الجمعة، 13 ديسمبر 2019

"طومان باي" أم "محمد علي"؟!

"طومان باي" أم "محمد علي"؟!


سليم عزوز

الاحتفاء العسكري في مصر بدولة المماليك، كاشف عن أزمة هوية لدى حكم العسكر، استمرت منذ الدولة العسكرية الأولى إلى الآن!

فقد بدت حركة الضباط الأحرار (1952) مشغولة بتدشين مرجعية تاريخية لها، فلم تجد في الرموز الوطنية المصرية ما يملأ عينها، بما في ذلك أصحاب الخلفية العسكرية مثل "أحمد عرابي"، فاعتمدت (الألباني) محمد علي باشاً، مرجعا لها وجعلت من نفسها امتداداً له، وخليفته في الملاعب، ومن ثم فقد زيفت كتب التاريخ، بتقديمه على أنه باني مصر الحديثة، دون ذكر لمثالبه إلا للضرورة، ومخاطبة العواطف بها، فتبدو كما لو كانت واحدة من البطولات، مثل مذبحة القلعة، ومثل حكمه الشعب بالاستبداد وبالحديد والنار، وتصرفه في مصر تصرف المالك فيما يملك وكأنه اقطاعية له ولأنجاله، وكانت حملاته الخارجية لا سيما على الحكم في نجد، تخاطب هوى لدى المرحلة، التي كانت تنظر للحكم السعودي باعتباره يمثل الرجعية العربية، كما جاء في خطب عبد الناصر!

الخصومة مع الوفد:
لم يكن من الطبيعي أن يعتمد أصحاب حركة يوليو (1952) زعماء مصريين، مثل رموز ثورة 1919، لأنها ثورة كانت لها ورثة، ومثل مصطفى النحاس وريثاً شرعياً لسعد باشا زغلول، كما أن حزب الوفد كان قائما عندما وقع الانقلاب العسكري، بل مثل ثورة مضادة في حقيقته وجوهره لهذه الثورة المصرية العظيمة، وكان يعتبر نفسه عدوا لها، وكل رايات الاستبداد التي رفعت، كانت بهدف إبعاد الوفد بحسبانه حزب الأغلبية عن الحكم، بقوة السلاح، واستقطاب النخبة والعامة على حد سواء. وظل عبد الناصر نفسه يخشى من الديمقراطية وبإجراء انتخابات حقيقية خوفاً من الوفد، حتى وهو يبدو للعيان أنه الزعيم الجماهيري الأوحد، وبشكل يوحي بأن ما كان يحدث كان بفعل البروباجندا، وليس تعبيراً عن الحقيقة.

بيد أن هناك زعامات مصرية مهمة غير هؤلاء، ومن مصطفى كامل إلى محمد فريد، إلى غيرهما، كان يمكن أن يتخذوا أيا منهم مرجعية لهم، لكنهم فتشوا في الدفاتر القديمة بحثاً عن هويتهم، فلم يجدوها سوى في دولة المماليك، بكل الجرائم التي ارتكبتها، وبكل النفوذ التي تحقق فيها للخصيان. ووصلت الفوضى العقلية منتهاها بإنتاج مسلسل ينتصر لدولة المماليك، ويقدمهم على أنهم المصريون الأصلاء الذين هزموا في معركة الشرف دفاعا عن التراب المصري في مواجهة الغزاة العثمانيين!

مع أن المماليك أيضاً أغراب، وقد كانت مجموعة منهم من الأتراك، وأخرى من الشركس، وهم عبيد حكموا مصر. وإذا سلمنا بأن العثمانيين غزاة، فالأمر نفسه ينطبق على المماليك، لكن هذه الفوضى جعلت من المماليك مصريين أصلاء، ولدرجة تصوير عبد الفتاح السيسي على أنه "طومان باي" الجديد، الذي سينتصر هذه المرة على "سليم الأول" الجديد، كما جاء في تغريدة للفتى محمود بدر، عضو مجلس النواب ومنسق حركة "تمرد" والقريب من النظام الحاكم، ومن رعاته الإماراتيين الذين أنتجوا مسلسل "ممالك النار"!
يا عوازل فلفلوا:

وإذا كنا نعلم بالسوابق، أن العسكر ليسوا معنيين بالتاريخ أو غيره، فإن المشكلة تكمن في أنهم تحركوا على قواعد المكايدة، ووفق خناقات الحواري و"يا عوازل فلفلوا". ولأنهم في خلاف مع أردوغان، فليقدموا أنفسهم على أنهم مماليك، فهل يدركون فعلا معنى انتمائهم لهذا العرق؟ إذا تجاهلنا مؤقتا فكرة أنهم ليسوا بمصريين أيضاً.

لقد كان عسكر (1952) أكثر فهماً لطبيعة الأوضاع، فلم يروا في "الأغراب الوافدين" من المسلمين الذين حكموا مصر أمرا يدعي القطيعة معه، لأن هذا كان سلوكا عاما في تاريخ بلد انتقل الحكم فيه من بين "الأغراب". وجاء غريب ليحل محل غريب، على العكس من عسكر (2013)، الذين يعيشون ضياع الهوية وضياع الهدف!

ولم ير المصريون في هذا جريمة، ولم ينظروا إلى الخلافة الإسلامية في أي فصل فيها، باعتبارها احتلالا أو غزوا. فالمماليك عندما جاؤوا لمصر، لم يدخل المصريون معهم في مواجهة. فقد كانت مواجهتهم مع الخلافة العباسية، تماما كما دخلت الخلافة العثمانية في مواجهة مع الخلافة المملوكية، فهذه الفتوحات عنوان العصر، وعندما يأتي عسكر هذه الأيام فيعتمدوا الحكم المملوكي تعبيرا عن هويتهم، التي يبحثوا عنها في كتب التاريخ، فإن عليهم أن يبحثوا عن حل لإشكال ينتجه هذا الانتماء، يتمثل في موقف محمد علي باشا (الذي يمثل مرجعية للدولة العسكرية الأولى) من المماليك!

مذبحة القلعة:
لقد قام محمد علي باشا بمذبحة القلعة، ضد المماليك، الذين دعاهم لقصره وتخلص منهم بمجزرة هي من أبرز عناوين حكمه، فما هو موقف العسكر الجدد من العسكر القدامى باختلاف المرجعيات على هذا النحو؟! وهل سيقرر المعاصرون اتخاذ محمد علي باشا عدواً، وقد قتل أجدادهم المماليك بهذه الطريقة البشعة؟!

إنه أداء بائس يذكرنا باحتفال عبد الفتاح السيسي بذكرى الحرب العالمية الثانية، وهي مواجهة غربية- غربية، بين جيوش الحلفاء وجيوش المحور، وهي حرب ليس لمصر فيها أي دور، إلا لكونها كانت واقعة تحت الاحتلال، ومن هنا أعلن شيخ الأزهر إنها حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ويبدو أن السيسي استشعر الحرج بعد ذلك عندما علم طبيعة هذه الحرب فتوقف عن الاحتفال بها.

فمتى يعلم السيسي أنه ليس شرفاً له أن يكون "طومان باي"، لأنه اعتراف منه بأنه من السلالة الشركسية، وما ينتج عن هذا الانتماء من آثار، أخصها أن المماليك كانوا أتراكا وشراكسة وعبيداً أيضاً!

فهل يرضيهم هذا الاختيار؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق