ذكاء حماس في إدارة ملف الرهائن
تؤكد مشاهد استقبال الأسيرات والفتية المحرَّرين من سجون الاحتلال أن نتائج العدوان الهمجي على غزة جاءت على غير ما يتمنى الإسرائيليون وداعموهم من القادة الغربيين وأعوانهم من القادة العرب الذين وافقوا على الحرب، فالهتافات التي رددها المحتشدون مؤيدة للمقاومة ورموزها، وعبَّرت تعبيرًا واضحًا لا لبس فيه عن اصطفاف الفلسطينيين بكل فصائلهم خلف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي أصبحت القائد للشعب الفلسطيني.
حققت المقاومة الفلسطينية انتصارًا كبيرًا في ملف “الرهائن”، يضاف إلى الإنجازات الكبرى منذ انتصار السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد أدارت حماس عملية التبادل بحكمة واقتدار، أثارت الإعجاب، وحققت هدفها الذي أعلنت عنه منذ اليوم الأول، وهو إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وأجبرت الحكومة الصهيونية على الرضوخ والقبول بصفقة التبادل.
تلاعبت حماس بالإسرائيليين، وأجادت المناورة في استخدام ورقة “الرهائن” لشق الجبهة الداخلية في الكيان الصهيوني، واستخدمت موضوع الأسرى في الدعاية العالمية لفضح ممارسات الاحتلال في فلسطين، وكشفت المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في ظل القمع والسجون الإسرائيلية التي تحوي بين جدرانها نساءً وأطفالًا صغارًا وشبانًا محبوسين منذ سنوات ظلمًا وعدوانًا.
المقاومة لها اليد العليا
رغم القصف والتدمير وسفك الدماء فإن المقاومة لها اليد العليا، وتعرف ما تريد، وتحقق ما وضعته من أهداف، فهي تسير وفق خطط مدروسة بعزيمة وإصرار، وتتحرك وسط شعب صامد لا يقل بطولة، لا يخاف الموت، صابر على القتل بالقنابل والصواريخ العمياء، حاضن لأبنائه المدافعين عنه، متحديًا لتآمر طيف من الأعداء المتوحشين، ولا يضيره خذلان الأشقاء.
أثبتت الإدارة الذكية لعملية التبادل أن العقل الفلسطيني متفوق في التفاوض والمكر السياسي، مثل تفوّقه في ساحة القتال، فالمفاوض الحمساوي السياسي لا يقل مهارة عن مقاتل كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) الذي أثبت أنه أفضل جندي في الحروب الحديثة، يعرف نقاط الضعف في الجبهة المعادية فيضغط عليها ويستغلها أفضل استغلال، ويعرف نقاط قوته فيستخدمها في التوقيت المناسب وبالطريقة المثلى التي يحقق بها أفضل المكاسب.
مثل جدارتها في إدارة المعركة العسكرية، تقبض كتائب القسام على زمام المبادرة في صفقة التبادل، فعندما أخل الإسرائيليون بالاتفاق ومنعوا وصول شاحنات الإغاثة إلى شمالي قطاع غزة، أعلنت (القسام) في اليوم الثاني تأخير تسليم الرهائن وإيقاف التبادل، فتكهرب الجو، وهرول الأمريكيون وضغطوا على نتنياهو فتراجع وخضع، وعندما ظن الإسرائيليون أن التسليم في خان يونس يعني أن “الرهائن” محتجزون في وسط القطاع أخرجت المقاومة لهم دفعة اليوم الثالث من ميدان فلسطين في قلب مدينة غزة، بمصاحبة عرض عسكري قمة في التنظيم والترتيب، ووسط جماهير تهتف للقسام!
وظهر التفوق الأخلاقي لكتائب القسام على الجيش الإسرائيلي في التعامل مع “الرهائن”، ففي الوقت الذي حرص الإسرائيليون على إخفاء “الرهائن” المحرَّرين عن الأنظار، وإبعادهم عن الإعلام خشية أن يدلوا بتصريحات إيجابية عن المقاومة، كانت كتائب القسام هي المصدر الوحيد للمعلومات، وهي التي تبث مشاهد مصورة للرهائن المفرج عنهم، أظهرت مشاعر امتنان من الأسرى تجاه آسريهم، تدل على أن الإسرائيليين عوملوا بشكل جيد، بخلاف ما فعله الإسرائيليون مع الأسرى الفلسطينيين المحرَّرين.
قادة حماس يعلمون أن نهاية العدوان هدنة وتفاوض وتسوية، فطرحوا منذ البداية خطتهم بالإفراج عن “الرهائن” مقابل الأسرى وتبييض سجون الاحتلال، وتحملوا الاندفاعة الإجرامية للاحتلال المدعوم من الولايات المتحدة وأوروبا، وأفشلت كتائب القسام الهجوم البري، ودمرت تقريبًا ثلث الدبابات والآليات الإسرائيلية التي دخلت قطاع غزة، وقتلوا وأصابوا الآلاف من الجنود، وظل جنود القسام وسرايا القدس يقصفون المدن والمستوطنات الإسرائيلية حتى آخر لحظة، وظلت أياديهم ممدودة للتفاوض، حتى توفرت الأسباب التي أجبرت الاحتلال على الهدنة الإنسانية وقبول التبادل.
العجز الإسرائيلي
في البداية أعلن الإسرائيليون والأمريكيون أن هدف العملية العسكرية هو القضاء على حماس وتهجير السكان وإخلاء قطاع غزة، وتحركت الدبلوماسية الأمريكية لتوفير الغطاء الدولي للعدوان، ورفض وقف إطلاق النار، بزعم “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، وتهيئة النظام الدولي للترتيب لما بعد حماس، وأعطوا الجيش الإسرائيلي أكثر من مهلة لتنفيذ المهمة، ولكن الاحتلال تعثر واصطدم بالصمود الأسطوري للمقاومة وشعب غزة، وضاع الهدف.
مع العجز الإسرائيلي تراجع الهدف إلى تحرير “الرهائن” بالقوة المسلحة، ولكن العملية العسكرية فشلت وزادت نعوش القتلى العائدة من غزة، فاضطروا إلى الخضوع للواقع المؤلم، أمام الضغط الداخلي وتصاعد المعارضة ضد نتنياهو، وتحت الضغط الأمريكي الذي بدأ يتدخل لتنفيذ الهدنة الإنسانية لامتصاص الغضب العالمي، واتساع دائرة الاحتجاج في العواصم الغربية وفي الولايات المتحدة، وشعور قادة الحزب الديمقراطي بأنهم يخسرون شعبيتهم لصالح منافسهم ترامب والحزب الجمهوري.
المقاومة لديها الكثير
إذا كانت صفقة التبادل الأولى قد حررت 150 أسيرًا فلسطينيًّا من الفتية والنساء مقابل 50 من “الرهائن” الإسرائيليين المدنيين، بواقع 3 أسرى فلسطينيين مقابل كل “رهينة” إسرائيلية، فإن المقاومة لديها أكثر من 200 “رهينة” من العسكريين (في الخدمة أو سابقين) الذين تم أسرهم في غلاف غزة، على رأسهم قادة الجيش الإسرائيلي في فرقة غزة، وقد رأينا صور بعضهم في مشاهد يوم الغزو، وهؤلاء لن يخرجوا إلا بصفقة كبرى في نهاية الحرب، يكون مقابلها تنفيذ كل شروط المقاومة وفي مقدمتها تحرير كل الأسرى ورفع الحصار وإعادة الإعمار ودفع التعويضات.
ولأن الإسرائيليين لا يريدون التوصل إلى الصفقة الأخيرة لأنها تعني إعلان الهزيمة رسميًّا وانتصار حماس، وما يترتب على هذا النصر من نتائج كارثية على الاحتلال، لذلك قاموا بإلقاء ما يزيد على 40 ألف طن من المتفجرات فوق غزة لتدمير كل شيء، لكن رغم حجم الدمار الهائل فقد بقي 800 ألف فلسطيني في الشمال، وبقيت المقاومة بأسلحتها القادرة على حرق الدبابات والآليات بمن فيها.
الخيارات أمام الإسرائيليين وداعميهم محدودة، فبعيدًا عن الجعجعة الكاذبة لنتنياهو وقادة جيش الاحتلال والتهديد باستمرار العدوان، فليس أمامهم إلا أحد طريقين: فإما مواصلة الهدنة الإنسانية بشروط المقاومة والتفاوض خلالها على وقف إطلاق النار والصفقة النهائية، وإما استئناف العدوان للضغط على حماس لتحسين شروط التفاوض، وتحمُّل الاستنزاف والمزيد من الخسائر في المعدات والأرواح، ولن يصلوا إلى ما يريدون، وفي النهاية سيرضخون ويقبلون بالهزيمة التي يهربون منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق