ما على إسرائيل أكثر مما لها
وجود دولة إسرائيل في رقعة جغرافية معينة، هو أمر واقعde facto، بينما وجود الدول عادة أمر قانوني أي de jure، ولهذا ظلت إسرائيل تسعى بدأب للحصول على اعترافات "معلنة" من بقية دول العالم، لأن نشأتها تختلف عن الطريقة التي نشأت بها بقية دول العالم، فبعد الحرب العالمية الثانية تداعت بعض الدول الأوروبية، مثقلة بالإحساس بالذنب، لخلق وطن ليهود أوروبا تكفيرا عما عانوه (اليهود) من تنكيل وتقتيل عبر القرون، على أيدي مسيحيي أوروبا، والذي كانت أبشع تجلياته في ألمانيا النازية، وبما أن القابلة التي تولدت "توليد" إسرائيل كانت الأمم المتحدة، فقد أصبح وجودها قانونيا بموجب القانون الدولي، ومن ثم يصبح إنكار هذا الوجود خروجا على القانون الدولي في ظل النظام العالمي الراهن.
لم يكن اختيار فلسطين وطنا لليهود، على رأس قائمة أولويات الصهاينة الذين نادوا بإيجاد بلد يلم شتات اليهود، ففي عام 1820، اقترح مردخاي مانويل نوح، أحد رواد ما صار يعرف بالصهيونية الحديثة، أن يكون ذلك الوطن الذي اقترح تسميته بـ "أرارات"، نسبة إلى الجبل حيث رست سفينة نوح عليه السلام، في جزيرة غراند في نهر نياجارا، على الحدود ما بين الولايات المتحدة وكندا، ثم وفي عام 1903 عرض وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشامبرلين على المنظمة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل منطقة بمساحة 13,000 كيلومتر مربع من هضبة ماو فيما يعرف اليوم بكينيا، كملاذ آمن لليهود، ووجد العرض استحسانا شديدا من العديد من المنظمات الصهيونية، التي قالت في بيان لها "إنها خطوة على طريق الهدف النهائي المؤدي للأرض المقدسة".
وفي مؤتمر عام للكونغرس الصهيوني حظي العرض البريطاني بموافقة 295 عضوا مقابل رفض 177 له، ولكن وفدا من ذلك الكونغرس زار المنطقة المقترحة، ووجدها تعج بالحيوانات البرية الشرسة، كما لمس رفضا للمقترح من قبيلة الماساي التي تعيش في المنطقة، ومن ثم تم إبلاغ بريطانيا في عام 1905 بأن العرض مرفوض، وفي أوقات لاحقة رفض الصهاينة عروضا بتوطين اليهود في جزيرة مدغشقر، وفي البحرين والإحساء في شرق السعودية.
والشاهد هنا هو أن القول بأن فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود زعم لم يكن يجد سندا حتى من عتاة الصهاينة، بل إن اليهود الأرثوذكس (الأصوليين المتمسكين بحرفية ما جاء في التلمود) كانوا رافضين لمشروع الدولة على أرض فلسطين، باعتبار أن ذلك يستبق عودة المسيح، بينما رفض العلمانيون اليهود الفكرة لكونها تجعل اليهودية انتماءً وطنيا وعرقيا، ولكن جبهة الرفض تلك تخلخلت وتهلهلت في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد أن ساءت أوضاع يهود أوروبا، واكتسب مقترح عراب الصهيونية الأشهر تيودور هيرتزل (1896) بأن تقوم لليهود دولة في "فلسطين" قبولا واسعا لدى مختلف المنظمات اليهودية، والشاهد هنا أيضا هو أن الكيان المسمى بفلسطين ظل موجودا في أطالس العالم القديم عبر القرون، وأنه ما من أطلس أتى على ذكر كيان يسمى إسرائيل في أي بقعة في العالم، ومن ثم يصبح مفهوما أن تتم دراسة مقترحات بأن تكون تلك الـ "إسرائيل" في إفريقيا وأمريكا الشمالية.
ولا ينكر الصهاينة المعاصرون أو أسلافهم أن إسرائيل بشكلها الحالي قامت قبل سبعين ونيف سنة بالتراضي الدولي، وبموجب القانون الدولي "الحديث"، وليس بمقتضى حق تاريخي، ويفسر هذا لماذا ظل هاجس قادة إسرائيل عبر العقود الحصول على "الاعتراف" من الدول الأخرى، ولأن قيام إسرائيل على أرض فلسطين قام على ذرائع دينية، لو جازت نظائرها للمسيحيين لكانوا هم الأولى باتخاذ فلسطين، وطنا بحكم مولد نبيهم عيسى عليه السلام فيها وبحكم أنها مهد المسيحية الأول، فقد تبنى مؤسسو إسرائيل دستورا علمانيا لإبعاد شبهة الدولة الدينية عنها، ولكنهم يواصلون تحشيد يهود العالم لنصرة إسرائيل فقط من منطلقات دينية تلمودية.
تقوم إسرائيل ومنذ أكثر من ستة أسابيع بدك كل شبر في قطاع غزة، مع تركيز شديد على مخيمات اللاجئين ومرافق الخدمات من مستشفيات ومحطات مياه وكهرباء، والغاية المعلنة من حرب إسرائيل على غزة هي اجتثاث حركة حماس تماما من الخارطتين السياسية والجغرافية، ولكن ورغم أن إسرائيل تغير على غزة بجيش يملك من العتاد الحربي والجند ما لا تملكه 170 دولة أخرى، إلا أن هذه الحرب تستغرق وقتا أطول من ذلك الذي استغرقته حروبها مع سوريا ومصر والأردن. واستبسال فلسطينيي غزة في الدفاع عن أرضهم وصمودهم في وجه ترسانة عسكرية عاتية، بالأسلحة الخفيفة يزيد من هلع إسرائيل ومن شراستها، على ما يجلبه ذلك عليها من سخط دولي.
قد يرى البعض أن إسرائيل مجبولة على الاستخفاف بالقانون الدولي، وأن راهن الحال يفيد بأنها تتمتع بحصانة ضد المساءلة القانونية بسند من القوى التي تتولى تطبيق القانون الدولي، عبر مجلس الأمن الدولي، ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن حرب إسرائيل على غزة جعلت من حماس أيقونة للثورة على الخنوع، فقد تداعى الملايين لنصرتها في عشرات العواصم والمدن الكبرى، بدرجة أن إسرائيل وجدت نفسها تستجدي إدارات منصات التواصل حجب كل ما يؤيد الصمود الحمساوي الفلسطيني، واستجابت لذلك فيسبوك وإنستغرام (التي صارت تشوف العمى ولا تشوف كلمة "حماس")، ولكن منصة تيك توك التي لا تخضع للهيمنة الأمريكية احتشدت بآلاف مؤلفة من المقاطع الفيديوية والصوتية، التي ستعيد القضية الفلسطينية حتما إلى صدارة المشهد السياسي الدولي، مقرونا بتأكيدات قطعية بأن الرأي العام الغربي في مجمله، لم يعد تنطلي عليه أحابيل إسرائيل التي "تضربك وتبكي وتسبقك لتشتكي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق