فجائية الدعوة.. أكثر ما يؤرق المخالفين
محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
قبل عقد ونصف تقريبًا كنت مهتمًا بالرد على شبهات زكريا بطرس، وجرني الرد عليه إلى نقد عباس العقاد والدعاة الجدد وغيرهم. مكثت أكثر من خمسة أعوام بين بطرس والعقاد والدعاة الجدد وما قاربهم؛ لاحظت أن قضيةً ما تبرز بوضوح عند الجميع. هي إنكار الوحي. أو إنكار الرسالة!
بطرس يتحدث بما توحيه الشياطين للكافرين في كل زمانٍ ومكان. يقول: ساحر، ويقول: مجنون، ويقول: علمه بشر. ويقول: يطلب الرئاسة في قومه..كالذي قاله أبو جهل ورفاقه من قبل. لا تكاد تجد فرقًا بين كفار قريش وكفار اليوم، (كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون. أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، (كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ)، فالعلة هي تشابه القلوب وإن اختلف الزمان والمكان، والعلة هي تسلط الشياطين على هؤلاء (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).
وبعض المنتسبين للإسلام تبنى أطروحات النصارى كاملةً كما فعل خليل عبد الكريم حين نسخ كتب القس جوزيف قزى (أبو موسى الحريري) ووضع عليها اسمه بعد تعديلات لا تكاد تذكر في العنوان والصياغة، وكما فعل سيد القمني في عددٍ من كتبه. وبعض المسلمين تبنى الفكرة من طريق آخر، هو طريق التطور الفكري، أو تأثير البيئة، مثل: عباس العقاد وعلي الوردي (انظر مقال: قنطرة الإلحاد: عباس العقاد وعلي الوردي نموذجًا) وزاد العقاد طريقًا مستقلًا هو طريق العبقريات. وإن شاء الله نأتي العقاد ونناقش أفكاره.
كلما جمعوا فكرةً وجاءوا يتحدثون يأتيهم شهاب ثاقب يحرقهم وما في أيديهم. هذا الشهاب الثاقب الذي يقضي على أكاذيب الكافرين وأراجيف المنافقين وأحاديث الغافلين هو فجائية الدعوة |
وورط الكافرُ والمنافقُ نفرًا من المسلمين من خلال التواصل الثقافي والمنافع والمصالح المشتركة، فحديثًا ظهرت أطروحات تزعم أن السيرة النبوية تجربة بشرية قامت على التخطيط والثقافة العامة للنبي، وأن الوحي محدود الأثر ولم يتدخل في الأحداث!!، ويدعون أنهم (على خطى الحبيب)، والله يقول: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).
وكلما جمعوا فكرةً وجاءوا يتحدثون يأتيهم شهاب ثاقب يحرقهم وما في أيديهم. هذا الشهاب الثاقب الذي يقضي على أكاذيب الكافرين وأراجيف المنافقين وأحاديث الغافلين هو فجائية الدعوة في ثلاثة مستوايات: شخص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحابته- رضوان الله عليهم-ـ والبيئة التي عاشوا فيها، والقضايا التي أثارتها البعثة (العقيدة).
لم يتلق شخص الرسول، صلى الله عليه وسلم، أيَّ معارفٍ ممن حوله، فلم يكن يقرأ أو يكتب (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) وعاش بين قومه أربعين سنة لم يفارقهم، وخلال هذه العقود الأربعة لم يجلس لأحد ويتعلم منه حرفًا واحدًا، بمعنى أنه لم يتعرض لتطور معرفي انتهى بالرسالة. وكذلك لم تؤثر فيه البيئة فقد كان مخالفًا لقريشٍ في دينها، لا يقف بمزدلفه ولا يلتزم بشعائرهم في الأعياد والمواسم دون أن يكون له موجه أو مثيل من بينهم؛ حتى التأهليل الخلقي كان من الله كليةً (شق الصدر، وفي الحديث: أدبني ربي فأحسن تأديبي). وفجأة بدأ يتحدث بحديثٍ آخر (القرآن الكريم) من جنس كلامهم ويخالفه في ذات الوقت تلاوةً وتركيبًا ويخبر عن السابقين واللاحقين.
وقل مثل هذا مع الصحابة فالذين وحدوا الجزيرة العربية تحت راية الإسلام وكسروا كسرى وأرغموا قيصر على ترك الشام وشمال أفريقيا.. لم يتصلوا بغيرهم، ولم يطوروا شيئًا من علوم الأرض هؤلاء الذين هم أهم حدثٍ في تاريخ البشرية نبتوا من نص مسموع ومقروء (كتاب وسنة). وحين ننظر للمحتوى، نجد أن الدعوة لم تتفاعل مع أسئلة مطروحة في البيئة التي بعث فيها رسول الله بل أثيرت قضايا جديدة: عن الخالق سبحانه وعز وجل، وعن الخلق، وماذا يراد منهم وماذا ينتظرهم إن آمنوا أو كفروا.
الاتصال بالأمم الأخرى
يحلوا لبعضهم التحدث عن أن الحضارة الإسلامية دخل في تكوينها الحضارات الأخرى. وكأن المسلمون عكفوا على دراسة ما عند غيرهم ثم أكملوا المسير. يقولون: العلم إنساني.. تراكمي، والمسلمون حلقة فيه؛ والمتحدثون بهذا القول من أبناء نظرية التطور المعرفي أو ممن يخافون أبناء التطور المعرفي، أو لهم مصالح يخافون عليها إن خالفوا التطور وأهله.
وقد جاءوا ظلمًا وزورًا!
البشرية لا تسير في خط مستقيم صاعد، بل في دوائر: تولد الأمم وتشب وتشتد ثم تهرم وتشيخ وتموت، والمسلمون الأوائل الذين أسسوا الدولة الإسلامية (الخلافاء والتابعين وتابعيهم إلى بداية القرن الثاني، وهو ذروة التسوع الحضاري للمسلمين) لم يتصلوا بغيرهم. فالاتصال بالحضارات الأخرى جاء متأخرًا (في نهاية القرن الثاني وبداية الثالث)، بمعنى أنه جاء بعد التأسيس. والملاحظة الأهم أن الأمم الأخرى كانت متخلفة حين اتصل بهم المسلمون، وما أخذه علماء المسلمين منهم عبارة عن أوراق مهملة وعكفوا عليها ودرسوا ما فيها وصوَّبوا بعضه وطوروا كله ضمن قواعد الشريعة ولم يأخذوه كما هو بنماذجه التطبيقية، وعلى سبيل المثال: هندسة المعمار- وهو أكثر ما يستشهد به- خرجت عندنا في صيغة خاصة جدًا عبارة عن أقواس ودوائر تترجم قيمة عليا عندنا هي محورية المسجد في قلب المدينة كمحورية الكعبة.
يؤرقهم أننا سماوييون.
أن النص الشرعي المقروء (الكتاب والسنة) يصلح تمامًا لإتمام عملية إصلاح شاملة وسريعة في حياة الناس
ومن يتتبع سيرة أوائل علماء الطبيعة المسلمين، كالخوارزمي والبيروني وابن سيناء وابن الهيثم.. يرى بوضوح أنهم متأخرين عن فترة التأسيس والازدهار وأنهم أخذو كتابات نقحوها وطوروها، وأنهم لم يخالطوا أمما متقدمة تتلمذوا على أيدي علمائها. وأما علوم الفلسفة فكانت- ولا زالت- هدمًا في الشريعة. فالفلسفة بالمعنى الواضح لها إجابة مختلفة للأسئلة الرئيسية التي يجيب عليها القرآن الكريم والسنة النبوية: الخالق والخلق والمآل. والذين تأثروا بالفلسفة كلية من المسلمين عدوا زنادقة واختلف الناس فيمن تأثر جزئيًا. كمن أخذ أداة العقل كمصدر للمعرفة وكحكم على الأشياء يسبق الوحيين (الدليل النقلي)؛ وحتى هؤلاء-المتأثرين جزئيًا- كانوا منبوذين في الحضارة الإسلامية كابن رشد الحفيد. وعند التدقيق نجد أنهم كانوا ضمن سياق المخالف.. شكَّلوا قنطرة بين ماضي أوروبا وحاضرها الذي قطعه الإسلام وكاد يقضي عليه، ولذا يفاخر بهم الغرب وتلاميذ الغرب!
ماذا يؤرقهم في فجائية الدعوة؟!
يؤرقهم أننا سماوييون. أن النص الشرعي المقروء (الكتاب والسنة) يصلح تمامًا لإتمام عملية إصلاح شاملة وسريعة في حياة الناس. وعلى صفحات التاريخ نموذج عملي أضاء حياة الناس وعطرها قرونًا من الزمان، وعاد مرة بعد مرة في بعض جنبات المعمورة. ويؤرقهم أن نرفع سيرة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وصحابته كنموذج عملي نفهم من خلاله النص الشرعي، فلم نتلق نصًا في فراغ. بل تلقينا نصًا وتطبيقًا عمليًا لهذا النص في شخص الرسول، صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده في المستوى الاجتماعي والمستوى السياسي (الخلفاء الراشدين). وهذا يقطع الطريق على محاولات مصادرة النص من خلال التأويلات المطلقة.
ويؤرقهم حضور الوحي كمصدر للإجابة على الأسئلة الرئيسية التي تدور حولها المعرفة: الخلق والخالق والمآل؛ وبالتالي كموجه للناس وضابط لحركتهم. ويؤرقهم أن فجائية الدعوة تقطع الطريق على فكرة التطور المعرفي والتي هي اليوم تمكين للمناهج الغربية الملحدة، والتي هي اليوم تحويل للمجتمعات في اتجاه الجنسانية والكفر بكل دين باعتبار أنه تطور طبيعي لحياة الناس! نعم منهجان يتدافعان: منهج من الله ومنهج من الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق