طوفان الأقصى.. الناجُون والغَرقَى
الطوفان فيضان كبير يعُم كلَّ شيء، فلا يُبقي ولا يذر، إلا ما شاء الله له أن يبقَى..
بهذا المعنى، فإن طوفان الأقصى قد عم أرجاء الأرض الأربعة بلا مبالغة، فتعاطى معه أهل الأرض جميعا، إلا أولئك المعزولون عن العالم جغرافيا أو حِسيا ووجدانيا..
لم يكن طوفانا بالمعنى المادي للكلمة، وإنما كان طوفانا معنويا، عمَّ النظريات، والأطروحات، والتصورات، والقناعات، والسرديات..
ولأنه طوفان معنوي، فليس كل من نجا نجا، وليس كل من غرق غرق!
غرق أولئك الذين اعتصموا بنظريات الرياضيات وقوانينها التي لا مكان لها في عالم المعاني المجردة.. أما أولئك الذين اعتصموا بالمنطق العَقدي أو القِيَمي فقد نجوا..
ستجد بين الناجين أناسا لم ينالوا إلا حظا يسيرا من التعليم، ولكنهم أوتوا حظا عظيما من القيم ببعدها الديني أو الإنساني، أو كليهما.. وستجد بين الغرقى كُثر (في كل بلد) يشار إليهم بالبنان، ويتصدرون المجالس والندوات، وتحتل أسماؤهم وصورهم واجهات المواقع والصحف!
نظام مشغول بأمن الكيان، ولا يشغل نفسه (للحظة) بستين مليون مصري تحت خط الفقر، لم يعودوا قادرين على توفير أبسط احتياجاتهم، ولو من الأغذية الفاسدة والمسرطنة؛ بسبب الانهيار المريع وغير المسبوق للجنيه أمام الدولار.. (الدولار يساوي 61 جنيها في السوق السوداء حاليا)!
نظامٌ قصف الكيان الصهيوني حدودَه خمس مرات، ولم يرد، رغم حيازته أسلحة متطورة ومتنوعة، اشتراها بالمليارات من قوت شعبه "الفقير أوي"!
نظامٌ انتدب نفسه للعمل "بوابا" لدى الاحتلال الصهيوني على معبر رفح، فلم يسمح بدخول ما يقيم أود أهل قطاع غزة المحاصرين، طوال ثمانية وأربعين يوما، حتى أنه منع الغزيين العالقين من العودة إلى ديارهم المهدمة إلا بعد سريان الهدنة المؤقتة! ثم نسمع من رأس النظام كلاما كثيرا عن السيادة الوطنية!
نظامٌ يعلن عدم ممانعته لتهجير أهالي غزة إلى صحراء النقب؛ حتى ينتهي الاحتلال الصهيوني من إبادة حماس والمقاومة، ثم إعادتهم إلى غزة إن شاء!
نظامٌ يقترح قيام "دولة فلسطينية منزوعة السلاح" إلى جانب "دولة إسرائيل النووية" التي لم يُعرف عنها أنها التزمت (يوما) بميثاق أو قانون أو قرار..
نظامٌ ينظم بالمساعدات التي جُمعت لأهل غزة "طابور عرض" في ملعب كرة، في إطار "حملة انتخابية" لمنقلب مستبد ليس بحاجة إليها من الأساس.. فمن يصل إلى كرسي السلطة بصندوق الذخيرة، لا ينزل عنه بصندوق الانتخابات!
نظامٌ استمد وجوده من استعداده غير المشروط لإنجاز "صفقة القرن"، فشرع بُعيد الانقلاب على الرئيس المدني المنتخب بتسوية رفح المصرية وما حولها بالأرض، وتهجير الأهالي قسريا؛ ليقيم معسكر اعتقال لأهل غزة الفارين من الإبادة الجماعية المزمع ارتكابها، حسب الخطة، غير أن المقاومة كانت أسبق، فشنت عملية طوفان الأقصى التي أفشلت هذه الخطة، وعطلت كل شيء، وما كانت هذه الخطة لتفشل (في الواقع) لولا الصمود المذهل لأهل غزة الذين مسحوا كلمتي "التهجير" و"النكبة الثانية" من قاموسهم..
لقد غرق هذا النظام رغم اعتقاده بأنه قام بكل ما ينجيه من الغرق!
كل واحد من هؤلاء عزف "التيمة" نفسها على الآلة التي يجيد العزف عليها، وبالطريقة التي يعتقد أنها تثير الانتباه، وتفرز هرمون "الإقناع"!
أما التيمة فهي: هل خمسة عشر ألف شهيد بينهم عشرة آلاف طفل وامرأة، 36 ألف جريح بينهم 28 ألف طفل وامرأة، وتدمير ربع مليون وحدة سكنية، ونزوح أكثر مليون شخص إلى الجنوب، هل كل هذه "الخسائر" ثمن مناسب لتحرير عشرة آلاف أسير من سجون "إسرائيل"؟
في الحقيقية هذه مغالطة في صيغة سؤال، وقفز (متعمد) إلى نتائج الحرب التي لم تنته بعد؛ بهدف زعزعة ثقة الناس بالمقاومة، والتشكيك في جدوى ما تقوم به، ثم تأليب الرأي العام عليها في النهاية!
صحيح أن تحرير الأسرى هدف رئيس من أهداف معركة طوفان الأقصى، ولكنه ليس الهدف الوحيد، بكل تأكيد.. فقد كان واضحا من الساعة الأولى أن هناك أهدافا أخرى من وراء هذا الهجوم الواسع ثلاثي الأبعاد.. أهداف تتعلق بتغيير نمط الحياة في سجن مفتوح اسمه "قطاع غزة"، وفك الحصار عنه، وأهداف تتعلق بماهية الكيان الصهيوني الغاصب نفسه، والجدوى من وجوده.. إنه من المبكر جدا الحديث عن النتائج، والحرب لم تضع أوزارها بعد، وإن تم الذهاب إلى مفاوضات مع عدو مراوغ جريح مهزوم مأزوم لن تكون سهلة، بطبيعة الحال..
كيان طالما سوَّق نفسه على أنه نموذج متمدن، في محيط من الهمج.. من يهاجر إليه يتمتع بأمن وأمان قل نظيرهما.. قوة لا تقهر.. مركز متقدم للغرب في الشرق الأوسط يستحق الدعم والمساندة بلا حدود.. إلخ.. كل ذلك تبخر لدى قطاع لا يستهان به من السياسيين، والمهتمين بالصراع الفلسطيني الصهيوني حول العالم، وكم كنت أود أن أقول الصراع العربي الصهيوني، غير أن أداء الأنظمة العربية المخزي لا يسمح لي بذلك..
إن الشخص الذي يحوِّل التضحيات إلى أرقام، ومكاسب وخسائر مادية، في المواجهات أو المعارك المصيرية التي تتعلق بالعقيدة، والشرف، والحقوق التي منحها الله له كونه إنسانا، هو (في الحقيقة) شخص منزوع الكرامة، حتى غيرة الحيوان على نفسه وقطيعه لا وجود لها عنده..
هذا الصنف من الناس هم أشد الناس كرها للحق وأهله، وهم أشد من أعدائنا علينا.. يجب ألا نسمع لهؤلاء الفاسدين المفسدين، وعلينا أن نَحذَر ونُحذِّر منهم، مهما كان علو مكانتهم الاجتماعية، أو فخامة مناصبهم السياسية، أو حضورهم الإعلامي..
لقد غرق هؤلاء حيث ظنوا أنهم الأغزر علما، والأعلى كعبا، والأكثر ذكاءً!
فالمقاومة تدافع عن المقدسات، والأعراض، والأرض.. والإنسان السوي قد أغضبه وأثار حنقه هذا العدوان الصهيوني الغاشم غير المبرر على الأطفال والنساء.. فكلما تكبد الصهاينة خسائر في الميدان، سارعوا بقصف مربعات سكنية بأكملها على رؤوس ساكنيها من المدنيين العُزّل، وجُلهم من النساء والأطفال والشيوخ، حتى أحدثوا هذا الدمار الهائل وغير المسبوق، في قطعة محدودة من الأرض.. كما أغضبه خضوعه المبكر لعملية "غسيل دماغ" من جانب حكومته وإعلامه ومثقفيه اللذين لقَّنوه معلومات مضللة عن الإسلام والمسلمين، وحق اليهود المتصهينين "التاريخي" في أرض فلسطين.. إلى آخر تلك الأكاذيب!
فالحمد لله أن جعلنا من الناجين، بأن من علينا بالفهم الصحيح للإسلام، والوقوف في جانب الحق، ولا عزاء للغرقى الذين غرقوا بمحض إرادتهم، أو تحت تأثير "المستمسكات" التي بحوزة أجهزة المخابرات..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق