أوهام “ما بعد حماس”
منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أصبح العدوان على قطاع غزة هو الموضوع الذي يشغل الرأي العام العالمي، وتراجعت القضايا الأخرى مثل الحرب الروسية الأوكرانية وغيرها من الأزمات الاقتصادية والانتخابات الرئاسية، فالشاشات ووسائل الإعلام في كل القارات تهيمن عليها عمليات القصف الإجرامي والمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي، وتصاعد الغضب بسبب صور الجثث والأشلاء الممزقة للأطفال والمدنيين الفلسطينيين.
ولأن العدوان هز الضمير العالمي، كان على القادة الأمريكيين والأوروبيين الذين أعلنوا تأييدهم المطلق لجيش الاحتلال الصهيوني أن يقدّموا إجابات مقنعة للرأي العام الدولي الذي بدأ ينقلب على السياسة الغربية التي تخلت عن كل القيم الحضارية والأخلاقية، ولتبرير إرسال المزيد من الصواريخ والقنابل لقتل الفلسطينيين، وتفسير موقفهم الصارم لرفض الوقف الفوري الحرب.
منذ هجوم كتائب القسام على غلاف غزة، أعلنت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية أن حماس “جماعة إرهابية يجب سحقها والقضاء عليها وإنهاء وجودها”، ووفروا لجيش الاحتلال الغطاء السياسي والإعلامي والعسكري للقيام بالمهمة باسم “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وأرسلت أمريكا وحلفاؤها الجيوش والمعدات لتخويف دول المنطقة وإرهابها لمنع تقديم أي دعم للفلسطينيين.
لامتصاص الغضب في العواصم الغربية، قاد الرئيس الأمريكي وقادة أوروبا حملة دعاية زائفة لإدانة حماس، ورددوا الأكاذيب الإسرائيلية، واختلقوا روايات مفبركة عن قطع رؤوس الأطفال الرضع واغتصاب الإسرائيليات في المستوطنات، وجندوا الإعلام الغربي لتهيئة الرأي العام لتقبُّل مشاهد الدمار والقتل المرعبة، وكمموا الأفواه في المنابر الإعلامية الكبرى، وحاولوا منع الاحتجاجات، لكن الغضب كان أكبر من أن يتم احتواؤه، وظل السؤال الذي يطارد القادة الغربيين هو: ما الهدف من هذه الحرب، ومتى تنتهي؟
هل سحق حماس وتشكيل إدارة لقطاع غزة ممكن؟
الهدف المعلن من الإسرائيليين والأمريكيين والأوروبيين هو القضاء التام على حماس لمنع تكرار هجوم السابع من أكتوبر، فهم في صدمة مما جرى، إذ تبيَّن لهم هشاشة الكيان الإسرائيلي، وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه، رغم كل ما يمتلكه من أسلحة وتقنية ووسائل الذكاء الاصطناعي ودعم مالي وعسكري غربي لا محدود.
ولأن القضاء على حماس يصعب تحقيقه بسبب القوة العسكرية للمقاومة وتنظيمها الجيد، وما تملكه من مقاتلين استشهاديين وصلابة فولاذية، وفي ظل وجود حاضنة شعبية مؤيدة للمقاومة، ركزت الدبلوماسية الغربية على “شيطنة حماس” وتشبيهها بتنظيم الدولة الإسلامية الذي جمعوا له تحالفا دوليا للقضاء عليه، وحصلوا في البداية على تأييد سري من حكام دول عربية يعادون الحركات الإسلامية لكنهم تراجعوا بعد ذلك خوفا من الشعوب الغاضبة.
الهدف الإسرائيلي والغربي بسحق حماس معناه تدمير كل قطاع غزة شمالا وجنوبا، وتدمير كل شيء، وارتكاب جرائم إبادة غير مسبوقة في العصر الحديث، حيث تجري أمام شاشات التلفاز وتشاهدها شعوب العالم، وليست بعيدة عن الأنظار مثل مجازر الفلوجة والموصل وغيرها من المدن العراقية والأفغانية. ولأن ما حدث سيترتب عليه تهجير سكان غزة إلى مصر وسكان الضفة إلى الأردن، حدث الخلاف الذي أحدث الشقاق داخل حلف العدوان، وبرز السؤال: ماذا بعد حماس؟
مع عجز الاحتلال طوال 6 أسابيع عن تحقيق أي إنجاز عسكري، حدث الخلاف داخل الحلف الصهيوني الغربي، كما حدث الخلاف بينهم وبين الدول العربية خاصة مصر والأردن، وتضاربت الخطط والرؤى، فالإسرائيليون تحت ضغط المتطرفين يريدون تدمير القطاع كله والاستمرار في احتلاله، وعدم الاكتفاء بتجريف الشمال وطرد سكان غزة إلى مصر، والأمريكيون خططوا لتشكيل إدارة مؤقتة لا تتبع سلطة رام الله تحميها قوات عربية “من تحالف أبراهام”، وجاء الأوروبيون بخطة تسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية بمشاركة مع الاتحاد الأوروبي وبحماية قوات دولية، وتعددت التفصيلات والشروح التي تؤكد التيه الذي تعيشه عقول مأزومة لا تعي الوضع على الأرض.
صمود المقاومة أفشل الخطط كلها
رغم القصف الإجرامي بكل الأسلحة جوا وبحرا وبرا، وتدمير الأحياء السكنية في غزة، لم يحقق الاحتلال الذي دفع بدباباته وآلياته إلى القطاع أي إنجاز، وبدا عاجزا عن الاستقرار على الأرض والسيطرة، وتراجع الهدف الرئيس إلى أهداف أخرى مثل: البحث عن الأنفاق، وتحرير “الرهائن”، والدخول إلى مجمع الشفاء الطبي، وغير ذلك من الأهداف التي تؤكد فشل الهجوم البري.
لقد تحولت غزة إلى مصيدة للجيش الإسرائيلي، وتحولت المنازل المدمرة إلى فخاخ يتحرك فيها جنود المقاومة، بعيدا عن الرصد الجوي، لتدمير الدبابات بالجملة وقتل الإسرائيليين، في مشاهد مصورة تبثها كتائب المقاومة لتوثيق عملياتها، وقد شاهدنا أسلحة المقاومة المصنعة محليا تفتك بالآليات المدرعة، مثل قذائف “الياسين 105” والعبوات اللاصقة التي يقوم مجاهدو القسام بكل شجاعة بوضعها على الدبابات فتنفجر وتدمرها وتحرق من فيها.
تؤكد مشاهد الفيديو التي تراها شعوب العالم أن المقاومة الفلسطينية هي المتفوقة على الأرض، ولها اليد العليا، وفي الناحية الأخرى يتعرض الاحتلال للاستنزاف اليومي وخسائر في المعدات والأرواح، ويحاول الإسرائيليون الرد على خسائرهم بالقصف الجبان على المدارس والمستشفيات والمربعات السكنية، وقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين وأغلبهم أطفال ونساء، ولكن هذه الجرائم تزيد من تشويه صورتهم، وتزيد الغضب العالمي وإحراج داعميهم.
لقد أفشل الشعب الفلسطيني في غزة كل الخطط الإسرائيلية والأمريكية، فأهل غزة الذين يضربون المثل في البطولة والصمود، يرفضون التهجير ويبقون في بيوتهم خاصة في الشمال، ويتعايشون مع الموت، وقد أفسدوا الأطماع الصهيونية بإخلاء القطاع، باحتضانهم المقاومة التي كسرت الهجوم العسكري الإسرائيلي المدعوم من جيوش أمريكا وأوروبا، وعطلوا خططا وتصورات ليست لغزة وحدها؛ وإنما للمنطقة العربية كلها، تحدّث عنها الرئيس الأمريكي بايدن في مقال طويل نشره بصحيفة واشنطن بوست.
الوقت ليس في صالح الاحتلال، ومع طول أمد المعركة سيستمر نزيف الإسرائيليين في غزة وفي فلسطين المحتلة، حتى يصلوا إلى النقطة التي لا يستطيعون بعدها تحمُّل المزيد من الخسائر، والتي تجعلهم هم الذين يطلبون وقف إطلاق النار والبحث عن مخرج من المصيدة.
ستطارد اللعنات كل من شارك في الحرب، وسيدفع الثمن كل القادة والسياسيين في الغرب الذين انحازوا إلى إسرائيل، أو في العالم العربي الذين تجاهلوا الدفاع عن غزة، وستبقى حماس ويختفي أعداؤها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق