القضية 739 شوكان
الأسوأ من فاشية العسكري وفاشية الديني هي فاشية المثقف الذي يلعب في المساحة بينهما، باحثاً عن دفء إحداهما على حساب الأخرى، وبعد أن يخرج صفر اليدين، يصيح معلناً إنه ضد الفاشيتين.
وهل هناك فاشية ومكارثية وعنصرية أكثر من أن ينتقي بعضهم شخصاً واحداً من بين مئات المظلومين، لينادي بالحرية له، فقط، ويغضّ الطرف عن الآخرين الذين يواجهون احتمالات مصائر كارثية؟.
وهل هناك هدية أثمن من ذلك يتلقاها أي طاغيةٍ، حين يضيقون نطاق العدل والحرية على شخصٍ واحد، بينما هناك مئاتٌ، بل آلاف، تتهدّدهم مقصلة أحكام القضاء الجامح؟.
حتى مساء يوم الجمعة الماضي، كان الناس يضعون أيديهم على قلوبهم، ويبتهلون إلى الله أن ينجي 739 مواطناً مصرياً ينتظرون النطق بالحكم ضدهم غداً في قضية فض الاعتصام في ميدان رابعة العدوية، وهي أكبر مجزرة ترتكبها سلطة غير شرعية ضد الشعب المصري في القرن الحالي.
ومن بين هؤلاء الضحايا المحتملين لماكينة الأحكام القاتلة لقضاءٍ مسيسٍ إلى الحد الذي يجعله حكماً وخصماً في الوقت ذاته، كان المصور الصحافي الشاب محمود أبو زيد الذي اشتهر باسم شوكان، مع قائمة شملت شخصيات سياسية وإعلامية وعلمية وحقوقية، ينتمون إلى تيار الإسلام السياسي، من بينهم، على سبيل المثال، المحامي عصام سلطان الذي لم يترك قضيةً تتعلق بحرية أحدٍ من السياسيين والإعلاميين، قبل ثورة يناير وبعدها، إلا وكان حاضراً مدافعاً عنه، ومنهم النائب السابق والطبيب محمد البلتاجي، ومنهم باسم عودة وزير تموين الغلابة، ومئات من المواطنين، المعروفين وغير المعروفين، كل جريمتهم أنهم مارسوا حقهم في الاعتصام ضد إجراءات انقلاب عسكري، ارتكب مذبحةً بحق المشاركين فيه، وصاروا أرقاماً في ملف قضية متخمة بالعجائب والغرائب القانونية، وخاليةً من دليل اتهام موضوعي، إلا أقوال القاتل وشهاداته بحق ضحاياه.
ما حصل قبل الموعد المحدد لإعلان الأحكام في القضية أن فريقاً من المعلقين والمغرّدين استبقوا النطق بالحكم بإصدار أحكام إدانة سياسيةٍ ضد معظم المتهمين، المختلفين معهم سياسياً وفكرياً، بما يصلح ليكون غطاءً لمذبحة قضائية جديدة، في مقابل إطلاق هاشتاغ، يطالب بحرية المصور الصحافي الذي تم إلحاقه بالقضية، وهي حرية مستحقة بالطبع، لكنها حين تطلب لشخص واحد استثناءً عن باقي المدرجين في لائحة الاتهام، فإنها تعني على الفور أن المطالبين بها ليسوا مع الحرية بإطلاق، وإنما حرية طيفهم السياسي والأيديولوجي فقط.
ليس غريباً على الذين كانوا محرّضين للسلطة الصاعدة فوق الدماء لفض الاعتصام بالقوة المسلحة أن يواصلوا نهجهم الفاشي في إدانة من بقوا أحياء من المذبحة المروّعة، لكن الغريب حقاً قدرتهم اللافتة على ارتداء مسوح المناضلين ضد الفاشية، بمختلف ألوانها ودرجاتها، بينما هم يمارسون لوناً فاقعاً منها، بل إن بعضهم لو دقق في أصابع يده جيداً سيكتشف أن آثار دماء ضحايا تحريضهم، واستعجالهم السلطة، لتخليصهم من الأوغاد المعتصمين، لا تزال باقية.
الأغرب من كل ما سبق إصرار هذه الوجوه على الاعتزاز بالجريمة التي أوصلت ما يرونها فاشيةً عسكريةً إلى الهيمنة على البلاد والعباد، والفخر بالمشاركة فيها، ثم الزعم بأنهم ضد الفاشية، إذ يبدو هذا كاشفاً ومعبراً عن عطب في التفكير، وخلل في الضمير، يتجسّد في تناقض هائل بين الزهو بالجريمة والإدانة، المتأخرة للغاية، للفاعل الرئيس فيها، لأسبابٍ تخص مردود هذه الجريمة (المفخرة) عليهم، وليس موقفاً مبدئياً ضدها.
واقع الأمر أن هؤلاء لا يستطيعون الاستغناء عن الاستبداد والطغيان، وأقصى ما يطمحون إليه أن يتلطف الطاغية معهم، ويمارس جبروته على مخالفيهم، وتلك هي، حرفياً، معادلة نكبة الثلاثين من يونيو، بوصفها استجابة صاخبة لرغبات مجنونة في إقصاء المختلف سياسياً وفكرياً وإبادته، بالاستعانة بفاشيةٍ عتيدة، تغزّلوا فيها في البدايات، ثم صرخوا منها بعد أن استدارت لالتهامهم.
إن أحداً لم يعد يباهي بهذه الجريمة، ويعتبرها انتصاراً مقدّساً إلا حاخامات الكيان الصهيوني وجنرالاته، والسيد علي جمعة، ونفرٌ من المثقفين الفاشيست.
الأسوأ من فاشية العسكري وفاشية الديني هي فاشية المثقف الذي يلعب في المساحة بينهما، باحثاً عن دفء إحداهما على حساب الأخرى، وبعد أن يخرج صفر اليدين، يصيح معلناً إنه ضد الفاشيتين.
ردحذف