رسالة من غزة: لا تقلقوا.. ما زلنا نمتلك الكثير
الإشارات التي تأتيك فجأة من الله وتجعلك تنتقل من حالة الخوف والترقب إلى السلام النفسي والسكينة تأتي دائمًا في مواعيدها التي تكون أشد لحظاتك إيلامًا أو ظلمة، في تلك اللحظة تتعجب كيف ذهبت وانتقلت إلى حيث تسلمت الرسالة الحانية على قلبك وعقلك؟
هكذا جاءت الرسالة بينما أتابع “المارثون” الصهيوني نحو تدمير كل ما هو ينتمي للحياة على غزة وقصفه وبعض بقاع الضفة الغربية، وتوالي استهداف المنازل والبيوت، تساقط العشرات من الشهداء الذين وصل عددهم أمس إلى ما يزيد عن 120 شهيدًا، مع إنذارات من الاحتلال بإخلاء عديد من المستشفيات في غزة.
تواصل جسور الأسلحة والصواريخ الأمريكية التي تذهب إلى جيش الدفاع الصهيوني، فما زالت أمريكا تدفع بترسانتها العسكرية نحو غزة ومناطق المقاومة العربية في فلسطين ولبنان، وفي ظل “مارثون” الوصول إلى هدنة إنسانية في الحرب، التي أعلن عنها فجر الأربعاء في قطر، كانت عيني تنتقل بين الهاتف المحمول وركاب حافلة الرأي العام تتأمل الوجوه وحركة الحافلة، في تلك اللحظة تلاقت عيني والفتى عمر.
هكذا قال عمر
عمر شاب فلسطيني من غزة في منتصف العقد الثالث من عمره، وجه مألوف كثيرًا لديّ، خلته مصري في إسطنبول، فما أكثر المصريين والعرب هنا، كان يجلس في المقعد المقابل، عيناه تبحث عن شيء ما في وسط ركاب الحافلة، تلاقت عيناه معي، اقترب قائلًا: عربي؟
أجبته: مصري، نظر إليّ وقال: “أنا من غزة.. الدم بيحن”.
شددت على يديه وكدت أنهض من مقعدي أقبّل رأسه، وابتسمت قليلًا، وقلت له: هانت.
قال لي عمر إنه أقام في مصر خمس سنوات في منطقة شبرا وسط القاهرة، وإنه يحب مصر كثيرًا، واستطرد قائلًا: مصر جميلة.
أخذني الفتى الغزاوي كما نحب أن نقول إلى مصر والقاهرة، وكأن ما يحدث في فلسطين أمر عادي، وكأن عالمي الذي يتوه منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وقلبي المثقل بالأحزان والهم والقهر من أحداث فلسطين لا شيء لهذا الشاب الفلسطيني، هل يعلمنا شباب فلسطين القوة والتماسك ورباطة الجأش، ما سر هذا السكون والسكينة؟
قال الفتى الشجاع مثل كل أقرانه: لا يهم بعد كل ما حدث، نحن لن نتوقف، وأضاف: قادم من عند ابن خالتي كنت أعزيه، فقد استشهدت أسرته بالكامل بالأمس في قذف مدفعي إسرائيلي على منزلهم في غزة.
قلت له: هناك محاولات لهدنة إنسانية في غزة لأيام عدة -تم الإعلان عنها فجر الأربعاء، وننتظر أن تبدأ خلال 24 ساعة مقبلةـ وأضفت محللًا أظن أنها ستستمر لمدة طويلة، فالكيان الصهيوني بحاجة إلى وقت يستعيد فيه قدرته على تحقيق أي نصر بعدما تكبد من خسائر في الحرب على غزة من معدات وأعداد كثيرة من جنوده.
ابتسم الفتى قليلًا مع لمحة أسى، وكأنه لا يريد لتلك الهدنة أن تتم، وقال: ما زلنا في البدايات، وهم لم يتمكنوا سوى من الأطراف، وعندما يدخلون إلى العمق سترى الكثير، إننا ننتظرهم في العمق وسوف نريهم الكثير، هل تعرف أن أعداد قتلى الجيش الصهيوني يتجاوز 2000 ضابط وجندي؟ وأن القوة الحقيقية للمقاومة وفصائلها لم تشارك بعد في المعركة؟
تذكرت حواري مع أحد علماء المسلمين الأسبوع الماضي في ساحة مسجد السلطان الفاتح حينما قال: كنت على تواصل مع قيادات في غزة قبل الصلاة، وأقول لك إن قليلًا فقط من قوة المقاومة هم الذين يشاركون في المعركة، وتذكرت بيانات أبو عبيدة وإشارات العديد من قادة المقاومة أنه لا يزال هناك الكثير في انتظار الجيش الصهيوني في غزة، صدقت على كلام عمر، ونظرت إليه متسائلًا: ما سر هذه القوة؟
سر هذه الابتسامة التي تملأ وجوه الأطفال في ساحات الملاجئ، وأماكن النزوح التي يقيمون فيها، سر رباطة جأش الأمهات اللاتي يستشهد بعض أبنائهن ويقفن عند رؤوسهم لتكفينهم، ويعلن تمسكهن بالأرض وبقايا المنزل الذي قصفه الاحتلال الصهيوني.
سر هذا الطفل الذي فقد قدميه، وكان يحلم أن يكون لاعبًا لكرة القدم، ويبتسم لأنه سيقابل ياسين بونو حارس المغرب مثله الأعلى في كرة القدم، سر تلك العجوز التي لا تزال تمسك بحلم الوطن في عقدها الثامن، ما سر قوة الشعب الفلسطيني؟ ربما هذا هو سر الوطن المدفون في أعماقنا، وسر الإيمان الذي يملأ قلوب هؤلاء الذي صدق من قال إنهم شعب الجبارين.
هدنة إنسانية لجولة جديدة
قال لي عمر: إن أباه وأمه وأشقاءه ما يزالون في غزة، وإن أحلام الحالمين بتهجيرنا هي وهم، وإنه لو استشهد أفراد أسرته كلهم لن يتركوا منازلهم وبيوتهم.
أكدت وجهة نظر الشاب، فإيماني بفشل مخطط التهجير إلى الجنوب أو إلى سيناء لا يساوره شك، أدرك أن شعب فلسطين لن يترك أرضه مهما حدث، رغم تثبيت الصورة التي يطلق عليها هدنة إنسانية من الواضح أنها لن تستمر رغم بعض الجهود الطيبة من الذين يحسنون النيات.
هذه الهدنة التي تستمر أربعة أيام مقابل الإفراج عن 50 طفل وسيدة من أسرى الكيان و150 طفل وسيدة من الأسرى الفلسطينيين لدى قوات الاحتلال، مع بقاء الأوضاع كلها كما هي من وجود قوات الاحتلال ومعداته وأسلحته ما هو إلا تثبيت للصورة في انتظار حركتها الأشد.
حينها، عندما تتحرك الصورة الثابتة قد يكون لدى المتعطشين للدم العربي من العصابات الصهيونية نهم أشد لمزيد من الدم العربي، ولكن حينها ستتحقق نبوءة عمر فتى فلسطين المسافر: سننتظرهم في الأعماق مثل حي الشجاعية وغيره، ستندمج قوات جديدة من المقاومة، “هل تعرف أن ما يقارب 15% فقط من المقاومة هم من يكبدون العدو كل هذه الخسائر” هكذا قال عمر.
في هذه المرة سيكون بالفعل “نصر أو استشهاد” كما يقول أبو عبيدة (الملثم) في ختام بياناته كلها التي ينتظرها أبناء الأمة العربية والإسلامية جميعهم، وكل أحرار العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق