الأحد، 15 يوليو 2018

عودة إلى تاريخ ملك عربي مثقف



كان الملك فؤاد حريصًا على المؤسسات العلمية، فأحيا المجمع العلمي الذي نشأ في عهد نابليون، وقوّى من هيئة كبار العلماء ونشاطها وكيانها، وهو الذي أنشأ مجمع اللغة العربية على أساس حكومي ملتزم لا على الأساس التطوعي السابق الذي نشأ في دار الكتب، وهو الذي أنشأ مؤسسات تتولى الاهتمام بالدراسة العلمية لثروات الوطن كالثروة السمكية في معاهد متخصصة لعلوم البحار. كما أنه هو الذي قوّى من مشاركات مصر في نشاط الأبحاث العلمية في بحارها من خلال مراكز الغردقة والإسكندرية.

وهو الذي تولى تأسيس مؤسسات الأرصاد والمساحة الجوية والطبوغرافية ومصلحة المساحة وما إلى هذا كله من مؤسسات القياس والمعايرة والتقييم. وقد وجه عناية إلى الإحصاء والتعداد السكاني كما وجه عناية مبكرة إلى تسجيل الآثار، وتطوير المتحف المصري والارتقاء بالمرافق الملازمة له، وتنظيم السياحة حوله.

كان الملك فؤاد حفيًّا كل الحفاية بالفن الإسلامي في كل صوره وتجلياته، وقد سبق إلى كثير من الإضافات القيمة فيه، وكان حريصًا في إضافاته على الأصالة بالقدر الذي كان حريصًا فيه على أن يحقق لمصر وللثقافة العربية (والمصرية) طابعًا موازيًا للعالم، ومرتبطا به، وتستطيع أن ترصد في هذا السبيل حرصه على العملة المصرية وطباعتها وسكها، كما تستطيع أن تلتفت إلى أنه صاحب فكرة طبعة المصحف الشريف التي تسمى بمصحف الملك فؤاد وهو المصحف الذي لا يزال حتى يومنا هذا بمثابة أفضل طبعة متاحة للمصحف رغم المليارات التي أنفقت على طباعة مصحف الملك فهد ودار الملك فهد لطباعة المصحف، ومن المؤسف أننا لم نكرر طباعة هذا المصحف ذي الطباعة المتميزة، ولا تزال هناك بعض نسخ فريدة منه في تراث الجدات والأجداد حيث كان يصرف لهن ولهم في المدارس.

كان الملك فؤاد مشاركًا في الحرص الوطني على إعلاء راية الإسلام في المجتمعات الأوروبية وهو جانب تم إهمال الحديث عنه عن عمد متعمد
بلغت عناية الملك فؤاد بالخط العربي حدًّا كبيرًا وهو الذي اقترح (أو اخترع) فكرة حروف التاج لتكون شبيهة بالحروف الكابيتال في اللغات اللاتينية، ولا تزال حروف التاج تستخدم في كتابة الدعوات الرسمية وبطاقات الأفراح والمناسبات التذكارية. وتتلخص فكرتها الفؤادية في تنويع كل حرف بما يشبه التاج مع اختلاف هذا التاج من حرف إلى حرف على النحو الذي نشهده فيما نتعارف عليه الآن من بنطSymbol في اللغات الأجنبية وهو البنط الذي تكتب به الأسماء في العناوين والكروت ودعوات الاحتفالات الرسمية.

ظل الملك فؤاد يرعى الجامعة المصرية رعاية الأكاديمي الحصيف الذي يحرص على انتقاء أساتذتها واستيفاء العلماء الأجانب للمحاضرة والعمل فيها، وتزويد مكتبتها بما ينبغي أن تزود به من الكتب والمخطوطات والدوريات مما يرفع من قيمتها الأكاديمية. ومن الجدير بالذكر أن مبنى المكتبة في جامعة القاهرة كان من مبانيها الأولى التأسيسية وأنه بني على صيغة معمارية خاصة بالمكتبة ومتاحفها على نحو متميز.

ولم تشهد مصر استقدامًا للأساتذة العالميين على النحو الذي شهده عهد الملك فؤاد حتى إننا نستطيع أن نرصد في أساتذة كلية الآداب في جامعة القاهرة عددًا من الأسماء اللامعة دوليًّا في مجال تخصصاتهم. بل الأكثر من هذا أن كلية الطب كانت تضم بين جنباتها أساتذة عالميين في كثير من التخصصات منهم أستاذ الفسيولوجيا العالم الكبير إرنب.

كان الملك فؤاد مشاركًا في الحرص الوطني على إعلاء راية الإسلام في المجتمعات الأوروبية وهو جانب تم إهمال الحديث عنه عن عمد متعمد، فإذا انتبهنا إلى أن الملك فؤاد كان ممن صاغوا تكوين هيئة التمثيل الدبلوماسي لمصر في الخارج على أن تشتمل السفارات على إمام من علماء الدين يكون بمثابة الواجهة الدينية للسفارة أدركنا إلى أي حد كان النظام (ملكيا وحكومة) قادرًا على استشراف الوضع الأمثل لتقديم السفارة القومية (بما فيها تجليات الدين الإسلامي) للغرب، ومن أوائل هؤلاء الأئمة الذين عينتهم مصر برز اسمان عظيمان في الحياة الأكاديمية بعد ذلك هما الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب وسفير مصر في باكستان والسعودية ومؤسس جامعة الرياض الذي عمل إمامًا للسفارة في لندن، والشيخ أمين الخولي الذي عمل إمامًا للسفارة في برلين وروما.

بلغ الملك فؤاد القمة في تدخله في اختياره للوزراء الذين ترشحهم السياسة للعمل في الدولة، 
كان يتدخل على الدوام في تقييم هؤلاء الوزراء وشخصياتهم، وإمكاناتهم

كذلك كانت للملك فؤاد إسهامات بارزة في مسجد باريس الكبير وأعماله الفنية والزخرفية، ولا يزال المسجد محتفظًا بالمنبر الذي أهداه له الملك فؤاد. كان الملك فؤاد واعيًا للدور الذي تلعبه السكك الحديدية؛ فكان يستحث الحكومات المتعاقبة على تطويرها ومد خطوطها والعناية بخدماتها والنهوض بالضفيرة المواصلاتية المعهودة في ذلك الزمان التي تشمل السكك الحديدية والبرق والتليفونات في منظومة واحدة متضافرة ومتلازمة.

بلغ الملك فؤاد القمة في تدخله في اختياره للوزراء الذين ترشحهم السياسة للعمل في الدولة، كان يتدخل على الدوام في تقييم هؤلاء الوزراء وشخصياتهم، وإمكاناتهم، وكان تدخله هذا مفيدًا على الرغم من منافاته للديموقراطية الحقيقة التي تكل الأمر كله للشعب وللأحزاب وللصندوق. وكان يستقبل المرشحين في المستقبل للوزارة ليقيم شخصياتهم ويناقشهم، وكان هؤلاء يظهرون فخرًا بقدرتهم على إقناع الملك فؤاد وكسب ثقته، وقد روينا عن صليب سامي حواراته مع الملك في بداية عهده بالوزارة، وكيف كان الملك قادرًا على الفهم والاستنباط.

كان من الطبيعي أن تتراوح علاقة الملك بالزعامات الشعبية البارزة في عهده من التعاون إلى الفتور إلى العداء إلى العودة للتعاون ثم إلى العودة إلى العداء أو الفتور، وذلك بسبب وجود الاحتلال البريطاني، فقد كان على الملك أن يبحث دوما عن سبيل لإرضاء هذا الاحتلال على حساب الحركة الوطنية لأنه لو حارب من أجل الحركة الوطنية لتحول من ملك استعماري إلى ملك دستوري وهو ما لم يكن الاحتلال ليسمح به في ذلك الوقت الذي قامت فيه النظرية الاستعمارية على إحداث توازن بين قوتين متنافرتين تدين إحداهما بالوجود للشعب وتدين الأخرى بالدعم من الاحتلال البريطاني. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق