مصر تزرع الهستيريا
في الصباح، أكياس سوداء، في داخلها أشلاء مجموعة من الأطفال، منزوعي الأعضاء، ألقيت جثثهم في شارع مزدحم بالمارّة في منطقة الهرم.
هكذا، روجوا القصة، بمهارةٍ فائقة، فتنبت للخوف والفزع مليون شجرة في الأنفس الجائعة للأمن والأمان، ويشلّ الرعب العقول، فيموت التفكير في أي شيء، ويصبح منتهى طموحات المواطن أن يذهب أطفاله إلى المدرسة أو النادي، ويعودوا أحياء، كاملي الأعضاء.
في المساء: تتخذ وزيرة الصحة قراراً وطنياً شجاعاً بفرض عزف السلام الجمهوري داخل المستشفيات والمرافق الصحية لتعزيز الانتماء.
تتبدّد سحب الفزع، مؤقتاً، وتسيطر حالة عامة من الضحك الهستيري، فتندلع مليون نكتة، ويشتعل "سباق القلش"على القرار، ويغرق المصريون في محيط هادر من السخرية، بالكلمة وبالكوميكس وبالأغنية، وتصبح القضية الوطنية الأولى هي الضحك على مشروع وزيرة الصحة لتعميق الانتماء الوطني، على أنغام موسيقى السلام الجمهوري.
يبدو الأمر كأن هناك إدارة خاصة في الحكومة تستيقظ مبكراً جداً، قبل أن يصحو الناس، لتضع برنامج أعمال البكاء والضحك اليومي للمصريين، وترجّهم رجّاً شديداً في وعاء ضخم، تختلط فيه مواد الرعب مع منتجات الضحك الهستيري.
ولا بأس من إضافة بعض النكهات الحرّاقة من نوعية فتاة الفيديو اللبنانية التي اعتدت على الوطن والمواطنين بشريط معبأ بالشتائم والإهانات، وكيف انتصر جنود القضاء البواسل للكرامة الوطنية، بحكم بسجنها أعواماً، وهذه فقرة متكرّرة في برنامج "بسترة العقل المصري"، جرى استخدامها قبل ثلاث سنوات في واقعة سيدة مطار القاهرة، ياسمين النرش، التي صوروها تعتدي على ضباط الشرطة والجنود وتخلع ملابسها، لينقسم الشعور الجمعي بين الطرفين.
وهذا هو المناخ النموذجي لكي يبقى المواطن سجيناً لهذه الحالة من الهستريا، فلا يفكّر في أبعد مما تريده السلطة، فتحت غيوم الثرثرة، لا مجال للنظر في مسائل أخرى، فتستمر مقصلة الإعدامات في العمل، وتواصل آلة الوحشية البوليسية إنتاجها، فلا يتوقف أحدٌ، أو يرى في الأمر ما يستحق الغضب.
قلت سابقاً إن لدى السلطة، أي سلطة، طوال الوقت، أدواتها وأساليبها للعب مع الرأي العام، وبه، وحين يكون على قمة السلطة رجل مخابرات، قادم من مؤسسة اعترفت في أثناء أحداث ثورة يناير بأنها كانت تتحكّم في إيقاع الميادين، بما لديها من ورش إنتاج الشائعات، وتصنيع قصص الإثارة، يكون منطقيا للغاية أن تلجأ وزارة الداخلية إلى هذا النوع من الحلول، خصوصا مع الحملة الإعلامية، من أجنحةٍ أخرى داخل مؤسسة الانقلاب، ضد ممارساتها وأساليبها الوحشية.
ويبقى المحير هنا هو موقف المتلقي الذي يُقدم على استهلاك هذه التوليفة من الحكايات المخدّرة، على الرغم من إدراكه في داخله أنها قصصٌ مصنوعة للإلهاء، بما يؤشر إلى حالة إنهاك أصابت الجماهير، دفعتها إلى الإحساس باللا جدوى من التعامل بجديةٍ مع كل ما يُطرح عليها.
لكن إنه الانتحار بعينه، حين يتوهم أحدٌ أن من الممكن استرداد ثورةٍ من دون مشاركة الجميع.
غير أن المتلقي البسيط ليس وحده الذي يمنح السلطة إحساساً بالسعادة، من خلال إقباله على ما تُنتجه من قصص الرعب والقلش، فهناك قطاعٌ من الناشطين يقدمون خدمات جليلة بتأجيج الاشتباكات العبثية القديمة، المدمّرة أية فرصة للالتقاء حول مشروع وطني جاد، ويتناطحون بمنتهى الهمّة فوق عشب التسريبات المقصودة التي تتحدّث عن صفقات ومبادرات مضحكة، تضع جنرالاً مكان جنرال، فيتسابق الجميع لإزاحة الجميع، مدشنين جمعية منتظري العسكري الجديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق