ظهور أبي عبيدة .. “الجراح”
بعيدا عن عوامل النصر والهزيمة، وما حققه الانتصار الخاطف في السابع من أكتوبر، وما تجرعه جيش الاحتلال من مرارة الهزيمة، التي جعلته يشن حربا على الحجر والشجر، ويجعل من المرضى والجرحى أهدافا مشروعة، ثم شرع في قصف المستشفيات ونقل ذلك على الشاشات، لن أدخل في هذه التفصيلات لأن الحرب لم تضع أوزارها بعد…
ولكن الذي أردت الوقوف عنده ولفت الأنظار إليه، أن لحركة حماس ورجالها دينا مستحقا على الأمة، وجميلا طوَّق عنق كل واحد من أفرادها، فهم إلى جوار كونهم خط الدفاع الأول عن مقدسات المسلمين وأصحاب مشروع التحرير، فقد رفعوا عن الأمة ذل الاستكانة للعدو والرضا بقبول الضيم، لأن ترك الجهاد يورث ذلا يضربه الله على القاعدين والخوالف، كما جاء في حديث رسول اللهﷺ الذي ورد في صحيح أبي داود، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عنكم حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ” .
والمقصود بقوله: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ) حيلة يحتال بها بعض الناس على التعامل بالربا، فالعقد في صورته: بيع، وفي حقيقته: ربا!
وصورته: أن يبيع الشيء بالآجل، ثم يشتريه نقداً بثمن أقل، كما لو باعه سيارة بعشرة آلاف مؤجلة إلى سنة، ثم اشتراها منه بتسعة آلاف فقط نقدا، والمقصود من تعبير وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، أي الانشغال بأمر الدنيا وترك فريضة الجهاد، عندها تحل عقوبة الذل الذي لا ينزعه الله حتى ترجعوا إلى دينكم، وعبر عن الجهاد بالدين، كما جاء التعبير عن الصلاة بالإيمان في قوله تعالى: “وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ۗ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ”. (البقرة/143).
ضُربت عليهم الذلة
ما قامت به كتائب الشيخ عز الدين القسام صبيحة السابع من أكتوبر، حمى الأمة جميعا من ضرب الذل عليها، وأن تكون على أرضية واحدة مع عدوها، الذين قال الله فيهم: “ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ”. (آل عمران/ 112).
كما حقق المجاهدون في فلسطين، ما بشر به النبي الكريمﷺ، فيما رواه جابر بن سمرة: ” لَنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قائِمًا، يُقاتِلُ عليه عِصابَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.” (رواه مسلم).
ورأينا بشارته صلى الله عليه وسلم عن رجال بيت المقدس رأي عين، قال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت بخط أبي، ثم روى بسنده إلى أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” وأخرجه أيضا الطبراني، وقال الهيثمي في المجمع ورجاله ثقات.
الصورة الصحيحة للقدوة
وعلى صعيد الآحاد فقد أعاد أبو عبيدة الناطق باسم القسام الصورة الصحيحة للقدوة، وأصبح مثلا أعلى عند عامة شباب الأمة، ويتابع إطلالته وحركة سبابته الصغير والكبير، وأحسبه مما تحقق من أمنية أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عندما قال لجماعة من أصحابه: تمنوا.
فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله.
فقال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندرى ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: ولكني أتمنى لو ملئت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
وكان عمر بن الخطاب لا يقدم على أبي عبيدة أحدا، وخيَّر أبو بكر أهل السقيفة بين عمر وأبي عبيدة للخلافة بعد رسول اللهﷺ، وظهر من أمنية عمر أن أباعبيدة وأمثاله أثقل في ميزانه من الذهب والجوهر.
لذا فإني أعد ظهور أبي عبيدة صاحب الطوفان، وما حققه من مكانة، من جملة موافقات عمر رضي الله عنه، التي وافق فيها ربه، أو أقرها رسول اللهﷺ، أو صدقتها الأيام والأحداث، وقد أوصلها الإمام السيوطي إلى عشرين مرة، جمعها في كتاب منشور بعنوان: قطف الثمر في موافقات عمر، ونظمها في أرجوزة، ولعل شاعرا يضيف لبنة أبي عبيدة إلى أبيات السيوطي، كالذي عارض أحمد شوقي فقال:
قم للملثم وفه التبجيلا..
رفض الملثم أن يعيش ذليلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق