتساع أكبر يشمل المحيط الأفريقي .
2 ـ مرحلة التغلغل : وامتدت من سنة 1957 وحتى سنة 1973 ، وخلالها حصل عدد كبير من الدول الأفريقية على استقلالها مما أدى إلى زيادة المقدرة التصويتية لأفريقيا في الأمم المتحدة حيث كان الصراع العربي الإسرائيلي من أبرز القضايا التي تطرح للتصويت ،فكانت إسرائيل أول دولة أجنبية تفتح سفارة لها في أكرا بعد أقل من شهر واحد من حصول غانا على استقلالها ، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن إسرائيل كانت تقدم نفسها بوصفها دولة صغيرة الحجم مواجهة بمشكلات وتحديات جمة ومع ذلك تطرح نموذجا تنمويا يحتذى به من قبل الدول النامية الأخرى، فعندها يمكنا فهم طبيعة علاقاتها المبكرة بالدول الأفريقية.وبحلول عام 1966 كانت إسرائيل تحظى بتمثيل دبلوماسي في كافة الدول الأفريقية جنوب الصحراء باستثناء كل من الصومال وموريتانيا .
3 ـ مرحلة القطيعة : من سنة 1973 ـ 1991 ، فقد أدى العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن، آنذاك، إلى تغيير صورة إسرائيل، من دولة فتية ومسالمة في نظر الأفارقة، إلى دولة قوية عدوانية وتوسعية.وشكلت حرب 1967 بداية مراجعة لدى بعض الدول الأفريقية، وبداية مسار لقطع العلاقات شمل آنذاك أربع دول فقط هي غينيا، وأوغندا، وتشاد، والكونغو برازفيل.وعقب حرب أكتوبر أول 1973 مع مصر وسوريا، عمدت الدول الأفريقية إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بشكل جماعي بقرار ملزم صادر من منظمة الوحدة الأفريقية، حيث قطعت 31 دولة علاقتها مع تل أبيب، إلا أن بعض الدول الأفريقية بدأت في إعادة علاقاتها مع إسرائيل بشكل فردي إثر توقيع مصر وإسرائيل على اتفاقية كامب ديفيد للسلام في عام 1978.ورغم أن الموقف الأفريقي كانت له دلالات سياسية ودبلوماسية واضحة من زاوية الصراع العربي الإسرائيلي فإن إسرائيل ظلت على علاقة وثيقة -بشكل غير رسمي- مع معظم الدول الأفريقية التي قامت بقطع العلاقات معها. وليس أدل على ذلك من أن التجارة الإسرائيلية مع أفريقيا في الفترة من عام 1973 وحتى عام 1978 قد تضاعفت من 54,8 مليون دولار إلى 104.3 ملايين دولار. وتركزت هذه التجارة بالأساس في الزراعة والتكنولوجيا.
4 ـ مرحلة التطبيع : وهي مستمرة منذ سنة 1991حتى اليوم ، وفيها عملت إسرائيل على تطبيع علاقاتها مع كل الدول الأفريقية دون استثناء ، قد شهدت هذه المرحلة إعادة تأسيس العلاقات بين إسرائيل وأفريقيا مرة أخرى ولا سيما خلال عامي 1991 و1992 ، بسبب تداعيات مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991 والذي فتح المجال لإسرائيل للتطبيع ككيان طبيعي معترف به من قبل أعدائه وخصومه التاريخيين مع سائر دول العالم ، وقد تسارعت عودة العلاقات الإسرائيلية الأفريقية حتى إنه في عام 1992 وحده قامت ثماني دول أفريقية بإعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.وطبقا للبيانات الإسرائيلية فإن عدد الدول الأفريقية التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية أو أسستها مع إسرائيل منذ مؤتمر مدريدقد بلغ ثلاثين دولة.وفي عام 1997 بلغ عدد الدول الأفريقية التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل 48 دولة.
ماذا تريد إسرائيل من أفريقيا؟
ـ التغيرات الهيكلية التي شهدها النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وبروز عصر العولمة الأميركية وما صاحب ذلك من تغيرات في النظم الإقليمية ومن بينها منطقة الشرق الأوسط قد أضفى تأثيرات ملموسة على تطور العلاقات الإسرائيلية الأفريقية. فدخول أطراف الصراع العربي الإسرائيلي مسار العملية التفاوضية أدى إلى إضفاء المشروعية المطلوبة على الكيان الصهيوني وتأمين وجوده العضوي، ومن ثم فإنه يسعى في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلى تحقيق أهدافه التوسعية بحسبانه قوة إقليمية وذلك على حساب النظام الإقليمي العربي.وثمة أمور رئيسية تريدها إسرائيل من أفريقيا حددتها من واقع الخبرة التراكمية عبر سنوات الصراع العربي الإسرائيلي ، من أبرزها :
تأمين الجالية اليهودية المقيمة في القارة، فرغم أن أرقام الجالية اليهودية في أفريقيا ليست كبيرة، إلا أنها تُمثل مركزًا للقوة والنفوذ، خاصةً وأن الدول الأفريقية تتسم بهشاشة البنيان المؤسسي والاجتماعي، وتمثل الجالية اليهودية أحد القنوات الهامة التي تعتمد عليها إسرائيل في التغلغل في القارة. فمن المعلوم أن أفريقيا تحتضن جاليات يهودية متفاوتة الأحجام ومتباينة القوة والتأثير. ففي شمال أفريقيا جماعات من اليهود السفارديم الذين قدموا بالأساس من إسبانيا والبرتغال خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر. أضف إلى ذلك جماعات من اليهود الأشكناز التي قدمت إلى أفريقيا من شمال وشرق أوروبا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.وتعد الجالية اليهودية في جنوب أفريقيا واحدة من أغنى الجاليات اليهودية في العالم. وطبقاً لأحد التقديرات فإن مساهمة يهود جنوب أفريقيا في خزانة الدولة العبرية تأتي في المرتبة الثانية بعد مساهمة يهود الولايات المتحدة. فلا يمكن التقليل من أهمية متغير الجاليات اليهودية في توجيه وتخطيط العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، إذ لا يخفى أن نحو 20% من إجمالي المهاجرين اليهود إلى إسرائيل خلال الفترة من 1948 إلى 1995 هم من أفريقيا .
تأمين الممرات المائية : وعلى رأسها البحر الأحمر، فالكيان الصهيوني يصبح دون هذا المنفذ البحري مقطوع الصلة مع نصف الكون ـ أفريقيا واَسيا ـ ، وهي الحقيقة التي اكتشفها الصهاينة بعد إغلاق مضيق باب المندب في حرب 73 ، ونظرا لغياب قواعد عربية واضحة تحكم أمن البحر الأحمر، ومع استقلال إريتريا عام 1993 وابتعادها عن النظام العربي، فإن إسرائيل سوف تضمن تلبية مطالبها الأمنية الخاصة بالبحر الأحمر.
الهيمنة على دول القرن الأفريقي : وذلك لعدة أسباب من أهمها : وجود جالية يهودية كبيرة في إثيوبيا "يهود الفلاشا" ، وارتباط القرن الأفريقي بالبحر الحمر والخليج العربي،وترتيب التوازن الإقليمي في المنطقة، فالوجود الإسرائيلي في المنطقة يساعد على تحقيق متطلباتها الأمنية.
السيطرة على دول حوض النيل : فأطماع الصهاينة في مياه نهر النيل قديمة ولا ينكرها أحد من الساسة الصهاينة على مر العصور ، منذ هرتزل حتى اليوم ، وليس بخاف أن هدف إسرائيل الثابت من وجودها في هذه المنطقة هو الرغبة في الحصول على مياه النهر والضغط على صانع القرار المصري نظرا لحساسية وخطورة "ورقة المياه" في الإستراتيجية المصرية.
نتنياهو يتحرك اليوم بعد سنوات طويلة من استمرار التطبيع الإسرائيلي في عمله بنجاح متزايد ليدشن مرحلة جديدة من التعاون مع الدول الأفريقية عامة ، ودول الحوض خاصة تتناسب مع مستجدات المرحلة الراهنة وحالة الاحتراب الإقليمي الممتدة بطول المنطقة وعرضها ، وتضافر القوى الدولية على حتمية إعادة صياغة سايكس ـ بيكو ، ورسم خرائط جديدة للمنطقة بأقلام الدم ، وظهور قوى جديدة ، وأفول أخرى تقليدية ، وتفكك شراكات تاريخية ، وبناء أخرى بدلا منها ، وحالة الوضوح والصراحة في العداء الغربي لكل ما هو إسلامي وعربي ، والاتفاق العلني بين الطوائف والأقليات على تمزيق جسد الأمة العربية والإسلامية ، وحالة التوهان السياسي التي تسيطر على النخب الحاكمة بعد تزايد المشاكل الداخلية ، ووقوع الجميع داخل بؤرة الخطر بحيث لم يعد ثمة هناك بلد آمن في المنطقة ، الجميع في خطر ، أو يترقب الخطر ، وقبل ذلك كله فشل ثورات الربيع العربي وإجهاضها بأبشع السبل وأكثرها وحشية . لذلك كله فقد توجب اليوم على الصهاينة وكبيرهم " نتنياهو" أن يتحركوا مرة أخرى لبناء شراكة جديدة وكتابة صياغة تفاهم تناسب مستجدات المرحلة ، فالصراع أصبح علنيا ، والأوراق كلها قد ألقيت مكشوفة على الطاولة ، ولم تعد هناك حاجة لمفاوضات الغرف المغلقة ، وصفقات ما وراء الستار، وحوارات الظلام ، فالصراع علني ، والهدف واضح ومعلوم للجميع ، فقط يبقى أن تفيق الأمة وتتحرك قبل فوات الأوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق