رسالة مِن الذين حَرّروا إلى الذين حُرّروا
هذه رسالتي، أنا، أخوكم القابع في غياهب الجُب، وعتمة النفق، وضيق الخندق، أتنفس غبار الأرض، وآكل طينها، وأسعل غبارها، وتسكن رئتيَّ ذراتها، وأذنيَّ أصواتُها، ولا يغادر سمعي صوت الفأس، ولا طرقات المعاول، تنحجب عني الشمس أو أنحجب عنها، فلا يرى أيٌّ منا الآخر لأيام ثقال، ويتخفى مني القمر أو أتخفى منه فلا يرى أيٌّ منا الآخر لليالٍ طوال.
أغيب عن بيتي وعائلتي، وأتنكّر لمن يعرفني أو يرقبني، أتحوّل إلى شبحٍ يخشى أن يراه أحد، إلى شبحٍ يتمنى رؤية الجميع دون تجلٍّ، وأن يظل محتفظًا بالسر الذي اؤتُمِن عليه، في الآن ذاته، معتزلًا الأهل والصحب، مؤديًّا مهمة مقدسةً بشق باطن الأرض، لفتح فوّهة تأخذنا نحو الوطن المسلوب، وفيها نعيش، ونقيم، ونقوم، ونعمل، ونصنّع، ونتكاتف، ونتلاحم، ونخطّط، ثم ننطلق إلى القتال زمرًا، فنخطف من جنودهم من أراد الله لنا أن نخطف، حتى نملك ما نقول لعدونا مقابله: "أسراك مقابل أسرانا".
كم منّا مات وهو يحفر النفق! كم منّا انهال عليه التراب حتى انقطع نفسه وصعدت روحه! كم منّا استشهد في المقدمة وهو يتصدر الكتائب ويقود الفصائل! كم منّا فقد بيته وأهله وهو بعيد عنهم! كم منّا لم يرَ النورَ منذ شهور وسنوات! كم منّا يعيش تحت الأرض بثمانين مترًا يعدّ العدّة ويستعد للمعركة! كم منّا ألصق نفسه وفجر جسمه في أهدافه المحصنة! كم منّا كان يملك حياةً استرخصها مقابل الثمن الباهظ لحريتكم، ولم يكن ثمن حريتكم عليه (رغم ثقله) بعزيز!
أنا المقاوم الجالس في عتمة النفق، وضيق الخندق، أتنفس غبار الأرض، وآكل طينها، وأسعل غبارها، وتسكن رئتيَّ ذراتها
هذه رسالة أخرى، منّي أنا، ابن غزة الذي لم يتجاوز عمره العشر سنوات، لكن عمره الحقيقيّ ألف عام، بعمق جذور تلك الأرض وقدَم أديمها، يفارقُ لعبته المفضلة، وأصدقاءه الذين يحبّهم، وأهله الذين لا يملّون من "تدليعه"، ومدرسته التي لا تدّخر جهدًا في تنشئته وتعليمه رغم قسوة العيش وصعوبة الدرس، وشارعه الذي يحفظ صوته عن ظهر قلب من كثرة ما أحدث فيه من صخب، ثم دون أن يودّع ذلك كلّه ويستودعه تخطفه غارةٌ تمزقه أشلاءً، فلا يعرف أي بيتٍ ينتمي هذا الجسم إليه، تلك يده، وتلك قدمه، وتلك قطعة من رأسه، وكذلك تمزقت أرواح محبيه، أشلاءً تتَتبَّع الأشلاء، تحاول جمع ما تبقى من أوراق الكرّاسات، لتلتقط اسمه وسنه وعنوانه، وتعرف أيًّا مِن أبنائها فقدت.
وهذه أختي الكبرى، في سنتها الثانية من الجامعة، التي هُدمت في حزام ناريّ، صورتها البهيّة، ونظرتها الحيية، وابتسامتها المشرقة، وحلمها، وهواياتها، وحياتها، وصوتها، وحبّها، وشعرها، ورواياتها المفضلة، وجمالها الذي أغار عليه، كلّها أشياء تحوّلت إلى أشلاء أيضًا، تحت الأنقاض، وتبعثرت الملامح تحت زخات الرصاص والبارود والشظايا، وتحولت أختي إلى تلك المفقودة، التي لم نعثر إلا على بعضها، وتوارى تحت الهدم معظمها ومعظمنا.
وأمي، وأبي، وإخوتي، وأهلي، وأهل الشارع، والحارة، والمخيّم، والمدرسة، والمسجد، والمخبز، والمتجر، كلّهم جميعًا، لا أرى منهم إلا فُتاتًا، يتجولون كالمجانين، يبحثون عن قطعة لحمٍ إضافية، يضمونها إلى رفات أحبابهم الذين وسعهم القبر مجتمعين كأنّهم جسد واحد، مجازًا لأنّ قلوبهم كانت تحبّ بعضها بعضًا، وحقيقةً لأنّ كلًّا منهم كان ينقصه جثمانه الكثير.
الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية شهداء محتَملون، يأكل السجن أرواحهم كما يأكل الصدأ الحديد
كلّ ذلك، كان ثمنًا في معركة كبرى، وملحمة من ملاحم الوطن الجريح المبجّل، لحرية من دفعوا هم الآخرون أعمارهم، بطريقتهم، خلف القضبان، بين الزنازين والسجّانين والجلادين، يسامون سوء العذاب، ويُحرمون الحياة التي تكرمهم، والموت الذي يرحمهم، عالقين في المنتصف بين لسعة السوط وفترة الاستشفاء، ثم لا يكادون يصلون لنصف التعافي حتى يأكل السوط الجديد من أجسادهم، وهم هكذا حتى يقضوا، فإن كان الشهداء المقاتلون يحشرجون بعد كثير من الجهاد والإعداد، وإن كان الشهداء الآمنون يموتون بعد غارةٍ توجع من بعدهم أكثر منهم، فإنّ هؤلاء شهداء محتَملون، يأكل السجن أرواحهم كما يأكل الصدأ الحديد، ويتسلى على أرواح أحبابهم خارج القضبان كما يتسلَّى الساديون بضحاياهم؛ فكلهم في "هوى لبلاد وهواها" سوا.
كلّ تلك البطولات، كلّ تلك الأساطير، كّل تلك الأثمان، كلّ تلك التضحيات، فصولٌ بعضها يحرّر بعضا، وبعضها يفدي بعضًا، في كتاب الأرض والبشر، وصفحات المجد والصبر، وسطور الدم والحجر، لا فضل فيها لأحدٍ على أحدٍ إلا بمن دفع دمًا أكثر، وكلّها بنفوس سمحة وصدور راضية، تتمنى لو كانت دماؤها تشتري حرية إخوة لها من الأسرى يكون عددهم أكبر!
سيدي الموجوع من الكلام، حضرة الباكية من المقال، تلك صفحة واحدة من حكاية فلسطين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق