تجفيف منابع الصحافة المصرية
القصة باختصار أنهم يريدون نسف الجسور بين الإعلام والمواطن العادي، باعتبار هذا المواطن ملكية خاصة للسلطة الحاكمة، ليس مسموحاً لأحد بمخاطبته أو الاقتراب منه، أو التعاطي على أي نحو مع همومه وتطلعاته.
هذا ما سعى إليه نظام عبد الفتاح السيسي، بتمرير القانون الجديد الذي يقضي تماماً على مفهوم الصحافة التي تتمتع بالحد الأدنى من الحرية والمهنية، أو يمكنك أن تسميه قانون الانتقام من الصحافيين بأثر رجعي، يمتد إلى نحو 22 عاماً، حين ناضلت الجماعية الصحافية حتى انتزعت القانون 96 لسنة 1996 من براثن سلطة حسني مبارك.
في مثل هذه الأيام من العام 2016، كانت الخطوة الأولى من الحكم العسكري في اتجاه القضاء على ما تبقى من ملامح للقانون 96، حين أطلقوا النائب مصطفى بكري مدجّجاً بحزمة من التعديلات على القانون، أهمها انتزاع سلطة تعيين رؤساء تحرير ومجالس إدارات المؤسسات الصحافية من المجلس الأعلى للصحافة، ووضعها بيد عبد الفتاح السيسي شخصياً. وفي ذلك الوقت، كانت نقابة الصحافيين لا تزال تحتفظ بقبس من روح النضال والحشد ضد تغوّل السلطة السياسية على السلطة الرابعة، وهي التسمية التي كانت شائعةً عن الصحافة المصرية.
ومضى السيناريو كالتالي: رئيس ما يسمى مجلس النواب قرّر إرجاء النظر في التعديلات مؤقتاً، إلى حين الانتهاء من وضع قانون موحد للصحافة والإعلام، ملوّحاً بأنه إذا لم يتم إنجاز القانون الجديد سيتم النظر في التعديلات السيسية التي حُمِّل بها مصطفى بكري، ثم أعقب ذلك إقدام عبد السيسي على إصدار قرار بإنشاء مجلس أعلى للإعلام، يلغي وجود المجلس الأعلى للصحافة ودوره الفعلي، وتنبثق منه هيئة وطنية للصحافة، تنهي ولاية نقابة الصحافيين على المهنة وممارسيها، ثم خاضت أجهزة النظام معركة تحرير النقابة من قبضة الصحافيين، ووضع نقيب جديد لها، يعادي المهنة، وينفذ كل ما تطلبه السلطة السياسية، لتتم عملية تأديب الجماعة الصحافية، على موقفها من قضية بيع جزيرتي تيران وصنافير، وينتهي الأمر بالنقابة جثة هامدة بلا حراك، وتمضي عملية نزع أظافرها الطويلة، لتتحول المهنة من سلطةٍ رابعةٍ تسمى صاحبة الجلالة إلى خادمة درجة عاشرة في بلاط السلطة الوحيدة، الممثلة في شخصٍ اسمه عبد الفتاح السيسي، هو هراوة الأمن ومنصة القضاء وميكروفون الإعلام.
والشاهد أنه قبل تمرير القانون الجديد في "كشك التشريع" المسمى برلماناً لم يكن لدى جماعة الصحافة ونقابتها ما يزعج السلطة، الأمر الذي يرجّح أن الهدف من التشريع هو بث رسالة رعب إلى المواطن العادي، مضمونها: لا تتعامل مع الإعلام إلا بالقدر الذي تسمح به السلطة وأجهزتها الأمنية، ولو نظرت إلى المادة التي تُلزم الصحافي بـ"الحصول على التصاريح اللازمة" قبل حضور المؤتمرات والجلسات والاجتماعات واللقاءات في الأماكن غير المحظور تصويرها، ستدرك أن المستهدف هو المواطن، الذي كان يجد في ظاهرة صحافي الفيديو الحر فتحةً في جدار الصمت والقمع، يبث من خلالها أوجاعه.
وهنا ليس غريباً أن يكون أصحاب مدونات صحافية، مثل وائل عباس ومحمد أوكسيجين، في زنازين السجن الآن، عقاباً على الاتصال المباشر مع رجل الشارع، وهو الأمر الذي جرى مع مراسلة "بي بي سي" بعد موضوع زبيدة ووالدتها، بما يبدو معه أن النظام انزعج كثيراً من لقاءات صحافية مع رجل الشارع، عرفت طريقها إلى البث في قنوات وصحف، صنفتها السلطة منابر معاديةً وشريرة.
وما يدعم هذا التصور هو المواد المرتبطة بتوسيع صلاحيات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الذي يرأسه مكرم محمد أحمد، الكاره للصحافة وللنقابة، بما يتيح له منع تداول وسحب تراخيص وحجب مواقع عامة وشخصية، بما يؤشر إلى أن المستهدف هو القضاء على ما عرفت بظاهرة "صحافة المواطن".
كان لافتاً للنظر أنه في الأيام التي سبقت تمرير "قانون تجفيف منابع الصحافة" أن وسائل إعلام السلطة اشتغلت على نصّ موحد، يتناول ما وصفته بحرب الشائعات التي يشنها الأشرار على مصر، الأمر الذي يعبر عن فزع في دوائر النظام من أي صوتٍ لصحافةٍ بديلة، بعد أن تصوّرت السلطة أنها نجحت في كسر الأقلام وتجفيف الصحف، لذا لم يكن أمامها سوى مصادرة المتلقي ذاته، بعد أن صادرت المرسل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق