حصار غزة بين عقوق مصر وعائق إسـرائيل (١)
واقعة الانتخابات التشريعية الأولى من نوعها في فلسطين والتي أجريت في مطلع العام ٢٠٠٦م، أثبتت أن الشعب الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة يقف في صف المقاومة قلبًا وقالبًا، حيث نجحت حماس في الفوز بـ٧٤ مقعدًا من ١٣٢ إجمالي عدد مقاعد المجلس التشريعي متفوقة على جماعة السلطة الفلسطينية بقيادة أبي مازن “محمود عباس” المشهور عنه رفض خيار المقاومة ولو حتى بالحجارة، لدرجة وصفه لإحدى العمليات الاسـتشـهادية بأنها “حقيرة”.[١].
ولما كان من واجب أي حكومة السعي لتحرير أسراها، قامت “حماس” بعملية نوعية ضد موقع عسكري إسرائيلي قرب معبر كرم أبو سالم، أدت إلى أسر الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط” في يونيو ٢٠٠٦م، من أجل عقد صفقة تفرج بها عن الأسرى والأسيرات والمحكوم عليهم ظلما في سجون الاحتلال.
وهى العملية التي قامت لها قيامة إسرائيل، فسارع جيشها إلى مداهمة بيوت وزراء حماس ونوابها المقيمين في الضفة واعتقال العشرات منهم وعلى رأسهم الدكتور “عزيز الدويك” رئيس المجلس التشريعي الذي قامت بخطفه من داخل منزله في رام الله. فضلا عن الهجوم على قطاع غزة وقصفه المستمر لعدة أشهر بقذائف من نوع جديد محرمة دولياً تحدث بترا للأعضاء وحرقا كاملا لأجساد المواطنين الفلسطينيين الذين يتعرضون للإصابة بشظاياها، بالإضافة إلى تدمير مئات المنازل والمنشآت ومن ضمنها المسجد التاريخي في بيت حانون الذي عمره ثمانمائة عام!.[٢].
وكالعادة لما فشل الاحتلال في كسر إرادة المقاومة لجأ إلى إشعال الفتنة والاحتراب الأهلي واستخدام عملائه في القتال نيابة عنه، ومن ثمّ تم الانقلاب على الشرعية وإقالة حكومة حـماس من قِبل “محمود عباس” وحركة فتح المدعومة أمريكيًّا وعربيًّا وإسرائيليًّا.
مما دفع حماس إلى الانسحاب التام من أي تواجد لها في الضفة والتكتل داخل قطاع غزة وإحكام السيطرة عليه في يونيو سنة ٢٠٠٧م بعد معركة مريرة مع حركة فتح. وهو ما استغلته إسرائيل في ضرب الحصار على القطاع بالكامل بالتعاون مع مصر التي أغلقت معبر رفح تمامًا اللهم إلا السماح بعبور بعض الحالات الحرجة لذر الرماد في العيون. وقد وجد نظام “مبارك” في الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية ذريعة من أجل القضاء على حركة حـمـاس وكسرها تحت وطأة الحصار!.
حيث كان “مبارك” ينظر إلى حماس باعتبارها امتدادًا لـ«جماعة الإخوان المسلمين» التي تمثل الخطر السياسي عليه في مصر والتي فازت بـخُمس مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات البرلمانية سنة ٢٠٠٥م، أثناء الإنفراجة الديمقراطية التي سمح بها “مبارك” بعد كلمة الرئيس الأميركي “جورج بوش” في نوفمبر ٢٠٠٣م: «إن مشكلات العالم العربي تكمن في ديكتاتورية بعض الأنظمة وتقييد الحريات العامة فيه، وإن هذا هو ما يخلق الجماعات المتطرفة والإرهابية».
فلما تهيأ الظرف العالمي ورأت أمريكا أن الديمقراطية تأتي دائما بالتيار الإسـلامي المناوئ لها، تراجعت عن دعمها المزعوم للحرية والديمقراطية، مما دعا “مبارك” إلى توجيه ضربة لجماعة الإخوان باعتقال “خيرت الشاطر” و”حسن مالك” وعشرات غيرهما من قيادات الجماعة في ديسمبر ٢٠٠٦م، وإحالتهم للمحاكمة العسكرية في القضية المعروفة إعلاميا باسم “مليشيات الأزهر” والأمر بتشديد الأحكام عليهم!.
وهو ما انسحب على تعامل مصر مع حماس والجهاد في فلسطين، كما نجد في كلام “عوزي برعام” وزير الداخلية الإسرائيلي الأسبق: «كان مدير المخابرات المصرية “عمر سليمان” يشجعني على ضرورة ضرب حركة حماس، لأنها جزء من جماعة الإخوان المسلمين وعدم السماح لها بالنجاح»!.[٣].
ورغم مرارة التصريح وصعوبة تصديقه فإن الواقع كان أشد إيلاما، حيث قامت السلطات المصرية باعتقال نشطاء المـقاومة وتعذيبهم لإجبارهم على تقديم معلومات حول بنية جـهازها العسـكـري والإدلاء بمعلومات حول أدائها المقاوم ضد الاحتلال، حسب ما جاء في بيان “أيمن طه” المتحدث باسم حركة المقاومة الإسـلامية، في الجزيرة بتاريخ ٢٢ مارس ٢٠٠٨م!.
كما يثبته بما لا يدع مجالا للشك موقف “مبارك” في غلق المعبر في أشد الظروف سوءا أثناء العدوان الإسـرائيلي على غزة في عملية “الرصاص المصبوب” التي بدأت في ٢٧ ديسمبر ٢٠٠٨م واستمرت لمدة ٢٣ يوما، استُشهد فيها ١٤٣٤ فلسطينيا من بينهم ٢٨٨ طفلاً وجُرح ٥٣٠٣ معظمهم من المدنيين العزل ومن بينهم ٨٢٨ امرأة و١٦٠٦ طفلاً، فضلا عن تدمير ٢٤٠٠ منزلًا بشكل كلي وعدد من المؤسسات الخيرية والمستشفيات والمساجد، وتجريف آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية. وارتكاب جريمتي اغتيال سياسي بحق قياديين من حـماس هما الدكتور “نزار ريان” والوزير “سعيد صـيام”.[٤].
وقد وضّح “مبارك” بشكل حاسم في كلمته التي نقلها التلفزيون المصري بتاريخ ٢٠٠٨/١٢/٣٠م، أنه لن يفتح المعبر بسبب الظروف السياسية التي سيطرت فيها حمـاس على القطاع، وإن حـماس -وليس إسـرائيل- هي من تتحمل مسؤولية العدوان.
وقد علّق “سامي أبو زهري” المتحدث باسم حركة حـماس على ذلك قائلا: إن هذه التصريحات توضح أن المعبر مغلق وليس مفتوحًا كما ادعى مسئولون مصريون من قبل، وأن الإغلاق مرتبط بالموقف المصري وليس الإسـرائيلي، وأنه مغلق لدواع سياسية بسبب وقوف القاهرة على مسافات غير متساوية من حـماس وفتح!.[٥]
ولذلك صدر بيان وقع عليه مائة من علماء الأمة ودعاتها يستبشعون جريمة غلق المعبر في وقت المحنة، قائلين: «إن الظلم العظيم الذي لحق بإخواننا المسلمين في غزة بالحصار الخانق بمنع الغذاء والدواء وجميع الإمدادات الضرورية، والذي زاد على السنتين، بفرض من العدوّ اليهودي، وتعاون من بعض الدول العربية بإغلاق معبر رفح. هو تعاون صريح مع العدوّ في قتل إخواننا في غزة، وما كان ليتم هذا الحصار، ولا استنزاف قوة المجاهدين وخنقهم في غزة إلا بإغلاق المعبر والأنفاق. وهو من أعظم الخيانة في الإسلام.
ويدخل في ذلك كل من تعاون على إغلاق المعبر ومنع دخول المساعدات إليهم، ويتحمل كل جندي شارك في ذلك إثم كل قتيل وجريح وإثم هدم المساجد والدور بغزة، ولا حجة لمن قال من الجنود: إنه عبد مأمور؛ لأن العبودية لله وحده، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.[٦].
ورغم هذا البيان الرادع المؤيد بكلام الله تعالى ووعيده مثل: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً .. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً﴾[النساء الآية ١٣٨-١٣٩]، لم يتراجع “مبارك” ولا رجاله بل زادوا خساسة في تضييق الحصار والسعي لتدمير الأنفاق فور انتهاء الحرب التي باء فيها العدو بالفشل في إسقاط حكومة حـماس في غزة.
وذلك بتنفيذ مشروع الجدار الفولاذي الذي تم تصميمه في الولايات المتحدة الأمريكية وأطلقت عليه حماس اسم “جدار الموت”، لأنه سوف يفصل بين سيناء وكامل القطاع على امتداد الحدود بينها البالغة ١٤ كم، وبعمق يصل إلى ١٨ مترا تحت الأرض. والذي يتكون من ألواح من الصلب بعرض ٥٠ سم صنعت خصيصا في الولايات المتحدة من الصلب المعالج الذي تم اختبار تفجيره بالديناميت. ويتم تركيبها متجاورة بطريقة العاشق والمعشوق.
وتم الانتهاء من تنفيذ جزء منه يمتد بطول ٥,٥ كم مع نهاية ديسمبر ٢٠٠٩م، ولم يتم إيقاف المشروع الذي كانت تنفذه شركة المقاولين العرب المصرية بإشراف وتمويل الولايات المتحدة، إلا بعد ثورة يناير المجيدة وقد بلغ طول ما تم تنفيذه بالفعل في باطن الأرض زهاء العشرة كيلومترات.[٧]
ولهذا ليس من المستغرب أن تحتفي جريدة “هآرتس” أكبر الصحف الإسرائيلية في ٢٠١١/٦/٢٦م، -بعد خلع “مبارك “- بذكرى نجاته من محاولة الاغتيال بأديس أبابا فى ٢٦ يونيو ١٩٩٥م، وتنشر على صدر صفحتها الرئيسية صوراً نادرة عنه، ومن أبرزها لقاء “مبارك” مع “أريئيل شارون” فى قصر الرئاسة بعابدين عام ١٩٨٢م، بالإضافة للقائهما للمرة الثانية فى ٢٠٠٥م بشرم الشيخ. وأبرزت الصحيفة القبلة الحارة التى بصمها “مبارك” على وجنتى الرئيس الإسـرائيلى “شيمون بيريز” خلال زيارته للقاهرة فى أكتوبر ٢٠٠٨م. ولا ننسى لقاءه الشهير بوزيرة خارجية العدو “تسيبي ليفني” والتي أعلنت فيه الحرب على غزة من قلب القاهرة في ٢٠٠٨/١٢/٢٥م.
في حين كان يأنف من لقاء قادة المقاومة ويرفضه بشدة. حتى أن “خالد مشـعل” رئيس المكتب السياسي لحماس قال: لقد كان من المحرمات والممنوعات مقابلة الرئيس مبارك.[٨]
وهو ما أدركته المقاومة جيدا بعيدا عن كلمات المجاملة والعبارات الجوفاء، فاستغلت زوال حكمه بعد ثورة يناير ٢٠١١م وعقدت صفقتها العزيزة في نهاية العام، بتسليم الجندي شاليط مقابل إطلاق سراح ١٠٢٧ من الأسرى المعتقلين والمحكوم عليهم في سجون الاحتلال وكان منهم القائد الفذ الذي تفخر الأمة به الآن “يحيي السنوار”.
وجدير بالذكر هنا معرفة أن المرة الأولى والأخيرة التي بات التواصل فيها بين مصر وفصائل المقاومة على مستوى القيادة السياسية كانت في عهد الرئيس “محمد مرسي” الذي التقى “خالد مشـعل”، و”إسمـاعيل هنـية” رئيس حكومة غزة، و”رمضان شـلّح” أمين عام حركة الجـهاد الإسـلامي في تطور غير مسبوق شهدته العلاقة بين الأشقاء!.
وبعد .. فهذا هو نهاية الجزء الأول من المقال عن بعض ما يعانيه قطاع غزة المقاوم ومأساته الكبرى بالوقوع بين شقي الرحى، فلا هو يأمن جهل العدوّ ولا هو يسلم من خيانة الشقيق. وما كاد يتنسم طوق النجاة وتباشير الأمل عقب ثورة يناير، حتى انقلب الحلم إلى كابوس بعد انقلاب يونيو ٢٠١٣م، وتولِّي قائده مقاليد الحكم في مصر.
لتبدأ فترة جديدة من المعاناة والحصار أشد ظلمة وكآبة وهو ما سوف نتناوله في الجزء الثاني من المقال، وإن كان يمكن تلخيصه بقول الجنرال “آفي بنياهو” الناطق الأسبق بلسان الجيش الإسرائيلي: «السيسي هو الهدية التي منحها الشعب المصري لإسـرائيل، ويتوجب على نتنياهو إدراك الطاقة الكامنة في التعاون معه واستغلالها إلى أبعد حد. فإن السيسي يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد الإسلاميين لدرجة أن قادة حـماس باتوا يشتاقون لنظام “مبارك” ورجاله..».[٩]..
في النهاية لا يظن أحد أن المقال يدعو لليأس والقنوط وتسويد الصورة، ولكنه يجسد حجم المعاناة لنتعرف من خلالها على عظم وقيمة المعجزة التي صنعتها ولا تزال تصنعها المقاومة، ومدى الجهد والعطاء والتضحيات التي جعلتها تنتصر على هذه الظروف الكالحة.
كتبه الفقير إلى عفو الله / أحمد الشريف
٢ جمادى الأولى ١٤٤٥هـ / ١٦ نوفمبر ٢٠٢٣م
#معركة_الوعي_أم_المعارك
هوامش المقال:
[١] مقال مشكلة حـماس، فهمي هويدي، ٣ فبراير ٢٠٠٩م، موقع الجزيرة الإخباري.
[٢] تقرير إخباري تحت عنوان “أبرز أحداث عام ٢٠٠٦م فلسطينيا”، الجزيرة، ٢٠٠٦/١٢/٢٩م.
[٣] العلاقات المصرية الإسـرائيلية، د/صالح النعامي، صـ٢٩.
[٤] الجرائم الإسرائيلية خلال العدوان على قطاع غزة، دراسة قانونية، د/عبد الرحمن محمد علي، صـ٧، مركز الزيتونة، بيروت
[٥] مبارك يرفض فتح المعبر ويحمل حماس مسؤولية العدوان، تقرير الجزيرة بتاريخ ٢٠٠٨/١٢/٣١م..
[٦] بيان لمائة من العلماء والدعاة منهم “علي القره داغي” و”محمد الحسن ولد الددو” وعبد الله التويجري وغيرهم بتاريخ ٢٠٠٩/١/١٤م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق