ماذا غيّرت فيك الحرب؟
ساري عرابي
لا تضع الحرب المرء أمام مسؤولياته فحسب؛ بقدر ما تضعه أمام حقيقة الحياة والمعنى من الوجود الإنساني؛ إذ تلك من هذه، فاختبار الآدمية، الذي يعني تمحيص قيم الحرية والصدق والإحساس بالواجب والمسؤولية، هو اختبار للتحقق بالمعنى من الوجود الإنساني، إذ الحياة تكون بالمعنى الذي تستمد منه أسباب الاستمرار والبقاء بما يرتفع بالمرء إلى الكرامة الآدمية، وهو المعنى المجلى من لحظة الإيجاد الأولى لما أمرت الملائكة بالسجود للكائن الجديد المختلف عما سبقه، وبينت خصائصه من كونه صاحب وظيفة (خليفة) يتميز بالقدرة على التعلم ﴿وعلم آدم الأسماء كلها)، ومطالب بالحساسية الأخلاقية بتمييز الخير عن الشر، وهذه الحساسية لا تنفعل بالنحو الصحيح، إلا بالقدر الذي تستمد فيه قيمها من المعنى الأول، معنى الحرية والكرامة، والذي لا يتأتى إلا بإخلاص العبودية لله، فمن أسجدت له الملائكة، لا يجوز منه أن يخضع لغير الله تعالى.
البحث عن المعنى الصحيح للحياة لا ينبغي أن يتوقف لحظة، وهذه من المجاهدات والمكابدات المطلوبة للخلاصين الدنيوي والأخروي، ولكن شدة الحرب أجدر بأن تجعل القدرة على الانسلاخ النسبي من قيود العادة والإلف أكبر مما كانت عليه من قبل
هذا المعنى الأول، هو ما تعيد الحرب إحياءه في الإنسان، باستثارة حساسيته الأخلاقية تجاه الهول العظيم، والخطب الجسيم، في قطاع غزة، إذ لا يحاكم المرء نفسه فحسب؛ مجردا إياها من أعذارها، التي قد تكون في حقيقتها أسيرة عاطفتي الخوف والحب، الخوف من غير الله وحب الدنيا ومتاعها أكثر من حب الله، ولكنه أيضا يعيد فحص وعيه لحقيقة الحياة ومعنى الوجود وقيمة ما يصنعه ويفعله في الحياة. على الأقل، وفي الحد الأدنى، الشعور بالخجل.
ماذا غيرت فيك الحرب؟ سؤال وجدته مطروحا في بعض المنصات الإعلامية. وهو سؤال من المبكر جدا أن يطرح على الذي تصب عليه نار الحرب مباشرة من أهلنا في غزة. هذا ترف لا تحتمله فداحة الموقف، إذ المطلوب تجاه الغزي شيء آخر غير هذه الأسئلة، لكن بعد أن تضع الحرب أوزارها، سيكون الغزي أكثر الناس علما بقدرة الحرب على التغيير، وأفصح الناس لسانا في التعبير عن ذلك، لأنه أصدقهم في معرفة الحرب حقيقة ومعنى ونتيجة.
لكن من كان خارج المجال الغزي، وهو ينفعل وقته كله بالحرب، وينغمس في تفاصيلها بحواسه كلها، ينبغي أن يطرح هذا السؤال على نفسه كل لحظة، وهذا أول دلائل حياة الحساسية الأخلاقية فيه، فالذي لم يواجه بلية الحرب ومحنتها بالقدر نفسه لإخوانه، يتوقع منه أن تملأه الحرب بالحساسية العالية تجاه معاناة أهله وإخوانه الذين لا يشاركهم إياها بالقدر نفسه، وكذا تعيد فيه صياغة المعنى من جديد.
أول ما يجب أن تفرضه الحرب على المرء وهو يتلقى هاتين الصورتين؛ أن يشهد على نفسه بتخلفه وقصوره وتفاهة طموحاته في حياته، ثم بعد ذلك، يجدد وعيه بالحياة ونفسه، ويعيد صياغة علاقته بحطام هذه الحياة الدنيا.
صحيح أن البحث عن المعنى الصحيح للحياة لا ينبغي أن يتوقف لحظة، وهذه من المجاهدات والمكابدات المطلوبة للخلاصين الدنيوي والأخروي، ولكن شدة الحرب أجدر بأن تجعل القدرة على الانسلاخ النسبي من قيود العادة والإلف أكبر مما كانت عليه من قبل، ومن لم تفعل به الحرب ذلك، فلن يفعل فيه شيء آخر وقت الهدوء وسكون الفجيعة.
أول الصور التي تدهم المرء، صورة البطولة المستظهرة للفروسية بما هي النهوض الطليعي السابق للناس كلهم، وصورة البطولة من هذه الجهة لا تنفك عن صورة الفقد والخسارة بأدوات التدمير الأشد فتكا وتحطيما، فالفارس الذي أفرغ نفسه من كل طموح دنيوي وانخلع من قيود الحياة، كانت الدنيا في قلبه حطاما كحطام بيته الذي يقف عليه في مواجهة الدبابة، هكذا امتلك هذا المقاتل المعنى الخالص بتمثله الحرية الكاملة، فليس عبدا للدنيا وما فيها خوفا ولا حبا.
حسنا، كيف يتلقى المرء هاتين الصورتين، الفارس المتقدم وقد تأخر عنه، والحطام الهائل وهو يخشى أن يعانيه بنفسه؟!
إن أول ما يجب أن تفرضه الحرب على المرء وهو يتلقى هاتين الصورتين؛ أن يشهد على نفسه بتخلفه وقصوره وتفاهة طموحاته في حياته، ثم بعد ذلك، يجدد وعيه بالحياة ونفسه، ويعيد صياغة علاقته بحطام هذه الحياة الدنيا.
كل مصاديق الحب والبغض، وكل الآمال المحركة، وكل الحاجات التي تدب في الصدر؛ لا بد وأن تدخل -بفعل الحرب وما تستثيره من حساسية أخلاقية- في أتون الاختبار الشديد؛ لوضع الاختيارات الشخصية وما ينجم عنها من سلوك وخطاب على الطريق الصحيح؛ طريق التواضع والتوتر الأخلاقي الدائم تجاه من هم خير منا وأكثر عطاء وأحسن بلاء، وهم هؤلاء الموصوفون في الحديث النبوي: "الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، ويتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق