الحركات الجهادية تقاوم النظام الدولي أم تدعمه؟! (1)
محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
أكثر ما أجد في كتاب الله بعد التوحيد هو الدعوة للتفكر والتأمل. في كل شيء. فيما يقال، وفيما يُشاهد، وفيما يُسمع من أخبار. فليس لأحدنا أن تجلس مطمئنًا لما في صدره من مفاهيم وتصورات، وعليه أن يعيد النظر مرة بعد مرة بحثًا عن الظواهر وأسبابها ومآلاتها؛ وخاصة بعد أن انتشر التضليل والخداع في هذه الأيام. ولا يعني إعادة التأمل أنك ستتقافز بين الأشياء وتتردد بين كفرٍ وإيمان. أبدًا. فالتأمل كثيرًا ما يثبت الصورة الذهنية ويزيد في حسنها. ودعني أشاركك بعض التأملات فيما يتعلق بالحركات الإسلامية المسلحة من خلال عددٍ من المشاهد. ولكن قبل عرض المشاهد: أذكر القارئ الكريم أن أول مقالٍ لي هنا في المدونات كان رصدًا لتأملات مشابهة في الحالة السلفية العلمية التي أنتمي إليها فلست معنيًا بالتأمل في حالة دون حالة، وإنما نعيد النظر في حال الجميع، والله نسأل رشدًا وعزيمة على الرشد. اللهم آمين.
بعض المشاهد
بعض المشاهد
دعمت بعضُ الأنظمةِ الجهادَ في أفغانستان ضد السوفييت، وانتشر دعاة المجاهدين في كثيرٍ من بلدان المسلمين يحشدون الرجال والطاقات للجهاد، وتكونت قاعدة للجهاد في أرض الأفغان وغلبوا السوفييت، ثم اختفي الجهاد فجأة، وتحول المشهد لحربٍ أهلية بين (المجاهدين).
ظهر الجهاد في البوسنة والهرسك (قلب أوروبا)، وانتشرت أخبار المجاهدين في كل مكانٍ وكانت قلوب المسلمين وألسنتهم مع مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا وألبانيا ومن هبَّ لنصرتهم، واستمر الأمر أعوامًا ثم اختفى فجأة. بين عشيةٍ وضحاها انتهى ذكر الجهاد والمجاهدين في قلب أوروبا وخمدت النار المستعرة كأن شيئًا لم يكن!
ظهر الجهاد في البوسنة والهرسك (قلب أوروبا)، وانتشرت أخبار المجاهدين في كل مكانٍ وكانت قلوب المسلمين وألسنتهم مع مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا وألبانيا ومن هبَّ لنصرتهم، واستمر الأمر أعوامًا ثم اختفى فجأة. بين عشيةٍ وضحاها انتهى ذكر الجهاد والمجاهدين في قلب أوروبا وخمدت النار المستعرة كأن شيئًا لم يكن!
| الجماعات الإسلامية لا تتجه نحو تراكم المعرفة والخبرات العملية كما هو الحال في التيار الأكاديمي، فكلما أخفقت تجربة جاء الشباب وعادوا مباشرة إلى النص المؤسس وبدؤوا من جديد |
وتكرر المشهد في الشيشان، حيث ظهر المجاهدون بقيادة شامل بساييف وخطاب، وبدأت تتشكل لجان لجمع المال وحشد الجماهير لنصرة المجاهدين في الشيشان؛ واستُحضر التاريخ الإمبراطوري للأمة الإسلامية وكيف أنها كانت تحكم أجزاءً كبيرة من أرض الروس، وكيف أن شامل المعاصر يستعيد ذكرى إمامٍ آخر (شامل أيضًا)؛ وبالفعل انتصر الشيشانيون بقيادة المجاهدين الشيشان والعرب بدايةً. ثم طويت صفحتهم فجأة، كأن شيئًا لم يكن.
وفي أيامنا هذه تجربة (داعش) في العراق وعقر دار المسلمين (بلاد الشام).. في أكناف بيت المقدس، كيف انتفشت ثم انكمشت فجأة؟!والتجارب التي صاحبتها في سوريا وليبيا: لم تتمدد؟! وقل مثل هذا عن التجربة الصومالية، والتجربة اليمنية التي كانت تتحدث عن جيش (عدن-أبين)، وعن نفس ربنا الذي يأتي من قبل اليمن كما أخبر الصادق-صلى الله عليه وسلم-، ومحاولة (الجهاد) داخل المجتمعات الإسلامية ضد الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله؛ بل وضد المجتمعات التي سكتت عن تغييب شريعة الله.
هذه مشاهد مختصرة في مراحل مختلفة من تجارب الحركات الإسلامية المسلحة، على سبيل المثال لا الحصر، تشترك جميعها في أنها تشب وتشتد ثم تخمد وتختفي فجأة وكأن شيئًا لم يكن. ولابد من طرح الأسئلة على هذه الظاهرة المتكررة: ماذا يحدث؟؟ هل نحن أمام بناء يشيد؟! هل نحن أمام مد يتصاعد في اتجاه تأسيس كيان يقاوم الظلم بأقصى وأقسى درجات المقاومة (القتال المسلح)؟ هل نحن أمام ظاهرة تتمدد في المجال الدولي أو الإقليمي أو الداخلي (داخل الدولة الواحدة)؟
وفي أيامنا هذه تجربة (داعش) في العراق وعقر دار المسلمين (بلاد الشام).. في أكناف بيت المقدس، كيف انتفشت ثم انكمشت فجأة؟!والتجارب التي صاحبتها في سوريا وليبيا: لم تتمدد؟! وقل مثل هذا عن التجربة الصومالية، والتجربة اليمنية التي كانت تتحدث عن جيش (عدن-أبين)، وعن نفس ربنا الذي يأتي من قبل اليمن كما أخبر الصادق-صلى الله عليه وسلم-، ومحاولة (الجهاد) داخل المجتمعات الإسلامية ضد الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله؛ بل وضد المجتمعات التي سكتت عن تغييب شريعة الله.
هذه مشاهد مختصرة في مراحل مختلفة من تجارب الحركات الإسلامية المسلحة، على سبيل المثال لا الحصر، تشترك جميعها في أنها تشب وتشتد ثم تخمد وتختفي فجأة وكأن شيئًا لم يكن. ولابد من طرح الأسئلة على هذه الظاهرة المتكررة: ماذا يحدث؟؟ هل نحن أمام بناء يشيد؟! هل نحن أمام مد يتصاعد في اتجاه تأسيس كيان يقاوم الظلم بأقصى وأقسى درجات المقاومة (القتال المسلح)؟ هل نحن أمام ظاهرة تتمدد في المجال الدولي أو الإقليمي أو الداخلي (داخل الدولة الواحدة)؟
أركز إجابتي في ثلاث نقاط:
1- ليس من الصعب أن نقرر أننا لسنا أمام ظاهرة تنمو وتشتد كما هو حال الجماعة المؤمنة، "كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار"، وإنما أمام تجربة واحدة تتكرر. ولم يتم البحث عن سبب تكرار الفشل؛ ربما لأن الغالب على الحركات الإسلامية تبرير الفشل لا مواجهته، والخارج يسره تكرار ما تأكد فشله أو فائدته بالنسبة لهم.
1- ليس من الصعب أن نقرر أننا لسنا أمام ظاهرة تنمو وتشتد كما هو حال الجماعة المؤمنة، "كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار"، وإنما أمام تجربة واحدة تتكرر. ولم يتم البحث عن سبب تكرار الفشل؛ ربما لأن الغالب على الحركات الإسلامية تبرير الفشل لا مواجهته، والخارج يسره تكرار ما تأكد فشله أو فائدته بالنسبة لهم.
2- الجماعات الإسلامية لا تتجه نحو تراكم المعرفة والخبرات العملية كما هو الحال في التيار الأكاديمي (إسلامية المعرفة مثلًا، مع أن هذا التيار يراكم مع نفسه بما لا ينفع الصحوة في الغالب بل بما يؤسس لمواجهة داخلية جديدة مع الصحوة الإسلامية)؛ فكلما أخفقت تجربة جاء الشباب وعادوا مباشرة إلى النص المؤسس وبدؤوا من جديد وربما بتطاول على الجيل الذي سبقهم! ولذا تتكرر ذات التجربة بسلبيتها، وقد تعاطيت هذا في مقال مستقل بعنوان "ورطة الصحوة في مصر"؛ كما أن الحركات الإسلامية تعاني من معضلة الانشقاق المستمر على خلفية النفوذ: في المسجد أو بين الأتباع مقاتلين أو متعلمين.
وقد وقفتُ على السيرة الذاتية لعدد من المؤسسين للقاعدة جُلهم انشق، وحين تفتش عن الأسباب تجد سببًا رئيسيًا مشتركًا بينهم خلاصته أنه لم يؤخذ برأيه، وغالبًا ما يستقر المشهد (الجهادي) في هيئة جماعات صغيرة أشبه ما يكون بأسر الإخوان. وقد شاهد الجميع ما حدث بين (داعش) و(القاعدة)، وبين المقاتلين في سوريا عمومًا. ومن أهم ثمار هذه الملاحظة: انعدام المؤسسات المتخصصة، وانعدام التوجه لتكوين رأس مال رمزي وفكري. ولذا لم يستطع هؤلاء تطوير تجارب حرب العصابات التي ينتمون إليها، بخلاف الشيوعيين في الفلبين وكوبا والصين الذين اتكأوا على تجربة محمد عبد الكريم الخطابي وطوروها. وانشغل هؤلاء بحسم الخلاف الداخلي ومضت عقود من الزمن ولا زالوا حيث هم.
3- أن الحركات الجهادية المعاصرة مرت بمرحلتين:
المرحلة الأولى: مرحلة المفاجأة للعدو؛ وهذه مثَّلها عبد الكريم خطابي وطلائع المجاهدين في فلسطين (عز الدين القسام ورفاقه إلى قواعد الإخوان في الأردن)، وحققت أهداف محدودة، وإخفاقها سببه الظاهر قوة العدو وتجمعه على المجاهدين مع الأخذ في الاعتبار من عاونه من الداخل بالوشاية أو بالظهور كبديل.
المرحلة الأولى: مرحلة المفاجأة للعدو؛ وهذه مثَّلها عبد الكريم خطابي وطلائع المجاهدين في فلسطين (عز الدين القسام ورفاقه إلى قواعد الإخوان في الأردن)، وحققت أهداف محدودة، وإخفاقها سببه الظاهر قوة العدو وتجمعه على المجاهدين مع الأخذ في الاعتبار من عاونه من الداخل بالوشاية أو بالظهور كبديل.
المرحلة الثانية: مرحلة الاختراق والتوجيه، وتحدث عن هذا أبو مصعب السوري في سلسلة شرح كتاب (حرب المستضعفين)، وخلاصة ما قاله هو (حتى لا أُتهم أنا بأني أفتري على القوم): أن الغرب حين ظهرت حرب العصابات درسها جيدًا من قبل مختصين وكانت التوصية أن علاج هذا النوع من الحروب بالاختراق والتوجيه، وهو ما حدث بالفعل. فبدل أن تشكل الجماعات المسلحة خطرًا على الغرب يتهدد منظومته الناشئة (ما بعد الحرب العالمية الثانية) استحالت إلى أداة من أدواته في تنفيذ مخططه الإمبريالي (التوسعي الاحتلالي) تجاه الشرق (العالم الإسلامي والصين). وبهذا أصبحت العلاقة بين الحركات المسلحة والغرب علاقة تعاونية وإن أخذت شكلًا من أشكال الصراع في الظاهر.
ودعنا نعود مرةً ثانية للمشاهد السابقة ونعيد قراءتها:
ودعنا نعود مرةً ثانية للمشاهد السابقة ونعيد قراءتها:
حاول السوفييت التقدم جنوبًا باتجاه المياه الدافئة (المحيط الهندي) عن طريق أفغانستان، ولم يكن بمقدور الدول الكبرى النووية أن تحارب بعضها مباشرةً فلجأت إلى الحرب بالوكالة (وهي سمة من سمات مرحلة الحرب الباردة)، ومن هنا حدث توافق ضمني بين المجاهدين من ناحية وبعض الأنظمة الحاكمة للدول الإسلامية والغرب بقيادة الولايات المتحدة من ناحية أخرى. وأتم المجاهدون المهمة للكتلة الغربية بأقل تكلفة. ثم تركوا لوحل الحرب الأهلية.
في البوسنة والهرسك: كانت أوروبا تحاول أن تستقل بقرارها وتحل مشاكلها بعيدًا عن الولايات المتحدة، وتحاول أن تحافظ على القوة الكامنة للدول التي خرجت من الاتحاد السوفيتي بعد تفككه. فنصب الأمريكيون وحلفاءهم من حكام العرب ذات النصبة التي نصبت بالأمس في أفغانستان؛ فظهر النفير للجهاد في البوسنة والهرسك، وهب الشباب لنصرة المستضعفين من إخواننا في قلب أوروبا؛ وكان الهدف المستتر هو إيجاد حالة من التوتر الدائم وتوصيل رسالة للأوروبيين بأنكم لا تستطيعون حل مشاكلكم بدون أمريكا، وظلت ورائهم حتى خرَّبت ديارهم بصواريخها (ضرب الأمريكان للصرب) حتى أذعن الأوروبيون ورحلوا لطلب الحل في (دايتون) الأمريكية. وبعدها اختفى الجهاد والمجاهدون تمامًا كأن شيئًا لم يكن. انفضت الشراكة من طرفٍ واحد.
وفي الشيشان كان المراد أن يتم تفكيك الاتحاد السوفيتي إلى دويلات صغيرة تدخل ضمن النظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه بوش إبَّان حرب تحرير الكويت ويسعى إلى البحث عن نقاط تواجد متقدمة شرقًا حول الصين. كان الغرب يخشى من تكون اتحاد جديد بديل للاتحاد السوفيتي. فنصب الأمريكيون وحلفائهم في الخليج وغيرها ذات النصبة التي نصبت من قبل حال قتال السوفييت على أرض الأفغان، فنشطت أخبار القائد خطاب حتى تحدث عنه الإمام ابن عثيمين وكيف أنه يتصل به ويشير عليه، وانتشرت أخبار البطل شامل بساييف، وبدأ الدعوة للنفير لنصرة المستضعفين في بلاد القوقاز وجمع التبرعات لهم. وانتصر المجاهدون بالفعل في الحرب الأولى؛ وحين بدا غضب روسيا الشديد وأنها غير مستعدة لدولة ذات صبغة جهادية على حدودها حتى وإن كانت دولة صغيرة كالشيشان وداغستان. انسحب الغرب وانتهت (النصبة) في ساعة!
أكمل في المقال القادم إن شاء الله قراءة المشاهد وتقديم رؤية لسبب هذا التعاون بين المسلحين والنظام الدولي.
في البوسنة والهرسك: كانت أوروبا تحاول أن تستقل بقرارها وتحل مشاكلها بعيدًا عن الولايات المتحدة، وتحاول أن تحافظ على القوة الكامنة للدول التي خرجت من الاتحاد السوفيتي بعد تفككه. فنصب الأمريكيون وحلفاءهم من حكام العرب ذات النصبة التي نصبت بالأمس في أفغانستان؛ فظهر النفير للجهاد في البوسنة والهرسك، وهب الشباب لنصرة المستضعفين من إخواننا في قلب أوروبا؛ وكان الهدف المستتر هو إيجاد حالة من التوتر الدائم وتوصيل رسالة للأوروبيين بأنكم لا تستطيعون حل مشاكلكم بدون أمريكا، وظلت ورائهم حتى خرَّبت ديارهم بصواريخها (ضرب الأمريكان للصرب) حتى أذعن الأوروبيون ورحلوا لطلب الحل في (دايتون) الأمريكية. وبعدها اختفى الجهاد والمجاهدون تمامًا كأن شيئًا لم يكن. انفضت الشراكة من طرفٍ واحد.
وفي الشيشان كان المراد أن يتم تفكيك الاتحاد السوفيتي إلى دويلات صغيرة تدخل ضمن النظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه بوش إبَّان حرب تحرير الكويت ويسعى إلى البحث عن نقاط تواجد متقدمة شرقًا حول الصين. كان الغرب يخشى من تكون اتحاد جديد بديل للاتحاد السوفيتي. فنصب الأمريكيون وحلفائهم في الخليج وغيرها ذات النصبة التي نصبت من قبل حال قتال السوفييت على أرض الأفغان، فنشطت أخبار القائد خطاب حتى تحدث عنه الإمام ابن عثيمين وكيف أنه يتصل به ويشير عليه، وانتشرت أخبار البطل شامل بساييف، وبدأ الدعوة للنفير لنصرة المستضعفين في بلاد القوقاز وجمع التبرعات لهم. وانتصر المجاهدون بالفعل في الحرب الأولى؛ وحين بدا غضب روسيا الشديد وأنها غير مستعدة لدولة ذات صبغة جهادية على حدودها حتى وإن كانت دولة صغيرة كالشيشان وداغستان. انسحب الغرب وانتهت (النصبة) في ساعة!
أكمل في المقال القادم إن شاء الله قراءة المشاهد وتقديم رؤية لسبب هذا التعاون بين المسلحين والنظام الدولي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق