في كلّ صولة وجولة، بين كلّ معركة ومعركة، تتصاعد أصواتهم المكبِّرة، وأنفاسهم المتهدّجة، أسمعها كأنّي معهم، أحمل لهم السلاح، أو الذخيرة، أو الكاميرا، أو حتى الأحذية، المهم أنّني أصير برفقتهم في مكان واحد، يتوحّد التوقيت والموقع والحالة، ألتحم بأرواحهم، وأنصت إلى كلّ صمتٍ منهم، فيخبرني القليلُ النادر الذي يبدو من قبَلهم، بالكثير الغزير الذي يُخفى وراءهم.
أسمعهم، فتأخذني أحبالهم الصوتية من سفح نفسي إلى قمم نفوسهم، أتعلّق عليها، وأتشبّث بها، لأصعد أعلى الجبل الذي في كلّ واحد منهم، كأنّ الجبال هي هيئتهم الأولى التي خُلقوا منها، وفي صدورهم الصخور شديدة البأس التي لا تفتّها حتى الزلازل، ورغم ذلك، فعلى جنباتها، وبين أوديتها، أرى الزروع الخضراء، وثمار الصبّار التي تنبت فجأةً دون إنذار، كأنّها تحاول تلطيف الجوّ، وإعطاء فكرة عن الجسد الذي انبثقت منه.
من أصواتهم أكاد أسمع وعرة التلال التي صعدوها، والأنفاق التي نزلوها، والليالي التي أقاموها، والنهارات التي رابطوا بها؛ أسمع أصوات الفقد والتعب، والكد والوصَب، والإرهاق الذي لا يذهب بنومة ساعة العصاري، ولا حبّة دواء للصداع، وإنّما حالة إجهاد عامة، هي حالة عامة للجميع هناك، لا يُذهبها ولا يُهذبها، دفعةً واحدةً، إلا الثأر الجماعيّ، الذي يقتصّ لجزء ضئيل قليل دقيقٍ من النكبات والنكسات والاحتلال والاستيطان والمقاتل والمعتقلات والمذابح والمجازر والهموم الثقال، و75 عامًا من الإذلال الخام، و"دولة الحاخام".
بين رئاتهم أتجوّل، أتعجب ممّا أراه، وهي معبّأة ومعبّقةٌ ومعتّقةٌ معًا بأنفاس الراحلين، وغبار الخنادق، وبارود الكفاح المسلح، وغازات الأعصاب والدموع والجنون والفوسفور الأبيض، هو ثأرٌ ثقيل من سرطان الرئة الحقيقيّ، الذي لا يبدو سرطان الرئة الآخر إلا نذرًا يسيرًا منه، ونقطة خبيثةً وحيدةً في محيطه الكبير العكِر.
يتحرّك الصوتُ من صدورهم، حيث أراقبها صاعدةً وهابطةً، قابضةً على القلوب المفتئدة داخلها، تحاول التفرقة بين كلّ ثأر شخصي، وثأر الوطن الكبير، لكنها تخلُص في النهاية إلى أنّ ثأر الأرض كلّها، والوطن كلّه، والتاريخ كلّه، والجغرافيا كلّها، والأركيولوجيا كلّها، عبارةٌ عن مجموع تلك الثارات الصغيرة، فإن ثأَر كلٌّ لنفسه، فكأنّما هي عملية منظمة لثأر جماعي، يخلّص عاتق الوطن المثقَل، من ذلك الشلل على كواهله، حالةٌ عجيبةٌ أن يكون الشلل في البدن والجسم كاملًا، بينما يحاول أن تحرّره سواعدُه، رغم أنف الطب، فإنّه يقول إنّ الشفاء من الشلل والسرطان والسل والذل يبدأ من الكفّين أولًا، إمّا أن تحمل لقمةَ خبزٍ وحقنة دواء وحبة علاج لتتعايش مع المرض، أو أن تحمل بارودة وبندقية وحزامًا ناسفًا، ليتفتّت الداء إلى أشلاء بينما يحتفظ البدن بعافيته، ويستردها من حيث ظنّ الآخرون أنّه سيفقدها للأبد.
رئات المقاومين، معبّأة ومعبّقةٌ ومعتّقةٌ بأنفاس الراحلين، وغبار الخنادق، وبارود الكفاح المسلح
يصيحُ البطلُ النبيل، الكريم، السخيّ، المغوار، المقدام، الغضنفر: "الله أكبر"، وآية من القرآن حسب الموقف الذي هو فيه، إن كان لا يريد أن يروه فسيقول: "وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا"، وإن كان سيسدّد فسيقول: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، وإن كان سيقتحم فسيقول: "ادخلوا عليهم الباب"، وإذا أراد أن يثّبت فسيقول: "وليثبت به الأقدام"، وإن كان يريد أن يستمد اليقين فسيقول: "وإن جندنا لهم الغالبون"، ثم ينطلق لمهمته، وفي صوته وحده جيشُه، وفي قلبه إيمانُه، وفي ذهنه ذاكرتُه، وفي أذنيه همسات أمه وتعليمات قائده فيختلطان كأنّهما نبرتان لإنسان واحد، وفي يديه سلاحُه وكفاحُه وفلاحُه، وفي عينيه هدفُه والجنةُ معًا، وفي الخبر التالي انتصارُه، حين يذيعه صاحب الصوت الجليّ النقيّ الوفيّ العفيّ الفتيّ، وهو يقول: "ثم عادوا إلى قواعدهم بسلام".
ما وجدته في أصواتهم كانت روايتهم للقصة كاملةً في كلمتين أو أكثر بقليل، بتسجيلات نادرة كالتي يُعثَر عليه بشِقّ الأنفس، لإنسانٍ لا يجد مقامًا للقول من عظَم الفعل، ويستحقر الحديث من تعوُّد العمل، ويؤثر أن ترى وتسمع صراخ عدوّه، على أن تسمع وعوده نفسَه، وبذلك يصبح للصوتِ قيمة ووزن، لا جعجعة ولحن، ويصير للنبرة هيبةٌ وزلزلة، لا طرب ومهزلة، وتعيش مع كلّ نفَسٍ دهرًا كاملًا من الصمت، يفعل فيه الرجال، ولا يتكلمون إلا "الله أكبر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق