قصة قاسم أمين بطل تحرير المرأة
يرويها محمد قطب..!
محمد قطب إبراهيم
عالم معروف ، له مؤلفات قيمة ومواقف مشرفة
"بطل" هذه القصة هو قاسم أمين!
شاب نشأ في أسرة تركية مصرية أي محافظة فيه ذكاء غير عادي حصل علي ليسانس الحقوق الفرنسية من القاهرة وهو في سن العشرين بينما كان هناك في عصره من يحصل علي الشهادة الابتدائية في سن الخامسة والعشرين
ومن هناك التقطه الذين يبحثون عن الكفاءات النادرة والعبقريات الفذة ليفسدوها، ويفسدوا الأمة من ورائها، التقطوه وابتعثوه إلى فرنسا.. لأمر يراد.
أطلع قبل ذهابه إلي فرنسا علي رسالة لمستشرق يتهم الإسلام باحتقار المرأة وعدم الاعتراف بكيانها الإنساني وغلى الدم في عروقه، كما يصف في مذكراته وقرر أن يرد علي هذا المستشرق ويفند افتراءاته علي الإسلام.
ولكن عاد بوجه غير الذي ذهب به
لقد أثرت رحلته إلي فرنسا في هذه السن الباكرة تأثيرا بالغا في كيانه كله، فعاد إلي مصر بفكر جديد وعقل جديد ووجه جديد.
عاد يدعو إلي "تعليم المرأة وتحريرها" على ذات المنهج الذي وضعه المبشرون وهم يخططون لهدم الإسلام
يقول في مذكراته إنه التقى هناك بفتاة فرنسية أصبحت "صديقة" حميمة له، وإنه نشأ بينه وبينها علاقة عاطفية عميقة، ولكنها "بريئة" وإنها كانت تصحبه إلى بيوت الأسر الفرنسية والنوادي والصالونات الفرنسية فتفتح في وجهه البيوت والنوادي والصالونات ويكون فيها موضع الترحيب... وسواء كان هو الذي "التقى بها" أم كانت موضوعة في طريقة عمدا ليلتقي بها، فقد لعبت هذه الفتاة بعقله كما لعبت بقلبه، وغيرت مجري حياته، وجعلته صالحا للعب الدور المطلوب، الذي قررت مؤتمرات التبشير أنه لابد منه لهدم الإسلام
ونحن نميل إلي تصديقه في قوله إن العلاقة بينه وبينها كانت "بريئة" لا بالمعني الإسلامي للبراءة بطبيعة الحال، ولكن بمعني عدم وصول هذه العلاقة إلي درجة الفاحشة فإنها علي هذه الصورة تكون أقدر علي تغيير أفكاره من العلاقة المبتذلة التي تؤدي إلي الفاحشة،لأن الفتاة ستكون حينئذ ساقطة في حسه غير جديرة بالاحترام، وغير جديرة بأن تكون مصدر "إلهام"!
وسواء كانت الفتاة قد "مثلت" الدور بإتقان، لتظل العلاقة بينه وبينها "روحية" و "فكرية" لتستطيع التأثير عليه، أم كانت تربيته المحافظة في الأسرة المنحدرة من أصل تركي هي التي وقفت بهذه العلاقة عند الحد الذي يصفها بالبراءة فالنتيجة النهائية كانت انقلابا كاملا في كل كيانه
ولنحاول أن نتصور كيف حدث التغيير ..
هذا شاب عبقري، نعم، ولكنه قادم من بلاد محتلة، تحتلها إحدى الدول الأوروبية وهو قادم إلى أوروبا تلك التي يتحدث قومه عنها بانبهار المأخوذ، وتمثل في حسهم العملاق الضخم الذي يتضاءل الشرق أمامه ويتوارى، فنستطيع عندئذ أن نتوقع أنه قادم إلى أوروبا وهو منخنس داخل نفسه، يحس بالضآلة والقزامة، ويتوجس أن يزدري في بلاد العمالية لأنه قزم قادم من بلاد الأقزام، وأقصى ما يتمناه قلبه أن يجد الطمأنينة النفسية والعقلية في تلك البلاد الغربية التي لا يكاد يستوعبها الخيال.
وبينما هو كذلك منكمش متوجس – إذا هذه الفتاة تبرز له في الطريق فتؤنس وحشته بادئ ذي بدء، فيزول عنه انكماشه وتوجسه، ويذهب عنه توتر أعصابه ويشعر بالطمأنينة في المهجر!
ثم إن هذه الفتاة تبادله عواطفه – كما قص في مذكراته – فيشعر فوق الطمأنينة بالسعادة والغبطة ويزداد استقرار نفسه فلا يعود يشعر بالغربة النفسية الداخلية، وإن بقيت الغربة بالنسبة للمجتمع الخارجية الذي لم يحتك به بعد.
غير أن الفتاة تنتقل معه – فتنقله – خطوة أخري.. فهي تصحبه إلى الأسر الفرنسية فتفتح له تلك الأسر أبوابها وترحب به، وتصحبه إلي النوادي والصالونات فترحب به كذلك وهنا تزول الغربة نهائيا، سواء بالنسبة لمشاعره الخاصة أو بالنسبة للمجتمع الخارجي، وينطلق في المجتمع الجديد واثقا من خطواته.
كيف تصير الأمور الآن في نفسه؟
كيف ينظر إلي العلاقة بينه وبين هذه الفتاة؟
وكيف ينظر إلي التقاليد التي تم عن طريقها كل ما تم في نفسه من تغيير؟
علاقة "بريئة" أي لم تصل إلى الفاحشة نمت من خلالها نفسه نموا هائلا، فخرجت من انكماشها وعزلتها، واكتسبت إيجابية وفاعلية، مع نمو في الثقافة وسعة في الأفق، ونشاط وحيوية!
ما عيب هذه التقاليد إذن؟ وما المانع أن تكون تقاليدنا نحن على هذا النحو "البرئ"؟
هناك بلا شك – مهما احسنّا الظنّ مجموعة من المغالطات في هذا المنطق.
المغالطة الأولي:هي دعواه "ببراءة" هذه العلاقة على اعتبار خلوها من الفاحشة المبينة فحتى لو صدقناه ونحن أميل إلي تصديقه كما قلنا فهي ليست "بريئة " في الميزان الإسلامي الذي يقيس به المسلم أمور حياته كلها فهي تشتمل على "خلوة" محرمة في ذاتها سواء أدت إلى الفاحشة أم لم تؤد إليها وهي محرمة في دين الله لحكمة واضحة، لأنها تؤدي في النهاية إلى الفاحشة، إن لم يكن في أول مرة ولا حتى في أول جيل فإنه ما من مرة أباحت البشرية لنفسها هذه الخلوة إلا وصلت إلى الفاحشة في نهاية المطاف لم تشذ عن ذلك أمة في التاريخ!
والمغالطة الثانية: هي تجاهله ما هو واقع بالفعل في المجتمع الفرنسي من آثار مثل هذه العلاقة، وقد علم يقينا بلا شك أن ذلك المجتمع يعج بألوان من العلاقات الأخرى "غير البريئة" ويسمح بها بلا رادع. فلم يكن ذلك سرا مخفيا عن أحد ممن يعيش في ذلك المجتمع، سواء من أهله أو من الوافدين عليه فحتى لو صدقناه في أن علاقته هو الخاصة لم تصل إلي ما يصل إليه مثلها في ذلك المجتمع لظروف خاصة مانعة في نفسه أو في نفسها فليس ذلك حجة لإباحة تلك العلاقات، أو الدعوة إلى مثلها وهو يرى بنفسه نتائجها الواقعية حين يبيحها المجتمع!
والمغالطة الثالثة: هي زعمه في كتابه الأول "تحرير المرأة" أن هذا التحرير لن ينتج عنه إلا الخير ولن تنشأ عنه العلاقات الدنسة التي رآها بعينه في المجتمع الفرنسي إنما سينشأ عنه تقوية أواصر المجتمع وربطها برباط متين!
وأيا كان الأمر فقد عاد قاسم أمين من فرنسا داعيا لتحرير المرأة.. داعيا إلى السفور ونزع الحجاب!
نفس الدعوة التي دعا بها رفاعة الطهطاوي من قبل عند عودته من فرنسا مع فارق رئيسي.. لا في الدعوة ذاتها، ولكن في المدعوين فإن أكثر من نصف قرن من الغزو الفكري المستمر كانت قد فعلت فعلها في نفوس الناس، فلم تقابل دعوة قاسم أمين بالاستنكار البات الذي قوبلت به دعوة رفاعة الطهطاوي، ولم توءد في مهدها كما وئدت الدعوة الأخرى من قبل!
ومع ذلك فلم يكن الأمر سهلا فقد أثار كتاب "تحرير المرأة " معارضة عنيفة جعلت قاسم أمين ينزوي في بيته خوفا أو يأسا، ويعزم علي نفض يده من الموضوع كله.
ولكن سعد زغلول شجعه وقال له: أمض في طريقك وسوف أحميك!
عندئذ قرر أن يعود، وأن يسفر عن وجهه تماما فلئن كان في الكتاب الأول قد تمحك في الإسلام، وقال إنه يريد للمرأة المسلمة ما أعطاها الإسلام من حقوق وفي مقدمتها التعليم فقد أسقط الإسلام في كتابه الثاني "المرأة الجديدة" ولم يعد يذكره إنما صار يعلن إن المرأة المصرية ينبغي أن تصنع كما صنعت أختها الفرنسية، لكي تتقدم وتتحرر، ويتقدم المجتمع كله ويتحرر! وهكذا سقط الحاجز المميز للمرأة المسلمة، وصارت هي والمشركة أختين بلا افتراق!
(محمد قطب - واقعنا المعاصر).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق