ممالك النار.. عندما تشوه دراما البترودولار أمجاد الخلافة
عمار العربي
بداية من هو السلطان سليم بن بايزيد هذا الذي تستهدفه هذه الدراما التاريخية، قطعا إذا عرفنا السبب بطل العجب! فهو تاسع السلاطين العثمانيين وأولهم في تولي خلافة المسلمين بلقبه الغازي القاطع، وهو خليفة المسلمين الرابع والسبعون، وأوّل من حمل لقب أمير المؤمنين من آل عثمان، وأول من حمل لقب خادم الحرمين الشريفين، ولد عام 1470 في أماسيا الأناضولية، وتوفي عام 1520، فعاش نصف قرن حكم فيها الدولة العثمانية من سنة 1512حتى سنة 1520، والدته عائشة "كلبهار" خاتون وإخوانه قورقود وأحمد، تزوّج عائشة حفصة خاتون، وأنجبت له سليمان القانوني في أبريل سنة 1495م.
انقلب الإنكشارية على والده "بايزيد الثاني" وطلبوا منه تولي السلطة بدعم منهم، فنجح بمؤازرتهم في استتباب الأمن، والتخلص من خصومه، وكانت له حروب الحاسمة مع الدولة الصفوية الشيعة والدولة المملوكية، ويعتبر عهده عهد الأمجاد الزاهرة، فقد كان محبًا للقتال شرس الطباع محبوبًا لدى الجند والإنكشارية، وقد أبدع في فنون السياسة خلال حكمه لطرابزون، فعمل على تحسين العلاقات العثمانية مع دول الجوار، وحمل على جورجيا لدعايتها المعادية للعثمانيين، فغزا مدنها وضمها للدولة العثمانية سنة 1508، وانتشر الإسلام في مدنها، وازداد بالتالي تعلّق جنود الإنكشارية به، فأصبحوا ينظرون إليه بوصفه المؤهل لمواجهة الخطر الصفوي المحدق بالدولة العثمانية، فرحبوا بتوليه الحكم في عام 1512م.
إلا أن نجاحه يعزى لتربيته السياسية صغيرا، فقد عهد إليه والده بتولي شأن طرابزون، وكان لا يزال في ربيعه الحادي عشر، فاستمر في إدارة حكمها بحزم ودراية طيلة29 عاما، من مطلع عام 1481 حتى عام 1510، مما أكسبه خبرة سياسية، جعلته يستقرىء بوعيه المبكر أبعاد التمدد الصفوي في إيران وأذربيجان، وأطماع المماليك التي كانت أعمق بكثير مما هي عليه في الظاهر، وبالأخص حين بدا للعلن أن طموحاتهم السياسية تتربص به، وتتضاد مع طموحاته في توحيد البلدان السنيّة وضم مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكان عقدهم للتحالف مع الشاه إسماعيل الصفوي بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير.
هذه العقلية العسكرية والنفوذ غير المحدود الذي تمتع به سليم الأول، استطاع أن يصل إلى السلطة، رغم ما وُضع في وجهه من عوائق، مما حدا به بعد انتصاراته في مصر لشكر الله عزوجل على توفيقه في مسيرته الجهادية، فجعل البيارق الحمراء شعارا للدولة العثمانية، ووشحها بالآيات الكريمة "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا"، و"نصرٌ من الله وفتحٌ قريب" وفيما كان السلطان سليم في القاهرة قدّم إليه شريف مكة مفاتيح الحرمين الشريفين، بعد أن كانت بيد المماليك من قبل، فاكتسب بالتالي الشرعية الدينية، مما دفع "المتوكل على الله" آخر ذريّة خلفاء بني العباس: محمد الثالث ليتنازل للسلطان سليم، ويسلّمه الآثار النبوية، وهي بيرق وسيف وعباءة النبي صلى الله عليه وسلم.
أمر السلطان سليم بترميم المسجد الأموي بدمشق، ولمّا فرغ من صلاة الجمعة، دعا له الإمام بعبارة "حاكم الحرمين الشريفين"، إلا أنه لم يتقبل ذلك، وفضّل استخدام لقب خادم الحرمين الشريفين، ولك أن تتصور عظمة الدولة العثمانية في عهده بامتدادها على مساحة 5،200،000 كم، ومن الطبيعي أن يشمل هذا الاتساع مصر والأناضول ومعظم أنحاء الهلال الخصيب، والبحر المتوسط وما يتفرع عنه من بحور.
بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح نشط البرتغاليون على سواحل المغرب ، ووضعوا خططهم للالتفاف على العالم الإسلامي عبر المحيط الأطلسي، بهدف السيطرة على المضائق المؤدية للمحيط الهندي كمضيق هرمز وباب المندب، ولتأمين الطريق لمستعمراتهم البرتغالية في الهند، فكانت مساعيهم حثيثة في ضرب اقتصاد مصر واحتكار التجارة البحرية، واتجهت أنظار "ألفونسو دي ألبوكيرك" قائد الحملة البحرية لدخول البحر الأحمر، وسرقة قبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومساومة المسلمين على القدس، بالإضافة إلى محاولة ربط النيل بالبحر الأحمر تمهيدا للهجوم على مصر، إلا أن السلطان سليم كان لهم بالمرصاد وأفشل مخططاتهم، وسط هذه الظروف السياسية الدقيقة اعتلى سليم عرش السلطنة، والأخطار تحدق بالدولة خارجيًا وداخلي، وبوادر تشيع الأناضول باتت تلوح في الأفق، وذيوع الفتن والثورات، والصدام مع البعض ممن يحيطون به.
حرب الدراما
ظهر للعيان أن "ممالك النار" ليس سوى أول مسلسل أنتج بأجندة ثأرية سياسية بعد فشل المحاولة الانقلابية في تركيا، في صورة استهداف مكشوف بعيد كل البعد عن الفن أو الاقتصاد، وإنما لغايات معدة سلفا، من قبل الشركة الإماراتية المسماة: جينوميديا لمالكها ياسر حارب، والتي سعت جاهدة لهدم فلسفة الإنتاج الدرامي التركية المبنية على الاعتزاز بالأمجاد التاريخية.
كما أن ارتفاع منسوب الغيرة والحسد جاء بفعل النجاح الكبير الذي حققته القوة التركية الناعمة بتوظيفها للدراما التاريخية، التي نمت بخطى متسارعة، وكانت ردود الأفعال كفيلة بكشف ماهية ذلك التآمر السياسي الذي يختبئ بعباءة الإنتاج الفني، وفي واقع الحال تحاول الدراما البترودولارية التهجم على ماضي الأمة منفقة المليارات لشيطنة التاريخ والتلاعب بالجغرافيا، وتزييف الوعي الجمعي للأمة، يحدوها الأمل في تقليص نفوذ المسلسلات التركية التاريخية التي واكبت خط الدراما الملتزمة، والانتقاص من قدرها، والسعي لوقف اكتساحها بعد أن حققت ومنها "أرطغرل" نجاحات منقطعة النظير، وشهرة عالية في الأوساط العربية والإسلامية، فكان أن دبرت المكائد لتشويه سيرة السلطان سليم الأول منقذ العراق من براثن الدولة الصفوية، ومن أطماع مؤسسها اسماعيل الصفوي الذي بادر للتحالف مع الصليبيين والمماليك، مما فرض على الدولة العثمانية المسارعة في حسم الصراع عبر المعركة الاستباقية في موقعة جالديران.
في هذا المسلسل الرديء سموم عدائية للتاريخ العثماني، وفق أضخم دراما فنية في العام 2019 تستهدف إشاعة مزاعم ملفقة وحملة تشويه للسياسات السلطانية، ضمن جملة أكاذيب تزعم دور الأتراك في الاستبداد وتبديد الوعي العربي، وترسيخ التخلف في التعليم والتقنية واللغة، وتتضح تلك الأهداف عبر هذا المسلسل الذي تم تصويره في تونس بميزانية تتجاوز أربعين مليون دولار، وبسيناريو وتمثيل وإخراج تزييفي وتزوير ملحوظ للتاريخ، يسير على نهج وخطى صانعي سايكس بيكو لحماية العروش وليس الشعوب.
ولا غرابة بالتالي أن رحب رجالات الدولة العميقة بالمسلسل رغبة في شن حرب سياسية بالوكالة تعمل على محو آثار الاتراك، وبالأخص بعد موجة تمدد الدراما السورية، فكان الاتجاه المضاد باستقدام دراما الأتراك، لكن سرعان ما انقلب السحر على الساحر حين اتجهت الدراما التركية نحو منحى جديد يبتعد عن مرحلة حريم السلطان، التي لم تنل استحسانا على المستويين الحكومي والشعبي، في حين اتسم المنحى الجديد بالالتزام، فكانت باكورة إنتاجه هذا العقد الفريد من المسلسلات الناجحة كـ"أرض العثمانيين" و"جواسيس القصر" و"محمد الفاتح" و"الأسد الباسل" و"علي عزت بيغوفتش" و " قيامة أرطغرل" و" فيلينتا مصطفى" و"عاصمة عبد الحميد"، و"كوت العمارة"، و "المؤسس عثمان" وغيرها من عناصر القوة التركية الناعمة، التي تربط جسورا بين الحاضر والماضي، وتذكر بالأمجاد التاريخية، مما جعل تركيا تحوز المرتبة الأولى في الدول الأكثر تصديرا للمسلسلات، وبالتالي تجلت مظاهر انتقال صراع الاستراتيجيات والمشاريع بالمنطقة إلى حلبة الدراما الفنية.
تواصلت هذه الشيطنة الهادفة للنيل من أمجاد الخلافة بعيد التقارب التركي القطري إثر الحصار الرباعي لدولة قطر، وبات من المعلوم أن المسألة ليست فقط تهجما على الدولة التركية، وإنما بهدف الإساءة للعثمانيين، والرغبة في تزييف الوقائع التاريخية بالتهجم على الإسلام وتاريخه المجيد، وإجراء تعديلات في المناهج الدراسية لمصر والسعودية، بهدف شيطنة إرث الأمة، لكن من الوهم تصور أنه بالإمكان خداع المواطن العربي بمسلسلات زائفة تطعن في أرشيف الدولة العثمانية، فمن السهل الرجوع للمصادر التاريخية لمعرفة الحقيقة كاملة، ولسنا بحاجة لأسانيد في إدراك التحولات الكبرى التاريخية التي ترتبت على معركة جالديران بين العثمانيين والدولة الصفوية، وشقيقتها معركة مرج دابق بين العثمانيين والمماليك.
يقيناً إن هذا المسلسل طعنة حاقدة موجهة للسلطان سليم ولجده محمد الفاتح فاتح القسطنطينية، الذي امتدحه الرسول صلى الله عليه وسلم حين بشر بفتحها على يده، فقال صلى الله عليه وسلم: (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) رواه الإمام أحمد في مسنده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق