الخديو الذي أغرق مصر
لم يكن تقريب الخديو إسماعيل للمرابين وأصحاب البنوك الذين استطاعوا تكبيل إسماعيل في ديون طويلة الأجل كما استعرضنا في تقريرنا السابق إلا مزيدا من الإغراق لمصر، حتى وصل الأمر أن بعض هؤلاء كتب يمتدح إسماعيل ويعتبره "باعث الشرق الجديد" من كبوته وسكونه، وكان على رأس هؤلاء الفرنسي ديرفيو.
على أن الخديو نكث بوعوده لديرفيو، ولم يستطع أن يسدد أي أقساط من المتفق عليها حتى أواخر شهر (أغسطس/آب) سنة 1866م، وفي الشهر التالي نسي ديرفيو صداقته المتينة بإسماعيل، ومدحه وكونه "باعث الشرق الجديد" وبدأ إجراءاته القانونية وإن أخّرها لـ (أكتوبر/تشرين الأول) من العام نفسه على وعد جديد من إسماعيل الذي كان مثل الزئبق متنصلا من وعوده، وهكذا وقعت القطيعة أخيرا، ورفع بنك ديرفيو وشركاه قضية من خلال القنصلية الفرنسية، وكتب أحد أصدقاء ديرفيو قائلا: "إن ديرفيو قد سئم أن يرى الالتزامات لا تُنفّذ، والوعود لا تُحترم، والتضحية لا تُعوّض، وأن يكون الولاء المخلص القديم غير مقدّر"[1]!
الخديو في بحر الديون!
كانت الدائرة على الخديو مفرغة، لقد استطاع لاعبو الحيل من المرابين والمقاولين وأصحاب البنوك إيقاع إسماعيل في شراكهم وخداعه، كانت الديون تستجلب الديون بربا وفوائد فاحشة، وكانت النتيجة الحتمية لهذه الدائرة المفرغة أن لجأ كل فريق إلى تأمين مصالحه، فلجأ الدائنون إلى حكوماتهم التي تدخلت بتشكيل لجان المراقبة الأوروبية على أعمال الحكومة المصرية، وفرض القيود المالية بل والسياسية على حكم إسماعيل، فاضطر معها إسماعيل سنة 1872م إلى مشروع مالي عرّض أصوله إلى التقليص يُعرف بقانون المقابلة، وهو يقضي بأن ينزل لملاك الأراضي الزراعية عن نصف الضريبة المفروضة عليهم نزولا تاما على أن يدفعوا إليه في وقت معلوم ستة أمثال هذه الضريبة، وفي سنة 1874م عرض والي مصر فائدة دائمة قدرها 9% لكل من يكتتب في قرض داخلي غير مردود قدره 5 ملايين جنيه وهو ما يُعرف بدين الروزنامة[2].
على أنه لم يحن صيف سنة 1875م حتى كان الخديو في حاجة شديدة إلى المال لسدّ نهم دائنيه، ولذا استقر رأيه على أن يبيع أسهم مصر في شركة قناة السويس وقدرها 176.206 أسهم من مجموع 400 ألف سهم بيد الشركة، هذه القناة التي كانت وبالا على مصر والمصريين فلم يستفد بخيراتها إلا الأجانب على حساب دماء الفلاحين وعرقهم ومعاملتهم كالعبيد في ميدان السُّخرة، وهي الفرصة التي سنحت للبريطانيين فاختطفوها كالصقور، وما أسرع ما وقف المستر دزرائيلي رئيس الحكومة البريطانية حينذاك على رغبة الخديو وفي الحال قرّر شراء هذه الأسهم بمبلغ 4 ملايين جنيه بمساعدة عاجلة من بنك آل روتشيلد اليهودي في لندن[3].
كان شراء البريطانيين لحصة مصر من قناة السويس بداية الاحتلال الفعلي لمصر في وقت كانت الدولة العثمانية في مواجهة شرسة ضد النفوذ الأوروبي الذي كان يحارب العثمانيين ماليا وسياسيا بل وباقتطاع أراضٍ منها، تقول جريدة التايمس اللندنية في عدد 26 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1875م: "إذا أدّت الثورات والاعتداءات من الخارج والرشوة من الداخل إلى سقوط تلك الإمبراطورية (العثمانية) سياسيا وماليا، فقد يتعين علينا اتخاذ الوسائل التي تكفل سلامة ذلك القسم من أملاك السلطان لما لنا به من الصلة الوثيقة"[4]. ويقصدون بذلك تأمين مصالحهم في مصر وعلى رأسها قناة السويس التي اشتروا أسهمها من الخديو المغيب!
في عام 1876م، وبعد تفاقم أزمة ديون مصر وإعلان إفلاس الدولة العثمانية نتيجة الحرب مع روسيا، وتأثر مصر إعلاميا بهذا الإفلاس -إذ كانت لا تزال تابعة بصورة اسمية للدولة العثمانية-، اتفقت كل من فرنسا وبريطانيا على إرسال لجنة للإشراف على مالية مصر، عُرفت هذه اللجنة باسم لجنة "جوشن – جوبير"، ولم يكن عمل هذه اللجنة مجرد تقييم الأوضاع المالية، والبحث في تدابير عاجلة وعادلة، لكنها بدأت بالفعل في السيطرة على مالية الدولة، وارتهان موارد مصر خدمة للدائنين الذين بلغت مديونياتهم عاجلة الدفع 7 ملايين جنيه، "ولم يكن الحصول على هذا المبلغ الجسيم من الفلاحين المفلسين ممكنا إلا بإكراههم تحت الكرباج على ارتهان أراضيهم للمرابين اليونانيين الذين كانوا يرافقون جباة الضرائب في كل مكان أثناء مرورهم في القرى"[7].
ارتهنت موارد مصر المالية لسداد ديون المرابين/حملة الديون الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، وتدخلت كل من فرنسا وبريطانيا بثقليهما لكي يوافق إسماعيل على تمكين لجنة "جوبير – جوشن" من مالية مصر والتصرف فيها، وهو الأمر الذي لفت نظر المؤرخ الإنجليزي المستر ماك كون، ورأى أن بريطانيا ألقت ثقلها وتدخلت في الحالة المصرية لصالح الدائنين ولم تفعل هذا مع دول أخرى، يقول:
"إنه لمن الغريب جدا أن تكون الحالة المصرية المالية الحالة الخارجية الوحيدة التي أوجبت تدخل وزارة خارجية بريطانيا العظمى، فإنه في نفس السنة التي شدّت فيها أزر إرسالية المستر جوشن والمستر جوبير، الشدّ كله الذي كان يمكن لها إبداؤه بكيفية ملائمة، كان يوجد لا أقل من سبع عشرة دولة مفلسة في جدول نقابة حاملي الأسهم الخارجية الأسود، وبلغت الديون المطلوبة منها 400 مليون جنيه، ومع ذلك لم يُروَ مُطلقا أن الحكومة البريطانية أبدت على إحدى هذه الدول احتجاجا ولو برسالة قنصلية في مصلحة المقرضين".
ويُرجع المؤرخ البريطاني السبب إلى أن الدائنين في الحالة المصرية "لم يكونوا دائنين من نوع بقية الدائنين؛ فإنهم كانوا في باريس ولندن على السواء أصحاب قوة وبأس في البرلمان والصحافة، وعليه فإن كل وسائل الدوائر الرسمية في البلدين استخدمت لتمكنهم من الحصول على أكثر من الست عشرة أوقية المطلوبة لهم من لحم الفلاحين المصريين البائسين"[8]!
على أنه يُضاف فوق ما ذكره كون سابقا إلى أن الجذور التاريخية، والأهمية الجغرافية لمصر، خاصة مع وجود قناة السويس، كانت السبب الأبرز والأهم لتدخل كل من فرنسا وإنجلترا في الشؤون السياسية والمالية لمصر، لقد كان الإنجليز والفرنسيون يعملون وفق خطط لإيقاع مصر وإسقاطها ومن ثم إعلان الحماية عليها.
مما لا شك فيه أن تدخل لجنة "جوبير – جوشن" كان بمنزلة احتلال فعلي لمصر، فإنهم وإن كانوا بصورة اسمية تابعين للخديو إسماعيل فإنهم في المقابل كانوا يصدرون القرارات التي تتعارض مع مصالح مصر وأمنها الداخلي، فقط لدفع أقساط الديون في مواعيدها السنوية، ولأجل ذلك فإن "مصروفات البلاط والحريم الكمالية لم تُخفّض إلى أدنى حد فحسب، بل أُجّل دفع مرتبات معظم موظفي الحكومة وحُلّ جزء من الجيش، ولما تبيّن أن تلك الموارد لم تكف للحصول على المال اللازم اقتضى الأمر الالتجاء إلى (الكُرباج) لحمل الفلاحين على تقديم ما عندهم من الأموال"[9].
على أن إرهاق المصريين بالديون ورفع أسعار الخدمات والضرائب أدى إلى إصابة البلاد بحالة من الكساد التجاري نتيجة رفع الجمارك وذلك في العام التالي من مجيء اللجنة سنة 1877م، ولم يجد الجلاد الأوروبي إلا الاتجاه إلى محاصيل الفلاحين الفقراء الذين أضناهم التعب والجهد وضريبة العشور، واضطروا تحت كرباج المرابين والحكومة إلى بيع محاصيلهم لشركة إنجليزية بثمن بخس، فزادوا فقرا وفاقة، وعبثا حاول إسماعيل مع الدائنين أن يتوقفوا عن انتهاج هذه الأساليب مع الفلاحين وتأخير دفع قسط من الأقساط رحمة بهم، لكنّ هؤلاء الموظفين الأجانب لم يهتموا بهذا النداء أو يلقوا له بالا.
كتب القنصل البريطاني في القاهرة في شهور سنة 1877م إلى حكومته في لندن مُحذّرا من خطورة الأوضاع الاقتصادية بسبب سياسة عمل لجنة "جوشن – جوبير" قائلا: "لقد دفعت مصر في خلال ثمانية أشهر ما يقرب من 6 ملايين جنيه، وهي شهادة ناطقة بحسن النظام الجديد، ولكني أخشى أن نكون قد حصلنا على هذه النتائج بعد هلاك الفلاحين بسبب بيع حاصلاتهم قبل حصادها قسرا، وجباية الضرائب مقدما قبل مواعيدها، هذا فضلا عن أن مرتبات الموظفين الوطنيين التي يعد دفعها بانتظام شرطا أساسا لحسن الإدارة قد أُجّل دفعها لسداد الكوبون وبهذا تكدس ما للمستخدمين من متأخرات"[10].
الأجانب يحكمون مصر!
كان عمل اللجنة واعتراضات الخديو عليها سببا في تشكيل بريطانيا من جانب واحد لجنة دولية برئاسة السير ريفرز ويلسون للتحقيق فيما يحدث في القاهرة، وحين جاء ويلسون وتحقق وموظفوه من مالية الدولة المصرية، أصدرت اللجنة تقريرها الذي شوّه صورة إسماعيل، وأعلن للعالم صورة عمل الحكومة المصرية التي وصفها بالفساد وانتشار الرشوة، وسرعان ما أصدرت اللجنة توصياتها بضرورة تشكيل حكومة جديدة برئاسة نوبار باشا الأرمني، على أن يكون ريفرز ويلسون وزيرا للمالية.
اعترضت فرنسا بثورة عارمة على استئثار إنجلترا بإدارة شؤون مصر، مما اضطرت معه بريطانيا إلى تعيين المسيو دي بلنيير وزيرا للأشغال العمومية مع توسيع اختصاصه بحيث يشمل السكك الحديدية ومصلحة البريد ما عدا فرعها في الإسكندرية. حينها اعترض كل من دائني إيطاليا والنمسا لتجاهلهما، فعُيّن أحد الإيطاليين رئيسا عاما للحسابات، وأحد النمساويين مساعدا لوزير المالية، وكانت هذه الوزارة الجديدة التي شُكّلت بالفعل سحبا لسلطات الخديو ليحل محلها سلطات الدائنين ومن ورائهم حكوماتهم، كانت باختصار إمعانا في الاحتلال السياسي لمصر قبل مجيء الاحتلال العسكري الصريح[11].
كتب السير فرانك لاسل الذي كان قنصلا عاما لإنجلترا في القاهرة في ذلك الوقت إلى وزارة خارجية حكومته تقريرا في 26 أبريل/نيسان سنة 1879م يصف فيه الاستياء العام الذي كان يشمل الشعب المصري قائلا: "ويؤكدون أن هذا الاستياء عينه من الحال الحاضرة منتشر انتشارا كبيرا في الجيش، وأنه ولّد شعور عداء للخديو ليس فقط بين أفراد العسكرية المنتسبين إلى طبقات الأمة المرهقة بل بين الضباط أنفسهم. ويؤكدون لي أيضا أن هؤلاء وإن كرهوا كل الكراهة أي تدخّل أوروبي يعتبرون الخديو مسؤولا عن المصائب التي أصابت البلاد"[12].
لم يختلف عمل وزارة "نوبار – ويلسون" عن عمل لجنة "جوبير – جوشن"، لا سيما في استخدام الأساليب القاسية للضغط على الفلاحين في استمرار دفع الضرائب المقررة عليهم خدمة لأصحاب الديون، ولضمان دفع أقساطها في المواعيد المحددة، بل "واستقر رأيهم ذات يوم جمعة على القيام "بإصلاح" جديد للحصول على ما يكفي لأداء كوبون أبريل، وأصدروا أمرهم بإقالة 2500 ضابط من ضباط الجيش لم يستلم أحد منهم مرتبه عن الثمانية عشر شهرا السالفة، كما أن الكثيرين منهم كانت لهم مرتبات متأخرة عن ضعفي هذه المدة"[13].
كان هذا القرار الذي شرعت الحكومة الأوروبية في تنفيذه برئاسة تابعها نوبار سببا في انهيارها، فقد أحاط عدد من الضباط والعساكر بنوبار وويلسون وأهانوهما وسحبوهما إلى الاعتقال في وزارة المالية، الأمر الذي اضطر معه الخديو إلى التدخل لتخليص الرجلين بمساعدة حرسه الملكي، وإن أشارت بعض الروايات إلى أن هذا العمل كان من تخطيط الخديو نفسه لأنه كان شديد الحنق والكراهية لنوبار وويلسون[14].
رحيل الطاغية
تولى توفيق ابن الخديو إسماعيل رئاسة الحكومة الجديدة وأُبعد إسماعيل عنها شكليا، لكنه أصر على إدارة الأمور من وراء ستار وحاول أن يعرقل عملها، وانتهج ويلسون الأسلوب نفسه في الضغط على المصريين، ولم يلبث المصريون أن أرسلوا شكاواهم إلى إسماعيل الذي استغل هذه الشكاوى -وهو السبب الأول والأهم فيها- وقرر عزل هذه الوزارة وتعيين وزارة جديدة برئاسة شريف باشا، وإلغاء أعمال اللجان الأوروبية وعدم الاعتراف بما أصدرته من قرارات، فاعتبر الأوروبيون هذه الوزارة الجديدة "انقلابا حكوميا" يحول دون إعطاء الدائنين حقوقهم، فضلا عن كونه أعاد إسماعيل إلى الواجهة من جديد[15].
لم توافق فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا على قرارات إسماعيل الجديدة بخصوص الدائنين وتشكيل الوزارة الجديدة الموالية له، ورأوا أن استمراره في الحكم يعوق مصالحهم في نهب ثروات مصر تحت دعوى "مصالح الدائنين وحقوقهم"، فأرسلوا على الفور مذكرتهم التهديدية له في أوائل يونيو/حزيران 1879م جاء فيها: "الحكومة الفرنسية والحكومة الإنجليزية متفقتان على النصح لسموكم رسميا للتنازل عن العرش ومغادرة مصر، وإذا ما عمل سموكم بهذه النصيحة، فإن حكومتينا سوف تعملان معا من أجل ضمان مخصصات مالية مناسبة يجري التوقيع عليها لكم، وأن مسألة تولي الأمير توفيق بعدكم ستظل بلا مساس، ويجب أن لا يخفى على سموكم أنك إذا رفضت التنازل عن العرش وإذا ما أجبرت مجلس الوزارء الإنجليزي ومجلس الوزراء الفرنسي على مخاطبة السلطان مباشرة، فإنك لن تستطيع الحصول على مخصصات ولا المحافظة على خلافة الأمير توفيق لك"[16].
كان اللعب بورقة وراثة العهد وسحبها من إسماعيل وأبنائه بتعيين عمه الأمير حليم المقيم في إسطنبول، وفي الضغط عليه ماليا ورقة ناجحة تماما، وقد اضطر الباب العالي في إسطنبول إلى الاستماع لمطالب الإنجليز والفرنسيين خشية من إعلان الحماية على مصر واهتزاز صورة السلطان العثماني، فأصدر قراره بعزل إسماعيل وتعيين ابنه البكر توفيق خلفا له على عرش مصر.
جاء قرار العزل في 26 يونيو/حزيران 1879م، وبعده بأربعة أيام خرج إسماعيل من مصر إلى إيطاليا ومنها إلى إسطنبول التي استقر فيها إلى أن أدركته المنية في 8 مارس/آذار 1895م وبعد وفاته بأسبوع نُقل رفاته إلى الإسكندرية في الليلة نفسها التي اختارها مدير دار الأوبرا في القاهرة لتمثيل رواية "عايدة"، وهي الرواية الملحّنة التي أطرب بها إسماعيل ملوك أوروبا وأمراءها يوم افتتاح قناة السويس، لقد شرب الأوروبيون من دماء إسماعيل ومن ورائه المصريين يوم مُلكه ويوم وفاته!
المصريون لا يأبهون للطاغية!
كان يوم عزل إسماعيل ويوم وفاته حدثا عاديا للمصريين لأنهم رأوا فيه أصل الفساد السياسي والمالي، ثم الأصل في مجيء الاحتلال البريطاني إلى بلادهم، يقول روزستين: "إن ما يفعله المؤرخون الرسميون من تصوير الأعيان والعلماء وغيرهم من الطبقات المصرية الراقية في ذلك الوقت في صورة آلات في يد إسماعيل مُسخّرة لأمره فاقدة الاستقلال الخلقي والفكري لمن قبيل العبث بالحقائق التاريخية وتشويهها، قد يكون النواب بحكم الظروف مستعدين للانقياد لإسماعيل ومساعدته في رفع النير الأوروبي عن بلادهم ولكنهم مع ذلك كانوا يمقتونه لأنه كان علة شقائهم وبلائهم وقد بلغ بهم الأمر بعد الانقلاب السياسي (أي بعد إقالة الحكومة الأوروبية وتعيين وزارة شريف باشا) أن فكّروا في عزله، ومما يدلّ على حقيقة مبلغ كره المصريين له أنه لما عُزل وأُخرج من البلاد لم يرتفع صوت واحد بالدفاع عنه"[17].
كانت سنوات حكم إسماعيل لمصر سنوات شؤم وبلاء، ضاعت فيها البلاد في كومة من الفساد الإداري والمالي والسياسي، بسبب نزوات إسماعيل وعدم وجود كيان رقابي شعبي يحد من سياسته الفاسدة وإن حاول البرلمان الذي أوجده إسماعيل فعل ذلك، وتتجلى تلك الحقيقة مع كل حاكم مطلق أعطى لنفسه العنان في التصرف في ثروات البلاد دون أن يأبه لأنّات المصريين وآلامهم.
لقد رأينا إسماعيل واليا مشبعا بالثقافة الفرنسية قبل أن يكون واليا مصريا يحس بآلام شعبه التي أرهقها في تسديد الديون والتي طالما استُخدم الكرباج في التحصل عليها، وهو مع هذا الولع بالنموذج الفرنسي الذي قضى فيه سنين عددا، كان يمقت الدولة العثمانية، ويسعى إلى الاستقلال عنها بكل ما أوتي من قوة، وإن اضطر في أحايين كثيرة إلى دفع الرشاوى، والالتزام بتعهداته ومنها مساعدة العثمانيين عسكريا حين وقعت الحرب الروسية العثمانية سنة 1876م.
ولعل هذه التنشئة والثقافة الفرنسية الخالصة جعلت "إسماعيل لا يحسب حسابا للتدخل الأوروبي، وما ينطوي عليه من المطامع التي تهدم كيان الاستقلال، وهذا الخطأ الجسيم في سياسة إسماعيل الخارجية ناشئ عن نزعته الأوروبية، فإن هذه النزعة "جعلته يثق بأوروبا والدول الأوروبية، والجاليات الأوروبية، ثقة عمياء، ويركن إليها، ويعتقد فيها حسن النية، ولا يفطن لمطامعها الاستعمارية، ففتح أبواب البلاد على مصراعيها للتدخل الأجنبي، وسمح للأوروبيين أن يتغلغلوا في مرافعها، ويتولوا المناصب والمراكز الرفيعة في حكومتها، وبلغت به الثقة في سلامة نيتهم حدًّا جعله يقترض القروض الجسيمة بلا حساب من المرابين والبيوت المالية الأجنبية، حتى صار للأجانب في عهده نفوذ سياسي لم يكن لهم من قبل"[18]
المصادر
1 ديفيد لاندز: بنوك وباشاوات ص569.
2 ألفريد بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر ص30.
3 تيودور روزستين: خراب مصر ص55.
4 روزستين: السابق ص57.
5 محمد صبري:تاريخ مصر من محمد علي إلى العصر الحديث-ص96.
66 - بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر ص38.
7 بلنت: السابق ص27.
8 ماك كون: مصر في عهد إسماعيل ص189.
9 روزستين: خراب مصر ص104.
1010 - روزستين: السابق ص105.
11 اللورد كرومر: مصر الحديثة 1/57.
12 ألفريد بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر ص69.
13 روزستين: خراب مصر ص139.
14 بلنت: السابق ص40.
15 جون مارلو: تاريخ النهب الاستعماري لمصر ص344.
16 كرومر: مصر الحديثة 1/205.
17 روزستين: خراب مصر ص81.
18 الرافعي: السابق 1/77.
لم يكن تقريب الخديو إسماعيل للمرابين وأصحاب البنوك الذين استطاعوا تكبيل إسماعيل في ديون طويلة الأجل كما استعرضنا في تقريرنا السابق إلا مزيدا من الإغراق لمصر، حتى وصل الأمر أن بعض هؤلاء كتب يمتدح إسماعيل ويعتبره "باعث الشرق الجديد" من كبوته وسكونه، وكان على رأس هؤلاء الفرنسي ديرفيو.
على أن الخديو نكث بوعوده لديرفيو، ولم يستطع أن يسدد أي أقساط من المتفق عليها حتى أواخر شهر (أغسطس/آب) سنة 1866م، وفي الشهر التالي نسي ديرفيو صداقته المتينة بإسماعيل، ومدحه وكونه "باعث الشرق الجديد" وبدأ إجراءاته القانونية وإن أخّرها لـ (أكتوبر/تشرين الأول) من العام نفسه على وعد جديد من إسماعيل الذي كان مثل الزئبق متنصلا من وعوده، وهكذا وقعت القطيعة أخيرا، ورفع بنك ديرفيو وشركاه قضية من خلال القنصلية الفرنسية، وكتب أحد أصدقاء ديرفيو قائلا: "إن ديرفيو قد سئم أن يرى الالتزامات لا تُنفّذ، والوعود لا تُحترم، والتضحية لا تُعوّض، وأن يكون الولاء المخلص القديم غير مقدّر"[1]!
الخديو في بحر الديون!
كانت الدائرة على الخديو مفرغة، لقد استطاع لاعبو الحيل من المرابين والمقاولين وأصحاب البنوك إيقاع إسماعيل في شراكهم وخداعه، كانت الديون تستجلب الديون بربا وفوائد فاحشة، وكانت النتيجة الحتمية لهذه الدائرة المفرغة أن لجأ كل فريق إلى تأمين مصالحه، فلجأ الدائنون إلى حكوماتهم التي تدخلت بتشكيل لجان المراقبة الأوروبية على أعمال الحكومة المصرية، وفرض القيود المالية بل والسياسية على حكم إسماعيل، فاضطر معها إسماعيل سنة 1872م إلى مشروع مالي عرّض أصوله إلى التقليص يُعرف بقانون المقابلة، وهو يقضي بأن ينزل لملاك الأراضي الزراعية عن نصف الضريبة المفروضة عليهم نزولا تاما على أن يدفعوا إليه في وقت معلوم ستة أمثال هذه الضريبة، وفي سنة 1874م عرض والي مصر فائدة دائمة قدرها 9% لكل من يكتتب في قرض داخلي غير مردود قدره 5 ملايين جنيه وهو ما يُعرف بدين الروزنامة[2].
على أنه لم يحن صيف سنة 1875م حتى كان الخديو في حاجة شديدة إلى المال لسدّ نهم دائنيه، ولذا استقر رأيه على أن يبيع أسهم مصر في شركة قناة السويس وقدرها 176.206 أسهم من مجموع 400 ألف سهم بيد الشركة، هذه القناة التي كانت وبالا على مصر والمصريين فلم يستفد بخيراتها إلا الأجانب على حساب دماء الفلاحين وعرقهم ومعاملتهم كالعبيد في ميدان السُّخرة، وهي الفرصة التي سنحت للبريطانيين فاختطفوها كالصقور، وما أسرع ما وقف المستر دزرائيلي رئيس الحكومة البريطانية حينذاك على رغبة الخديو وفي الحال قرّر شراء هذه الأسهم بمبلغ 4 ملايين جنيه بمساعدة عاجلة من بنك آل روتشيلد اليهودي في لندن[3].
كان شراء البريطانيين لحصة مصر من قناة السويس بداية الاحتلال الفعلي لمصر في وقت كانت الدولة العثمانية في مواجهة شرسة ضد النفوذ الأوروبي الذي كان يحارب العثمانيين ماليا وسياسيا بل وباقتطاع أراضٍ منها، تقول جريدة التايمس اللندنية في عدد 26 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1875م: "إذا أدّت الثورات والاعتداءات من الخارج والرشوة من الداخل إلى سقوط تلك الإمبراطورية (العثمانية) سياسيا وماليا، فقد يتعين علينا اتخاذ الوسائل التي تكفل سلامة ذلك القسم من أملاك السلطان لما لنا به من الصلة الوثيقة"[4]. ويقصدون بذلك تأمين مصالحهم في مصر وعلى رأسها قناة السويس التي اشتروا أسهمها من الخديو المغيب!
في عام 1876م، وبعد تفاقم أزمة ديون مصر وإعلان إفلاس الدولة العثمانية نتيجة الحرب مع روسيا، وتأثر مصر إعلاميا بهذا الإفلاس -إذ كانت لا تزال تابعة بصورة اسمية للدولة العثمانية-، اتفقت كل من فرنسا وبريطانيا على إرسال لجنة للإشراف على مالية مصر، عُرفت هذه اللجنة باسم لجنة "جوشن – جوبير"، ولم يكن عمل هذه اللجنة مجرد تقييم الأوضاع المالية، والبحث في تدابير عاجلة وعادلة، لكنها بدأت بالفعل في السيطرة على مالية الدولة، وارتهان موارد مصر خدمة للدائنين الذين بلغت مديونياتهم عاجلة الدفع 7 ملايين جنيه، "ولم يكن الحصول على هذا المبلغ الجسيم من الفلاحين المفلسين ممكنا إلا بإكراههم تحت الكرباج على ارتهان أراضيهم للمرابين اليونانيين الذين كانوا يرافقون جباة الضرائب في كل مكان أثناء مرورهم في القرى"[7].
ارتهنت موارد مصر المالية لسداد ديون المرابين/حملة الديون الفرنسيين والإنجليز وغيرهم، وتدخلت كل من فرنسا وبريطانيا بثقليهما لكي يوافق إسماعيل على تمكين لجنة "جوبير – جوشن" من مالية مصر والتصرف فيها، وهو الأمر الذي لفت نظر المؤرخ الإنجليزي المستر ماك كون، ورأى أن بريطانيا ألقت ثقلها وتدخلت في الحالة المصرية لصالح الدائنين ولم تفعل هذا مع دول أخرى، يقول:
"إنه لمن الغريب جدا أن تكون الحالة المصرية المالية الحالة الخارجية الوحيدة التي أوجبت تدخل وزارة خارجية بريطانيا العظمى، فإنه في نفس السنة التي شدّت فيها أزر إرسالية المستر جوشن والمستر جوبير، الشدّ كله الذي كان يمكن لها إبداؤه بكيفية ملائمة، كان يوجد لا أقل من سبع عشرة دولة مفلسة في جدول نقابة حاملي الأسهم الخارجية الأسود، وبلغت الديون المطلوبة منها 400 مليون جنيه، ومع ذلك لم يُروَ مُطلقا أن الحكومة البريطانية أبدت على إحدى هذه الدول احتجاجا ولو برسالة قنصلية في مصلحة المقرضين".
ويُرجع المؤرخ البريطاني السبب إلى أن الدائنين في الحالة المصرية "لم يكونوا دائنين من نوع بقية الدائنين؛ فإنهم كانوا في باريس ولندن على السواء أصحاب قوة وبأس في البرلمان والصحافة، وعليه فإن كل وسائل الدوائر الرسمية في البلدين استخدمت لتمكنهم من الحصول على أكثر من الست عشرة أوقية المطلوبة لهم من لحم الفلاحين المصريين البائسين"[8]!
على أنه يُضاف فوق ما ذكره كون سابقا إلى أن الجذور التاريخية، والأهمية الجغرافية لمصر، خاصة مع وجود قناة السويس، كانت السبب الأبرز والأهم لتدخل كل من فرنسا وإنجلترا في الشؤون السياسية والمالية لمصر، لقد كان الإنجليز والفرنسيون يعملون وفق خطط لإيقاع مصر وإسقاطها ومن ثم إعلان الحماية عليها.
مما لا شك فيه أن تدخل لجنة "جوبير – جوشن" كان بمنزلة احتلال فعلي لمصر، فإنهم وإن كانوا بصورة اسمية تابعين للخديو إسماعيل فإنهم في المقابل كانوا يصدرون القرارات التي تتعارض مع مصالح مصر وأمنها الداخلي، فقط لدفع أقساط الديون في مواعيدها السنوية، ولأجل ذلك فإن "مصروفات البلاط والحريم الكمالية لم تُخفّض إلى أدنى حد فحسب، بل أُجّل دفع مرتبات معظم موظفي الحكومة وحُلّ جزء من الجيش، ولما تبيّن أن تلك الموارد لم تكف للحصول على المال اللازم اقتضى الأمر الالتجاء إلى (الكُرباج) لحمل الفلاحين على تقديم ما عندهم من الأموال"[9].
على أن إرهاق المصريين بالديون ورفع أسعار الخدمات والضرائب أدى إلى إصابة البلاد بحالة من الكساد التجاري نتيجة رفع الجمارك وذلك في العام التالي من مجيء اللجنة سنة 1877م، ولم يجد الجلاد الأوروبي إلا الاتجاه إلى محاصيل الفلاحين الفقراء الذين أضناهم التعب والجهد وضريبة العشور، واضطروا تحت كرباج المرابين والحكومة إلى بيع محاصيلهم لشركة إنجليزية بثمن بخس، فزادوا فقرا وفاقة، وعبثا حاول إسماعيل مع الدائنين أن يتوقفوا عن انتهاج هذه الأساليب مع الفلاحين وتأخير دفع قسط من الأقساط رحمة بهم، لكنّ هؤلاء الموظفين الأجانب لم يهتموا بهذا النداء أو يلقوا له بالا.
كتب القنصل البريطاني في القاهرة في شهور سنة 1877م إلى حكومته في لندن مُحذّرا من خطورة الأوضاع الاقتصادية بسبب سياسة عمل لجنة "جوشن – جوبير" قائلا: "لقد دفعت مصر في خلال ثمانية أشهر ما يقرب من 6 ملايين جنيه، وهي شهادة ناطقة بحسن النظام الجديد، ولكني أخشى أن نكون قد حصلنا على هذه النتائج بعد هلاك الفلاحين بسبب بيع حاصلاتهم قبل حصادها قسرا، وجباية الضرائب مقدما قبل مواعيدها، هذا فضلا عن أن مرتبات الموظفين الوطنيين التي يعد دفعها بانتظام شرطا أساسا لحسن الإدارة قد أُجّل دفعها لسداد الكوبون وبهذا تكدس ما للمستخدمين من متأخرات"[10].
الأجانب يحكمون مصر!
كان عمل اللجنة واعتراضات الخديو عليها سببا في تشكيل بريطانيا من جانب واحد لجنة دولية برئاسة السير ريفرز ويلسون للتحقيق فيما يحدث في القاهرة، وحين جاء ويلسون وتحقق وموظفوه من مالية الدولة المصرية، أصدرت اللجنة تقريرها الذي شوّه صورة إسماعيل، وأعلن للعالم صورة عمل الحكومة المصرية التي وصفها بالفساد وانتشار الرشوة، وسرعان ما أصدرت اللجنة توصياتها بضرورة تشكيل حكومة جديدة برئاسة نوبار باشا الأرمني، على أن يكون ريفرز ويلسون وزيرا للمالية.
اعترضت فرنسا بثورة عارمة على استئثار إنجلترا بإدارة شؤون مصر، مما اضطرت معه بريطانيا إلى تعيين المسيو دي بلنيير وزيرا للأشغال العمومية مع توسيع اختصاصه بحيث يشمل السكك الحديدية ومصلحة البريد ما عدا فرعها في الإسكندرية. حينها اعترض كل من دائني إيطاليا والنمسا لتجاهلهما، فعُيّن أحد الإيطاليين رئيسا عاما للحسابات، وأحد النمساويين مساعدا لوزير المالية، وكانت هذه الوزارة الجديدة التي شُكّلت بالفعل سحبا لسلطات الخديو ليحل محلها سلطات الدائنين ومن ورائهم حكوماتهم، كانت باختصار إمعانا في الاحتلال السياسي لمصر قبل مجيء الاحتلال العسكري الصريح[11].
كتب السير فرانك لاسل الذي كان قنصلا عاما لإنجلترا في القاهرة في ذلك الوقت إلى وزارة خارجية حكومته تقريرا في 26 أبريل/نيسان سنة 1879م يصف فيه الاستياء العام الذي كان يشمل الشعب المصري قائلا: "ويؤكدون أن هذا الاستياء عينه من الحال الحاضرة منتشر انتشارا كبيرا في الجيش، وأنه ولّد شعور عداء للخديو ليس فقط بين أفراد العسكرية المنتسبين إلى طبقات الأمة المرهقة بل بين الضباط أنفسهم. ويؤكدون لي أيضا أن هؤلاء وإن كرهوا كل الكراهة أي تدخّل أوروبي يعتبرون الخديو مسؤولا عن المصائب التي أصابت البلاد"[12].
لم يختلف عمل وزارة "نوبار – ويلسون" عن عمل لجنة "جوبير – جوشن"، لا سيما في استخدام الأساليب القاسية للضغط على الفلاحين في استمرار دفع الضرائب المقررة عليهم خدمة لأصحاب الديون، ولضمان دفع أقساطها في المواعيد المحددة، بل "واستقر رأيهم ذات يوم جمعة على القيام "بإصلاح" جديد للحصول على ما يكفي لأداء كوبون أبريل، وأصدروا أمرهم بإقالة 2500 ضابط من ضباط الجيش لم يستلم أحد منهم مرتبه عن الثمانية عشر شهرا السالفة، كما أن الكثيرين منهم كانت لهم مرتبات متأخرة عن ضعفي هذه المدة"[13].
كان هذا القرار الذي شرعت الحكومة الأوروبية في تنفيذه برئاسة تابعها نوبار سببا في انهيارها، فقد أحاط عدد من الضباط والعساكر بنوبار وويلسون وأهانوهما وسحبوهما إلى الاعتقال في وزارة المالية، الأمر الذي اضطر معه الخديو إلى التدخل لتخليص الرجلين بمساعدة حرسه الملكي، وإن أشارت بعض الروايات إلى أن هذا العمل كان من تخطيط الخديو نفسه لأنه كان شديد الحنق والكراهية لنوبار وويلسون[14].
رحيل الطاغية
تولى توفيق ابن الخديو إسماعيل رئاسة الحكومة الجديدة وأُبعد إسماعيل عنها شكليا، لكنه أصر على إدارة الأمور من وراء ستار وحاول أن يعرقل عملها، وانتهج ويلسون الأسلوب نفسه في الضغط على المصريين، ولم يلبث المصريون أن أرسلوا شكاواهم إلى إسماعيل الذي استغل هذه الشكاوى -وهو السبب الأول والأهم فيها- وقرر عزل هذه الوزارة وتعيين وزارة جديدة برئاسة شريف باشا، وإلغاء أعمال اللجان الأوروبية وعدم الاعتراف بما أصدرته من قرارات، فاعتبر الأوروبيون هذه الوزارة الجديدة "انقلابا حكوميا" يحول دون إعطاء الدائنين حقوقهم، فضلا عن كونه أعاد إسماعيل إلى الواجهة من جديد[15].
لم توافق فرنسا وبريطانيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا على قرارات إسماعيل الجديدة بخصوص الدائنين وتشكيل الوزارة الجديدة الموالية له، ورأوا أن استمراره في الحكم يعوق مصالحهم في نهب ثروات مصر تحت دعوى "مصالح الدائنين وحقوقهم"، فأرسلوا على الفور مذكرتهم التهديدية له في أوائل يونيو/حزيران 1879م جاء فيها: "الحكومة الفرنسية والحكومة الإنجليزية متفقتان على النصح لسموكم رسميا للتنازل عن العرش ومغادرة مصر، وإذا ما عمل سموكم بهذه النصيحة، فإن حكومتينا سوف تعملان معا من أجل ضمان مخصصات مالية مناسبة يجري التوقيع عليها لكم، وأن مسألة تولي الأمير توفيق بعدكم ستظل بلا مساس، ويجب أن لا يخفى على سموكم أنك إذا رفضت التنازل عن العرش وإذا ما أجبرت مجلس الوزارء الإنجليزي ومجلس الوزراء الفرنسي على مخاطبة السلطان مباشرة، فإنك لن تستطيع الحصول على مخصصات ولا المحافظة على خلافة الأمير توفيق لك"[16].
كان اللعب بورقة وراثة العهد وسحبها من إسماعيل وأبنائه بتعيين عمه الأمير حليم المقيم في إسطنبول، وفي الضغط عليه ماليا ورقة ناجحة تماما، وقد اضطر الباب العالي في إسطنبول إلى الاستماع لمطالب الإنجليز والفرنسيين خشية من إعلان الحماية على مصر واهتزاز صورة السلطان العثماني، فأصدر قراره بعزل إسماعيل وتعيين ابنه البكر توفيق خلفا له على عرش مصر.
جاء قرار العزل في 26 يونيو/حزيران 1879م، وبعده بأربعة أيام خرج إسماعيل من مصر إلى إيطاليا ومنها إلى إسطنبول التي استقر فيها إلى أن أدركته المنية في 8 مارس/آذار 1895م وبعد وفاته بأسبوع نُقل رفاته إلى الإسكندرية في الليلة نفسها التي اختارها مدير دار الأوبرا في القاهرة لتمثيل رواية "عايدة"، وهي الرواية الملحّنة التي أطرب بها إسماعيل ملوك أوروبا وأمراءها يوم افتتاح قناة السويس، لقد شرب الأوروبيون من دماء إسماعيل ومن ورائه المصريين يوم مُلكه ويوم وفاته!
المصريون لا يأبهون للطاغية!
كان يوم عزل إسماعيل ويوم وفاته حدثا عاديا للمصريين لأنهم رأوا فيه أصل الفساد السياسي والمالي، ثم الأصل في مجيء الاحتلال البريطاني إلى بلادهم، يقول روزستين: "إن ما يفعله المؤرخون الرسميون من تصوير الأعيان والعلماء وغيرهم من الطبقات المصرية الراقية في ذلك الوقت في صورة آلات في يد إسماعيل مُسخّرة لأمره فاقدة الاستقلال الخلقي والفكري لمن قبيل العبث بالحقائق التاريخية وتشويهها، قد يكون النواب بحكم الظروف مستعدين للانقياد لإسماعيل ومساعدته في رفع النير الأوروبي عن بلادهم ولكنهم مع ذلك كانوا يمقتونه لأنه كان علة شقائهم وبلائهم وقد بلغ بهم الأمر بعد الانقلاب السياسي (أي بعد إقالة الحكومة الأوروبية وتعيين وزارة شريف باشا) أن فكّروا في عزله، ومما يدلّ على حقيقة مبلغ كره المصريين له أنه لما عُزل وأُخرج من البلاد لم يرتفع صوت واحد بالدفاع عنه"[17].
كانت سنوات حكم إسماعيل لمصر سنوات شؤم وبلاء، ضاعت فيها البلاد في كومة من الفساد الإداري والمالي والسياسي، بسبب نزوات إسماعيل وعدم وجود كيان رقابي شعبي يحد من سياسته الفاسدة وإن حاول البرلمان الذي أوجده إسماعيل فعل ذلك، وتتجلى تلك الحقيقة مع كل حاكم مطلق أعطى لنفسه العنان في التصرف في ثروات البلاد دون أن يأبه لأنّات المصريين وآلامهم.
لقد رأينا إسماعيل واليا مشبعا بالثقافة الفرنسية قبل أن يكون واليا مصريا يحس بآلام شعبه التي أرهقها في تسديد الديون والتي طالما استُخدم الكرباج في التحصل عليها، وهو مع هذا الولع بالنموذج الفرنسي الذي قضى فيه سنين عددا، كان يمقت الدولة العثمانية، ويسعى إلى الاستقلال عنها بكل ما أوتي من قوة، وإن اضطر في أحايين كثيرة إلى دفع الرشاوى، والالتزام بتعهداته ومنها مساعدة العثمانيين عسكريا حين وقعت الحرب الروسية العثمانية سنة 1876م.
ولعل هذه التنشئة والثقافة الفرنسية الخالصة جعلت "إسماعيل لا يحسب حسابا للتدخل الأوروبي، وما ينطوي عليه من المطامع التي تهدم كيان الاستقلال، وهذا الخطأ الجسيم في سياسة إسماعيل الخارجية ناشئ عن نزعته الأوروبية، فإن هذه النزعة "جعلته يثق بأوروبا والدول الأوروبية، والجاليات الأوروبية، ثقة عمياء، ويركن إليها، ويعتقد فيها حسن النية، ولا يفطن لمطامعها الاستعمارية، ففتح أبواب البلاد على مصراعيها للتدخل الأجنبي، وسمح للأوروبيين أن يتغلغلوا في مرافعها، ويتولوا المناصب والمراكز الرفيعة في حكومتها، وبلغت به الثقة في سلامة نيتهم حدًّا جعله يقترض القروض الجسيمة بلا حساب من المرابين والبيوت المالية الأجنبية، حتى صار للأجانب في عهده نفوذ سياسي لم يكن لهم من قبل"[18]
1 ديفيد لاندز: بنوك وباشاوات ص569.
2 ألفريد بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر ص30.
3 تيودور روزستين: خراب مصر ص55.
4 روزستين: السابق ص57.
5 محمد صبري:تاريخ مصر من محمد علي إلى العصر الحديث-ص96.
66 - بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر ص38.
7 بلنت: السابق ص27.
8 ماك كون: مصر في عهد إسماعيل ص189.
9 روزستين: خراب مصر ص104.
1010 - روزستين: السابق ص105.
11 اللورد كرومر: مصر الحديثة 1/57.
12 ألفريد بلنت: التاريخ السري لاحتلال انجلترا مصر ص69.
13 روزستين: خراب مصر ص139.
14 بلنت: السابق ص40.
15 جون مارلو: تاريخ النهب الاستعماري لمصر ص344.
16 كرومر: مصر الحديثة 1/205.
17 روزستين: خراب مصر ص81.
18 الرافعي: السابق 1/77.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق