الاثنين، 2 يوليو 2018

الوداع الأخير لشهداء الحرية"

الوداع الأخير لشهداء الحرية"
المستشار/ محمد يوسف عدس 
مقالة كتبتها بدم القلب منذ 732 يومًا ، نشرت في حينها وكدت أنساها لولا أن ذكّرني بها من ذكّرنى فأهاج بها مشاعري .. 
استقبلتها بروح القارئ المحايد ، وكأني أقرأها لأول مرة ، فعصفت بى وأثارت في نفسى تساؤلات عجيبة: 
هل أنا كاتبها حقًّا ..؟ وكيف تماسكت حتى أنهيتها..؟ 
وكم تحملت من الآلام النفسية وأنا أصوغها كلمةً كلمة وصورة الشاعرشهيد الحرية"هوسي ريسال" ماثلة أمام ناظريَّ وهو ينشدها في نفس الموقع الذى تم تنفيذ حكم الإعدام فيه فور انتهائه من تلاوتها .. 
الآن أشعر بمذاق مكثف من الألم المرير وقد امتزجت صورة هوسى ريسال مع صور شهداء الحرية لثورة يناير المصرية ، ومن تبعهم من إخوانهم وأخواتهم الشهداء الذين رفضوا الانقلاب العسكري وثاروا عليه فدفعوا أرواحهم ثمنًا باهظًا في طلب الحرية.
أعيد نشرها على هذه الصفحة .. لا أملًا في أن يهتم الآخرون بقراءتها .. على العكس من هذا تمامًا ؛ ففي الحقيقة أوجّه هذه المقالة إلى نفسى لأعيد قراءتها وأحيا في أجوائها مرة أخرى ، وقد تكون الأخيرة .. لا بأس ؛ فأنا أعزّى بها نفسى لنفسى ، فهي شأن خاص شديد الخصوصية أرجو أن يسمح لى به أصدقائى الأعزاء مشكورين.
هكذا تمضى المقالة القصيدة:
المقالة القصيدة:
رائعة من روائع الشعر فى التضحية والوطنية.. كتبها باللغة الأسبانية فى ليلة واحدة.. سهر عليها حتى أتمّها قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه فى الصباح ؛ إنه "هوسى ريسال" أمير شعراء الفلبين، وبطلها الأسطوري وأعظم ثوارها فى التاريخ .. يودّع فيها وطنه الذى كان يئنّ تحت الاحتلال الأسباني.
عندما تقرأ هذه القصيدة لا تقرأ كلمات وإنما تلمس نزيف قلب مجروح .. ترجمها إلى العربية شعرا واحدٌ من أرقّ الشعراء المصريين، بفيض من مشاعره المتدفقة ووجدانه المكلوم.. فكانت تحفة عربية بقدر ماكانت القصيدة الأصلية تحفة أسبانية..
بداية: أودّ أن أهدى هذه القصيدة إلى شهداء الحرية.. وإلى كل المصابين وأسرهم وأحبّائهم فى مصر والوطن العربي ..
إن عمق التجربة الوجدانية وصدقها فى هذه القصيدة تُذرى بكل عاطفة رخيصة زائفة ينتحلها أولئك الذين يتمسّحون بالثورية والوطنية وهم فى الحقيقة يتاجرون بدم الشهداء ويتكسّبون من بيع أوطانهم لكل أجنبي كاره خسيس..
هذه قصة من الواقع الحي الذى عاصرته وكنت طرفًا فيه ؛ ففى أوائل الستينات من القرن الماضى أبلغ صديقى الراحل الدكتور "محمد إبراهيم كاظم" بصفته الملحق الثقافى بسفارتنا فى مانيلا، وزارة الخارجية المصرية، رغبة الحكومة الفلبينية ترجمة قصيدة ريسال إلى اللغة العربية.. وكان يرأس لجنة الشعر فى المجلس الأعلى للفنون والآداب حينذاك "عباس محمود العقاد" ، فكلّف الشاعر "العوضي الوكيل" بهذه المهمة.. وكان اختياره حصيفًا ؛ فالقصيدة مكتوبة بالأسبانية التى يجيدها العوضى الوكيل، ولأنها مفعمة بالمشاعر المأساوية صادفت جرحا نازفا عنده لم يكن قد برئ منه، بعد وفاة زوجته [الأسبانية ] .. وقد فرغ توّا من تأبينها فى قصيدة رائعة امتزجت فيها مشاعر الحب بلوعة الفراق..
وفى سنة ١٩٦٤عندما وصلتْ الترجمة العربية إلى مانيلا كان الدكتور كاظم قد أنهَى بعثته فى مانيلا و بدأتُ عملى مديرًا للمركز الثقافي المصري هناك.. ومن ثَـمَ أسندتْ إليَّ السفارة المصرية أمر هذه القصيدة مع السلطات المحليةّ.. حيث صحبنى أحدهم إلى النصب التذكارى لـ"هوسى ريسال" فى"لونيتا بارك" أكبر متنزّه بمدينة مانيلا، فى هذا المكان الرائع مساحات واسعة من الخضرة والزهور ونافورات المياه.. وفى منتصفه يرتفع النصب التذكارى فى وقار جليل، توحى به الوقفة العسكرية لعدد من الجنود يتناوبون على حراسته كل يوم على مدار ساعات الليل والنهار .. حول هذا النصب التذكارى سور على شكل نصف دائرة من الرخام الأبيض مثبت عليه لوحات نحاسية محفور عليها ترجمات قصيدة ريسال بكل لغات العالم الحية.. وكان آخرها الترجمة العربية...
جاءوا إليّ مرّة ببروفة لتصحيحها قبل حفرها على النحاس.. فلاحظت أن شطرات الأبيات الشعرية قد تبادلت وضعًا معكوسا؛ فما كان منها على اليمين إنتقل إلى الشمال وبالعكس.. فقلت لهم لن يستطيع أحد أن يقرأ هذه القصيدة.. وأوضحت لهم السبب.. فاستغرقوا فى الضحك.. كأنهم يستمعون إلى نكتة؛ كان الفلبينيون قبل عهد الدكتاتور ماركوس –كالمصريين قبل الانقلاب العسكري- يضحكون من قلوبهم على كل شيئ مهما كان بسيطا، ولكن ماركس -مثل قرينه المصري- استطاع أن يكبت روح الفكاهة فى القلوب، ويقتل الابتسامة على الشفاة.. ويزرع مكانهما التعاسة والأحزان والجهامة.
فمن هو "هوسى ريسال" José Rizal ؟:
إنهم يطلقون عليه إسم "أبُ الفلبين" وأعظم الشهداء من أبطال النضال الوطني.. كان سلاحه الأكبر هو فكره الذى عبّر عنه بقلمه ولسانه ضد الاحتلال الأسباني.. هذا الاحتلال الذى جسم على صدر الشعب الفلبيني ثلاثمائة عام أو تزيد.. وبسبب هذا الفكر وحده قُدّم ريسال لمحكمة عسكرية حكمت عليه بالإعدام رميا بالرصاص، ونُفّذ فيه الحكمُ صباح يوم ٣٠ ديسمبر سنة ١٨٦٩، بينما كان يردد أبياتا من قصيدته الشعرية يودّع فيها شعبه ووطنه..
مات "هوسى ريسال" عن عمر يناهز الخامسة والثلاثين سنة.. عمر قصير، ولكن ما صنعه "ريسال" فى حياته القصيرة هو شيء أقرب إلى الخيال الأسطوري.. يصعب تصديقه لولا أنه مسجل وموثّق وثابت فيما ترك من كتابات وأعمال .
.
نشأ ريسال فى أسرة غنية كانت تملك أراضى زراعية شاسعة.. فكان هو السابع فى الترتيب بين إخوته الأحد عشر، ولكنه كان منذ طفولته ظاهرة متميزة بين كل أقرانه؛ أدخله أبوه مدرسة كاثوليكية .. ولكن لم تستطع المدرسة أن تتحمل جسارة هذا الطفل المعجزة.. أربكتها أسئلته الجريئة وتفكيره الناضج، فوسمته بالراديكالية، وطلبت من أبيه أن يبحث له عن مدرسة أخرى خوفا على بقية التلاميذ.. فألحقه أبوه بالتعليم العام حتى وصل إلى الجامعة ليدرس الآداب أولا، ثم القانون.. ولكنه غيّر مسيرته التعليمية فاتّجه -فى نفس الوقت- ليدرس الطب بجامعة سانتو توماس بمانيلا.. ذلك لأن أمه كانت تعانى من مرض فى عينيها يهددها بالعمى.. فقرر أن يدرس الطب ويتخصص فى أمراض العيون فكان له ما أراد..
ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد فقد كان طموحه أعظم، ومن ثَـمّ رحل إلى أسبانيا بمفرده (وكان عمره آنذاك ٢١سنة فقط) لاستكمال دراساته العليا فى الجامعة المركزية بمدريد، ثم انتقل إلى فرانسا ليحصل على درجة الدكتوراة من جامعة باريس، ثم ليحصل على درجة ثانية للدكتوراة من جامعة هايدلبرج فى ألمانيا، وفى أثناء ذلك لم ينقطع عن الكتابة والمحاضرة فى أسبانيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، داعيا إلى مساعدة الشعب الفلبّيني فى نضاله للتحرر من نير الاستعمار الأسباني ، ولم يكن يحتاج فى تواصله مع هذه الشعوب إلى مترجم فقد كان ريسال أعجوبة فى اكتساب اللغات الأجنبية.. كان يجيد ٢٢ لغة: كتابةً و قراءةً وحديثًا..
لم يكن ريسال فى ثورته على الاستعمار الأجنبي مُحَبِّذًا للعنف.. بل كان من أكبر دُعاة الإصلاح، وقد بدأ بدعوة الأسبان لمنح الفلبين حكما ذاتيا، ولكنه لم يستبعد العنف كملجأ أخير إذا فشلت الحركة السلمية فى تحقيق الاستقلال.. وقد عبّر عن هذه الأفكار فى اثنين من أمتع و أشهر رواياته هما: "نولى مِى تَنْجِيرى" و "فلِبُّوسْتِيرزْمو" .. وهما عملان أدبيان كتبهما ريسال باللغة الأسبانية.. حَفِلا بتحليلات ونقد عميقين للآثار المدمرة للاحتلال الأسباني على المجتمع الفلبيني.. ولتدعيم أفكاره التحررية أنشأ ريسال منظمتين: سياسية واجتماعية، أعتبرهما المؤرخون المصدر الأول والأصيل لحركة الإصلاح وحركة الثورة المسلحة فى نفس الوقت، ففيهما وُلدت وترعرعت القيادات الإصلاحية والثورية على السواء، وكان من أبرز روّدها "أنْدِرٍي بونافاشْيو" أول زعيم انتفاضة مسلحة ضد الاستعمار فى تاريخ آسيا ..
عاش ريسال نائيا بنفسه عن الكنيسة فلم يكن يؤمن بعقائدها ولا بفكرتها الهزيلة عن الألوهية؛ فقد كان يؤمن بإله واحد خالق عظيم القدرة بالغ الرحمة محيط بكل شيء.. وأكثر ما كرهه فى الكنيسة أنها كانت تبرر للمحتل الغاصب قتل الأبرياء الرافضين لجبروته..! كان ريسال كاتبا آسِرًا وصحفيا لامعا ومتحدّثا لبقًا وفنانا يجيد الرسم. أما شعر ريسال فهو أعجوبة ثانية فى حياة هذا الطبيب الأديب المصلح الثائر الذى أحب وطنه وشعبه.. حبًّا سطّره ريسال بنبضات قلبه فى "الوداع الأخير" لا يطلب فيه لنفسه سوى أن تصلّى بلاده من أجله وتدعو الله له بالرحمة والغفران..
قصيدة "الوداع الأخير" لريسال تسيل رقّة وعذوبة وأسًى، وتنضح يصدق العاطفة، وتسمو بالحب الإنسانى إلى درجات عالية من الفداء والتضحية.. وتتدفق فيها مشاعر اللوعة للفراق .. تتجمّد الدموع فى عينيْ صاحبها وهو على شفا الموقف الرهيب.. ولكن تنهمر الدموع فى عيون قّرّائه ومشاهديه.. لا على مصير فدائيٍّ جسور يواجه نهايته فحسب.. ولكن أيضا على وطن مكلوم لا يزال يرزح تحت القهر والطغيان الأجنبي.. إستمع إلى الشهيد وهو يغنّى مودِّعا وطنه.. فى قصيدة طويلة.. 
نجتزئ منها بهذه الأبيات:
وداعًـا وداعًـا يا بــلادًا يحبهــا فــؤادي 
وتهواهـــا بعليائهــــا الشمسُ
لأنْتِ ببحر الشرق أكـــرم دُرَّةٍ 
وأنــت لنــا فـي ذلك الكــون فردوسُ
حياتـــي مضنّاةٌ فإمـا وهبتُهـا فداءَكِ 
لـم تأسـف علــى ذلــك النفسُ
ولـو أنهـا كانـت صِبًـا لوهبتـُه 
ألَا كُلُّ بــذْلٍ فــي سبيل الحِمَــى بخسُ
فيـــا وطنــى إن أعـوزَ اللّـــونُ 
فليكـــن دمــى صبغةً للفجرِ إنْ لاحَ فأْتلقْ
يزيــد دمــى المســــفوكُ بهجـــةَ لونـِـــه 
وقُرْمُـزِه حتى يـروقَ لـدى الحـدقْ
أمُوتُ لتَحْيَى إنّ مَوْتِــــــى مُحَبَّـــــبٌ 
بتـلك الذُّرا الشَّــمَّاء مـا بـين أَقْوامِــى
فيغمــضُ جــفْنى الموتُ في خــير تـربةٍ 
وأرقـــد مرتــاحًا وتخفـــق أعــلامــى
ثم يخاطب بلاده فيقول:

إذا نَجَمَتْ فــي تـُـرْبِ قـــبْريَ زهرةٌ 
بَدَتْ وحدها في الفَدْفَدِ المُوحِــشِ القفرِ
فلا تبخــــلي أن تُــؤنســـيها بـِـزَوْرَةٍ 
ألا إنــها رُوحــى تــرفرف كــالزهــرِ
ولا تبـــخلي يـــومًا عــليــها بــلثمة
 بــثغرك حيـث الدفء فــي ذلك الثغرِ
أحـِـسُّ هــواء القــبر حــوْلـــيَ باردًا 
ألا فابــعثي الدفءَ المحـبَّب فـي قبرى
وفي مَضْجَعِى السَّاجِى البعيدِ دَعِى السَّنا 
من القمر السَّارِى يشعُّ لمضْجعي
دَعِى الريح تُزْجِى همْسها فوق تُرْبَتِى
 دَعِى الفجر يحْبُوني بأَنْوَارِهِ دَعِى
وإنْ مـــرَّ يومًــا فــوق قبْرِيَ طائرٌ 
يرجِّـعُ لَحْنًــا مُبْدِعًــا أيَّ مُبْــدع
دعيـهِ علـى هـامِ الضَّريـحِ مُغَـرِّدًا 
وقُولى لـه : بالسّـلم غَّنِّ ورَّجِّعِ
ألا فدعــي مـن أهـل وُدّيَ قائمـا 
علـى القبـر يبكي أَعْظُمِي المتبعثـرة
ويـا بلــدي صلِّـى لربـِّى فإننــى 
لأرجــو قبـولا فـي حِمـاهُ ومغفـرة
لأِمٍّ غدت تذري الدموع وما شَفَتْ 
بأضلاعهـا نارًا من الشَّجَـنِ العــاتـى
لأجل اليتامَى والأيامَى ومَنْ غَــدَا أسيرًا
 شديدَ الكَرْبِ رَهْــنَ المُلِمَّـاتِ
ألَا يـا بــلادِى فانْهَضِىي وتضَرَّعِى
 ليومِ خــلاصٍ فــى غَــدِ صُبْحُــــُه آتِ
إذا ما ظـلامُ الليـلِ غشَّــى المقابـَرا
 فمـا بـَـِرحَ الموتــى هنــاك سوَاهِــرَا
على السّلْمِ والأسرارِ تسهرُ روحُهم 
دعُوهـم ومـا صانـوا وغُضّـوا النَّواظِــرَ
فإن تسمعـوا صوتًـا هنالـك شادِيًـا 
فذلـك صوتـي يُرسـل اللحــن زافــرا
أجـلْ.. ذاك لحنـي يـا بلادي رفعتُـــه أليــكِ
 فحيُّــوا فـي المقـابـر شـاعــرا
فــإن طالـت الأيـامُ بـي وتحوّلـت 
معــالـمُ قبــري كالطُّلــول بَوَاليـــا
وأقْـــوَى ، فــلا رمـزٌ هنالك شاهدٌ 
علــيّ وأمســَى ذاكــرُ القــومِ ناسيـا
إذن فدعــى المحراث يفـري أديمه 
فيحيـى مَـواتُ الأرضِ أخضـرَ زاهيـا
وهـذا رفاتـي يـا بـلادي فرشتــه مواطِـئَ 
مـن عُشْـبٍ فمـا عـادَ ذاوِيـا
إذا أصبـح النسيـان للميـْتِ هيِّنًـا 
سألقـاكِ فـي موتِى هُنــالِكَ أو هُنَــا
سألقـاكِ لونًـا زاهيا أو شذًى مٌتَضَوِّعَـا 
وطــوْرًا غنــاءً مُبْدِعَــــا مُتَفًنِّنَــــا
فمــا زال قلْبى يـا بـلاديَ هائمًـا 
بحبـِّك فيّـــاضَ المشــاعرِ مؤمنَـــا
ألا فاسْمعـي هـذا النشــــيدَ نظمْتُهُ 
وِداعًـا أخيـرا فهْـوَ آخِـــرُ أنْغـامى
سأتــرك مـا أهواه فيـك وديعــــــةً 
لديـك فـلا تنْسَيْ ودائـعَ أحلامــى
وأَمْضِـــى إلـى لا ظُلْـمَ ثمَّـةَ نــازلٌ بعبـْدٍ 
ولا طغيـانَ مـن بطْـشِ ظـلّامِ
إلـى حيـثُ لا رأىٌ يُصــابُ صِحابٌه 
بسـوءٍ وحيـثُ الله فـي حُكْمِهِ السامـى
*******************
محمد يوسف عدس

فى الصور الثلاثة:

                تمثال ريسال فى لوينيتا بارك                 

           منزله الذى تحوّل إلى متحف تاريخي           

      أول كتبى عن الفلبين نشر سنة 1969م  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق