أبو الغيط في غزّة والعنقاء والخلّ الوفي
في هذه اللحظة المضيئة من تاريخ العرب الحديث، يتسابق الرسميون العرب لإعلان وادّعاء الوصل بملحمة صمود غزّة ضد العدوان الصهيوني، فمنهم من يزعم محبّة زائفة، ومنهم من ينتحل أدوارًا في إيقاف العدوان، ومنهم من يمارس"الشعبطة" في قطار الهدن المتجدّدة بين المقاومة الفلسطينية الباسلة والاحتلال الإسرائيلي.
تذهب وفودٌ رسميةٌ إلى غزّة معلنة عن تضامنها الكامل مع الشعب الفلسطيني في معركته، فيما تقف أطرافٌ أخرى ملوّحةً من بعيد بإشارات الحبّ المفاجئ لفلسطين وعباراته... شخص واحد في النظام العربي يبدو غير مكترثٍ بما حدث ويحدُث، لا يعنيه الحاضر أو المستقبل، الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، الذي كنت أتخيّل أنّه سيكون أوّل من يصل إلى قطاع غزّة على رأس وفد يضم مندوبي الحكومات العربية في الجامعة، مدّعيًا التضامن أو منتحلًا لدور، أو مفتتحًا صفحة ناصعة في سجله الخاص بغزّة والشعب الفلسطيني. لكنه محض خيال وتحليق في الوهم افتراض أن يعفر السيد أبو الغيط حذاءه بتراب أنقاض غزّة المدمّرة، ذلك من المستحيلات، مثل الغول والعنقاء والخلّ الوفي، كما تقول الأمثولة الشعبية، إذ يبدو أنّ الرجل غير مستعدٍّ للتخلّي عن مشاعره غير الودّية تجاه غزّة وشعبها، وغير مهيّأ لأن يسمو على ما مضى، حين كان وزيرًا لخارجية حسني مبارك، تتكئ على ساعده تسيبي ليفني، إذ تقاوم الانزلاق في القاهرة، في اللحظة التي يتوعّد فيها الشعب الفلسطيني بتكسير أرجله إذا ما فكر في اجتياز معبر رفح، فرارًا من وحشية القصف الصهيوني في عدوان 2008.
أبو الغيط هو الشخص النموذجي للجلوس على رأس مؤسّسة القمّة العربية في زمن تتسابق فيه الأنظمة للظفر بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، ولا يصلُح أبدًا في فترات المقاومة والصمود إلا لافتتاح مؤتمر القمّة وإغلاقه، مثل موظف مراسم أو مدير قاعة اجتماعات رسمية. وبالتالي، من العبث أن يتوّقع أحدٌ أن يسارع لزيارة غزّة الجريحة، قبل أي مسؤول عربي آخر، أو حتى يذهب إلى أبعد من ذلك.
تساءلتُ في العام 2016 مع طرح اسم أبو الغيط أمينًا عامًا للجامعة، ومن دون منافسة أو مناقشة، تساءلتُ: ماذا يعني ابتلاع كلّ العرب أحمد أبو الغيط، صديق إسرائيل، وأحد المتطرّفين في كراهيتهم الربيع العربي، أمينا لجامعة الدول العربية؟ كتبتُ وقتها إنّ هناك احتماليْن لا ثالث لهما: الأوّل أنهم يعتبرون الجامعة ليست أكثر من بناية صمّاء، لا تضرّ ولا تنفع، تقع في ميدان التحرير بالقاهرة... أو أنهم راضون، أو قانعون، أو خاضعون، لما يمثله أبو الغيط من رؤى تخصّ العلاقة بين العرب والكيان الصهيوني، أو لا يملكون له دفعًا، بما يجسّده من خطّ تطبيعي ساخن، منفتح على إسرائيل، متجهّم في وجه المقاومة الفلسطينية، وبالتالي لم يجرؤ أحدٌ على طرح مرشّح آخر، مصريًا كان أم عربيًا، ينتمي لأي دولة أخرى منضمّة للجامعة التي لم ينزل نصٌّ قرآني يحرّم ذهاب منصب أمينها العام لمن لا يحمل الجنسية المصرية.
بعد انقضاء خمس سنوات، الولاية الأولى 2016- 2021، جدّد النظام الرسمي العربي لأبو الغيط ولاية ثانية، من دون أن يتوقّف أحدٌ عند هذه المناسبة التي مرّت ولم يشعر بها المواطن العربي، ليتأكّد أنّه ليس هناك أنسب من الرجل، لكي يكون على رأس جامعة الدول العربية، في هذه المرحلة الكاشفة، والتي يلتقي فيها مسار التطبيع مع مسار الانقلابات والثورات المضادّة، ليصبّا معًا في مجرىً واحد، يظهر إلى أيّ مدىً كان استهداف الربيع العربي ضرورةً ومطلبًا لا رجوع عنه، حتى ينفتح الطريق أمام قافلة التطبيع التي تدهس عواصم العرب، واحدًة تلو الأخرى.
يمكن الآن الاعتراف بأنّ وجود أحمد أبو الغيط على رأس نظام عربي لا يطيق فكرة مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ولا يرى في هذا الاحتلال عدوًا، بل صديقًا، أو حليفًا محتملًا بنص عبارة أحدهم، وهو يقدّم نفسه للإدارة الأميركية وريثًا للعرش في بلده. والحال هكذا، فإنّه الاختيار الأمثل، بل الأوحد، لجامعةٍ عربيةٍ يتّقد بها الشوق للحظة تطبيع شامل، يتساوى تحت مظلّته الشقيق والعدو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق