حصار غزة بين عقوق مصر وعائق إسرائيل (٢)
في الجزء الأول من المقال تناولت تاريخ العلاقة التي جمعت بين حكومة حماس بعد نجاحها الكاسح في أول انتخابات تشريعية في فلسطين سنة ٢٠٠٦م، وبين مصر في عهد الرئيس الأسبق “حسني مبارك”، موضحًا كيف كان نظامه منحازا بالكامل ضد حركة حماس بل ومتآمرًا على قطاع غزة الذي تديره الحركة، وهو ما ثبت عمليًّا وواقعيًّا من خلال تشديد الحصار عليها أثناء العدوان الإسـرائيلي على القطاع في ٢٠٠٨م، فضلا عن اعتقال وتعذيب نشطاء المقاومة، ثم الشروع في بناء الجدار الفولاذي الذي استهدف تدمير وغلق الأنفاق التي حفرها الغزاويون على طول الحدود المصرية للتغلب على الظروف القاسية الناتجة عن الحصار وغلق معبر رفح.[١].
وهو أيضا ما حفلت به الكتابات الإسـرائيلية، التي ما فَتِئت تتحسر بعد ثورة يناير على أيام “مبارك” ورجاله الذين كانوا شديدي الحماس للقضاء على حماس في غزة، حتى أن وزير الداخلية الأسبق “عوزى برعام” نشر مقالة في صحيفة “إسرائيل اليوم” بتاريخ ٢٠١١/٢/٢م قال فيها: إن ترحيب اللواء “عمر سليمان”، رئيس المخابرات وذراع “مبارك” اليمنى بالحرب على حركة حمـاس والإخوان المسلمين تفوق بكثير على الحماس الإسرائيلي والأمريكي. وكان “يوسي ميلمان” معلق الشئون الخارجية في صحيفة “هآرتس” نشر مقالة في ٢٠٠٩/١٢/١٩م -قبل سقوط نظام مبارك- تحدث فيها عن “عمر سليمان” ووصفه بأنه الجنرال الذي لم يذرف دمعة واحدة خلال حملة الرصاص المصبوب.[٢].
وهى الحسرة التي زادت بعد تصاعد دور الإخوان المسلمين ووصول الدكتور محمد مرسي للحكم الذي اعتبرته إسرائيل تحولا سلبيًّا من شأنه تقليص اتساع الشرخ بين الشيعة والسنة الذي كان يمنحها مناورة جيدة تجاه المعسكرين، فضلاً عن استشعار الخطورة تجاه تغير موقف مصر من حـماس التي تعدّ أحد روافد جماعة الإخوان المسلمين للدرجة التي جعلت وزير الخارجية الصهيوني “أفيغدور ليبرمان” يقول: إن الخطر الذي تشكله مصر في عهد “مرسي” أكبر من الخطر الذي تمثله إيران النووية!.[٣]..
ولذلك كانت إسـرائيل أكثر الدول فرحا بالانقلاب العسكري في مصر على الرئيس المنتخب، والذي نراه بقوة في تصريحات أصحاب القرار فيها مثل الجنرال “آفي بنياهو” الناطق الأسبق بلسان الجيش الإسرائيلي الذي قال: «”السيسي” هو الهدية التي منحها الشعب المصري لإسرائيل ويتوجب على “نتنياهو” إدراك الطاقة الكامنة في التعاون معه واستغلالها الى أبعد حد فإن “السيسي” يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد الإسلاميين لدرجة أن قادة حـماس باتوا يشتاقون لنظام “مبارك” ورجاله. لقد نجح “السيسي” في تجفيف منابع الإرهاب الفلسطيني في غزة من خلال عدم تردده في إغراق الأنفاق بمياه البحر وهذا ما يجعل لإسـرائيل مصلحة واضحة في تعزيز مكانة نظام “السيسي” وتثبيت أركانه».[٤]..
ولمثل هذا وغيره من الأنظمة العربية قال “يوسي بيلين” وزير القضاء الإسرائيلي الأسبق عقب ثورات الربيع العربي: «إن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة كانت دوما تفضل التعامل مع الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي لأنها تكون في العادة “براجماتية” تكتفي بدفع #ضريبة_كلامية في دعمها للفلسطينيين لكنها في الخفاء لا تتردد في إقامة تحالفات مع إسـرائيل وذلك بعكس الأنظمة الديمقراطية التي تخضع للرقابة وتكون مطالبة بأن تتخذ قراراتها على أساس شفاف»!.[٥]
وبناءً عليه وقف شيخ الأقصى المجاهد “رائد صلاح” يخطب في الأردن يوم الجمعة ٩ أغسطس ٢٠١٣م، الموافق لثالث أيام عيد الفطر ١٤٣٤م، (قبل خمسة أيام فقط من مذبحة فض اعتصام رابعة) يدعو الشعب المصري للصمود والتصدي والثبات ضد الانقلاب، ليس من أجل مستقبل مصر وحدها ولكن من أجل فلسطين والقدس أيضا.
وهو ما لم نلبث إلا قليلا حتى رأينا صدقه خلال العدوان على غزة في يوليو ٢٠١٤م، ومدى تعاظم محنتها بسبب إحكام الحصار أثناء الحرب التي استمرت لخمسين يومًا متصلة وراح ضحيتها أكثر من ألفي شهيد ونحو اثني عشر ألف جريح.. وحتى بعد الصمود الأسطوري للمقاومة ومن ورائها شعب غزة الأبيّ، مما أجبر العدو على الانسحاب واللجوء لعقد هدنة مع حكومة غزة. رفضت مصر تضمين اتفاق وقف إطلاق النار في ٢٤ أغسطس ٢٠١٤م، أي بند يتعلق بفتح معبر رفح وإنهاء الحصار!..
ويشهد الجنرال “جادي شماني” قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال وقتذاك، بأن إسـرائيل كانت على وشك الاستجابة لبعض مطالب حـماس خلال الحرب إلا أن “السيسي” هو مَن أنقذها مِن ذلك بإصراره على رفض الاستجابة لهذه المطالب. ومن ثمّ يرى “شماني” أن بقاء “السيسي” في الحكم أكبر فترة ممكنة يُمثّل نافذة مهمة لإسـرائيل ويُحسّن من قدرتها على مواجهة التحديات الإقليمية!.[٦].
حيث وصلت العلاقة بين “السيسي” وإسرائيل من التطور إلى حد التوافق على وضع استراتيجية موحدة وتشكيل فرق عمل مشتركة لتنسيق كيفية مواجهة ما يوصف بـ “خطر الإسلام المتطرف” .. وقد أقرّ وكيل وزارة الخارجية “دوري جولد” بذلك خلال زيارته للقاهرة فى ٢٠١٥/٦/٢٨م قائلا: «فوجئتُ تمامًا من التطابق التام في تصور كل منَّا للتحولات في المنطقة فعلى الرغم من أننا في تل أبيب نتكلم العبرية وهم في القاهرة يتكلمون العربية إلا أننا من ناحية سياسية نتكلم نفس اللغة»[٧]
ومن ثمّ اتخذت مصر تزامنا مع العملية الواسعة التي استهدفت تحطيم الأنفاق وتضييق الخناق على حكومة حـماس واستمرت لثلاث سنوات كاملة منذ انقلاب يونيو ٢٠١٣م، وانتهت بتدمير وإغراق قرابة ثلاثة آلاف نفق، بعض التدابير والإجراءات الأمنية والعقابية الأخرى، ومنها إصدار “عبد الفتاح السيسي” قرارًا يقضي بالسجن المؤبد لكل مَن يحفر أو يستعمل نفقا على حدود البلاد “بقصد الاتصال بجهة أو دولة أجنبية، أو إدخال أو إخراج أشخاص أو بضائع أو سلع أو معدات أو آلات أو أي شيء آخر.[٨]..
كما أصدر القضاء المصري في ٣١ يناير ٢٠١٥م، حُكمًا اعتبرت بموجبه كتائب “عز الدين القسّام”، الذراع العسكري لحركة حـماس، تنظيمًا إرهابيًّا، وهو القرار الذي قوبل بحفاوة كبيرة في الأوساط الإسرائيلية، لأنه يضفي شرعية على تواصل إغلاق ومحاصرة قطاع غزة ويبطل في الوقت ذاته لأول مرة المبدأ القائل: «إن حركات المقاومة التي تقاتل إسـرائيل تخدم المصالح العربية» على حد قول الصحفي “تسيفي بارئيل” بجريدة هآرتس عدد ٢٠١٥/٢/١م، بل عدّ بعض مراكز التفكير والدراسة الحُكمَ مقدمة لعمل عسكري مصري ضد قطاع غزة حتى أن مركز أورشليم نشر بتاريخ ٢٠١٥/٢/٢٣م، دراسة ليوني بن مناحيم تحت عنوان”هل تقصف مصر غزة؟”!.[٩]
وقد تفتق ذهن العسكر في مصر عن طرق إبداعية في القضاء على الأنفاق وخنق قطاع غزة أبهرت اليهود أنفسهم، حتى أن صحيفة معاريف الإسرائيلية نشرت في ١٨ أغسطس ٢٠١٥م دراسة تحت عنوان: «حل إبداعي: هكذا تحارب مصر الأنفاق التي تصل غزة بسيناء»!..
وبعد كل هذه الإبداعات من الجانب المصري في حصار قطاع غزة من جهة حدوده الجنوبية التي تمتد بينهما إلى ١٤ كم، شرعت إسرائيل في منتصف العام ٢٠١٦م في محاولة مماثلة على حدود القطاع الشرقية والشمالية البالغة نحو ٦٠ كم، عن طريق بناء واحد من أكبر المشاريع الأمنية التي تبنتها وزارة الدفاع الإسـرائيلية لمواجهة خطر الأنفاق الهجومية، ولمنع عمليات التسلل لأراضيها عبر حدودها مع القطاع.
وهو عبارة عن جدار هندسي يصل طوله إلى ٦٥ كيلومترًا بتكلفة مالية بلغت أكثر من ثلاثة ونصف مليار شيكل إسرائيلي (١,١ مليار دولار أميركي). وأطلقت عليه الحكومة الإسـرائيلية اسم العائق الذكي لأنه أعقد المشاريع التي بُنيت على الإطلاق في إسرائيل حيث يفصلها بشكل كامل عن أي اتصال جغرافي مع القطاع الذي تحاصره منذ ١٧ عاماً، ولا يربطها به سوى معبري “كرم أبو سالم” جنوباً، و”إيرز” شمالاً.
فالعائق مكون من ثلاثة أجزاء، الأول الجزء السفلي “جدار تحت الأرض” ويصل إلى عمق ٣٠ متراً، ليستطيع اكتشاف الأنفاق الهجومية وتدميرها. وقد تم ضخ فيه نحو ١,٢ مليون م٣ من الخرسانة المسلحة، و١٤٠ ألف طن من الحديد، وجرى تزويده بأجهزة استشعار دقيقة يمكنها كشف أي حفريات تحت الأرض لعمق يزيد على ٢٠٠ متر، وآلات مراقبة متطورة ترصد أي تحركات أو أصوات تبعد عنها لمسافة تصل إلى ٤٠ متراً.
أما الجزء الثاني، فهو الجدار العلوي من “العائق” ومصنوع من الفولاذ المجلفن، ويبلغ طوله نحو ٦م، ويعلوه سلك من الفولاذ يحتوي على ماس كهربائي بارتفاع ٣,٥م، ومزود بغرف حرب، وبمعدات رؤية ليلية ونهارية ورادارات وكاميرات مراقبة، وفي وسطه فتحات يتمركز خلفها قناصة يحملون أسلحة متطورة، من فوقهم طائرات مسيرة، إضافة لمناطيد تجسس ومراقبة.
والثالث، الحاجز البحري علوه ٢٠٠م ويتضمن وسائل لرصد أي اختراق من البحر ونظام أسلحة أتوماتيكية يتم التحكم فيها عن بعد، ومزود بأجهزة استشعار وأنظمة إنذار، ويحيط به كاسر للأمواج، ويستخدم كإجراء أمني أخير.
ووفقاً لوزارة الدفاع الإسـرائيلية، فإن كمية الخرسانة المستثمرة في العائق الذكي تكفي لشق طريق من إسـرائيل إلى بلغاريا، في حين أن كمية الحديد والصلب تعادل طول مقطع فولاذي يصل من إسـرائيل إلى أستراليا.[١٠]..
وهى التفاصيل التي حرصتُ على إيرادها لمعرفة قيمة الإنجاز العظيم للمقاومة الإسلامية في غزة بتغلبها يوم السابع من أكتوبر على مثل هذا المشروع الضخم الذي احتفلت إسرائيل بالانتهاء منه في نهاية العام ٢٠٢١م، واطمأنت إلى حدودها في وجود عائق مهمته الأساسية الإنذار المبكر لأي تهديد أمني والدفاع عن التجمعات السكانية الإسرائيلية المحاذية لغزة.
ولهذا يواجه “نتنياهو” موقفا غاية في الصعوبة داخل إسـرائيل لعدم الاستفادة من كل هذا وسقوط الآمال الجوفاء التي وعد بها سكان “غلاف غزة” بأن حياتهم مصونة بفضل ملايين الأمتار المكعبة من الأسمنت داخل الأرض وأن المنظومات الاعتراضية والعوائق والليزر ستقوم بعملها في حمايتهم!.
ولقد قرأت خلال الفترة الماضية الكثير من المقالات في الصحف الإسـرائيلية تدور حول الفشل الذريع لحكومة “نتنياهو” أمام الفصائل الفلسطينية المسلحة، لكن يبقى أخطرها بامتياز مقال نشرته هآرتس ليوناتان مانديل في ٢٠٢٣/١١/٥م تحت عنوان: “إذا كانت إسـرائيل تختار الحياة لا الموت، عليها تغيير علاقتها مع الفلسطينيين”، والذي لا يستمد خطورته من توجيه اللوم إلى نتنياهو ووصف حكومته بالعمى في مواجهة المقاومة ولكن لأنه يلوم إسـرائيل على عدم الاستفادة من “التحذير” الذي وصلها من مصر قبل يوم ٧ أكتوبر، في تجنب وقوع مئات الإسرائيليين في الأسر والقتل!.[١١]
وهى تهمة خطيرة بالفعل وربما في ظروف أخرى تستوجب الاستنكار والمساءلة، ولكن في ظل ما هو معلن من مساعدات نظام السيسي لإسرائيل على مواجهة المقاومة الفلسطينية من خلال تقديم معلومات استخبارية تساعد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على تعقب عناصر المقاومة واعتقالهم، لم يعد شيئا مستغرباً ولا مستهجنًا.
ففي بعض الحالات وصل التعاون إلى حد قيام الأجهزة الأمنية في مصر باعتقال مقاومين أو أشخاص على علاقة عمل مع المقاومة وتسليمهم للأجهزة الأمنية الإسرائيلية بشكل مباشر كما حدث عندما ألقى خفر السواحل المصري القبض على الفلسطيني “محمد سعيد صعيدي” في ٩ نوفمبر ٢٠١٦م، وقام بتسليمه إلى إسـرائيل بحجة أنه يقوم بتهريب السلاح والوسائل القتالية للمقاومة عبر البحر[١٢]..
وهو ما يفسر في النهاية بجلاء اللجوء للوساطة القطرية الآن في إتمام صفقات تبادل الأسرى بين المقاومة مع الولايات المتحدة والعدو الصهيوني، ولماذا تقزّم دور “مصر” الذي كان عظيماً يوما ما، والذي بحكم الجوار لا بدّ من حضوره في المشهد ولسان حال المقاومة قول “المتنبي”:
وَمِن نَكَدِ الدُنيا عَلى الحُرِّ أَن يَرى
عَدُوّاً لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدُّ
كتبه الفقير إلى عفو الله/أحمد الشريف
٩ جمادى الأولى ١٤٤٥هـ / ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٣م.
#معركة_الوعي_أم_المعارك
هوامش المقال:
[١] للتفاصيل راجع الجزء الأول من المقال [حصار غزة بين عقوق مصر وعائق إسـرائيل (١)]
[٢] أخطأت يا سيادة الرئيس، فهمي هويدي، جريدة الشروق المصرية بتاريخ ٢٠١٢/٧/١٦م
[٣] العلاقات المصرية الإسرائيلية، د/صالح النعامي، صـ٩٩
[٤] العلاقات المصرية الإسرائيلية، مصدر سابق، صـ١٢٩، نقلا عن “الطريق الوحيدة لمواجهة المقاطعة: الحديث مع الفلسطينيين بمساعدة السيسي”، جريدة معاريف، بتاريخ ٢٠١٥/٩/٢٧م.
[٥] العلاقات المصرية الإسرائيلية صـ١٨
[٦] العلاقات المصرية الإسرائيلية، صـ١٢٩
[٧] العلاقات المصرية الإسرائيلية، مصدر سابق، صـ١٤١، نقلا عن أرئيل كهانا، ”مصر وإسرائيل تتكلمان نفس اللغة في مواجهة التحديات الإقليمية“، ميكور ريشون، ٢٨ يونيو ٢٠١٥م
[٨] حصار غزة.. من البداية في انتظار النهاية، تقرير مركز دراسات الجزيرة، الموسوعة الفلسطينية، بتاريخ ٢٠١٦/٦/٢م..
[٩] العلاقات المصرية الإسرائيلية، صـ١٢٥
[١٠] إسرائيل تنهي بناء “العائق الذكي” لمواجهة خطر أنفاق غزة، عز الدين أبو عيشة، اندبندنت عربية، الخميس ٩ ديسمبر ٢٠٢١م.
[١١] مقال “إذا كانت إسرائيل تختار الحياة لا الموت، عليها تغيير علاقتها مع الفلسطينيين”، يوناتان مانديل، هآرتس، ٢٠٢٣/١١/٥م
[١٢] العلاقات المصرية الإسـرائيلية، د/ صالح النعامي، صـ١٢٢
حصار غزة بين عقوق مصر وعائق إسـرائيل (١)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق