الأحد، 10 ديسمبر 2023

وقف العدوان دون مناشدة العالم

 وقف العدوان دون مناشدة العالم

أكثر ما تفعله الدول العربية هو مناشدة العالم للضغط على دولة الاحتلال لوقف العدوان الهمجي على قطاع غزة.

اختار العرب منذ البداية أن يكونوا طرفًا محايدًا في المعركة وفي الصراع فاستمرت حرب الإبادة، فشلوا بضعفهم في أن يكونوا مقنعين لعالم تتواطأ قياداته السياسية الغربية ضد الشعب الفلسطيني وقضيته بشكل واضح. أنظمة غربية متواطئة تمد العدوان بكل أسباب استمراره من مال وسلاح وغطاء سياسي وتضليل للرأي العام العالمي، وتتورط بإرادتها في ترديد أكاذيب المحتل ورواياته التي تزيف الحقيقة.

فهل يستطيع العرب إجبار المحتل وحلفائه على وقف العدوان؟

الإجابة بكل تأكيد: نعم.

لدى العرب القدرة على اتخاذ الخطوات والمواقف التي تنهي حرب الإبادة، ولكن ليس لديهم الإرادة، هذه حقيقة مؤكدة.

البترول العربي:

في سلاح البترول العربي، والخليجي بالذات، ورقة تأثير كبرى يمكن الضغط بها على دولة الاحتلال والإدارات الغربية الشريكة في العدوان، فلو امتلك العرب إرادتهم واستخدموه بشكل جاد وفعال، سيكون بإمكانهم تغيير مواقف الكثير من الدول الغربية، وربما كانت البداية هي مجرد التلويح باستخدام سلاح البترول الثقيل إذا استمرت حرب الإبادة، وإذا تواصل انفلات المحتل من كل قيد أخلاقي أو قانوني، وإذا تواصل قتل المدنيين واستمر الحصار ورفض إدخال الوقود والغذاء والدواء وغيرها من صور المساعدات التي تضمن الحياة لشعب محاصر.

في كيفية استخدام سلاح النفط بإمكان العرب اختيار الطريقة الأنسب، والأكثر تأثيرًا، بحسابات سياسية واقتصادية دقيقة، تبدأ بمجرد التلويح بوقف البترول عن الدول التي تدعم العدوان وتمنحه غطاء سياسيًا أو سلاحًا وأموالًا ليواصل إجرامه، وتستمر بالتلويح بتخفيض إنتاج بترول الدول العربية لا سيما من المملكة العربية السعودية والعراق والإمارات والكويت، وهي الدول العربية الأكثر إنتاجاً للبترول، ثم ينتقل “التلويح” إلى مرحلة أكثر حسمًا بقطع البترول بالفعل عن الدول الأكثر انحيازًا ودعمًا للعدوان، والتهديد بقطعه عن دول أخرى منحازة لجرائم الاحتلال، وهكذا في منحى تصعيدي يجعل من البترول سلاحًا مؤثرًا ومخيفًا، يجبر كثيرًا من الأطراف الدولية على إعادة حساباتها من العدوان.

ولعل المفارقة أن العدوان الصهيوني على غزة 2023 يوافق مرور خمسين عامًا على استخدام العرب لسلاح البترول في حرب السادس من أكتوبر عام 1973، وهو السلاح الذي أثر بدرجة معتبرة في سير المعركة، وفي مواقف الدول الكبرى التي صُدمت بقطع البترول عن الدول الداعمة “لإسرائيل”.

مراجعة اتفاقيات السلام:

في اختيار السلاح الذي يمكن للعرب استخدامه في للتأثير على دولة الاحتلال وحلفائها هناك بدائل مختلفة، فالأسلحة لا تتوقف عند البترول، فهناك بدائل سياسية قد تكون أقل حدة من سلاح البترول لكنها لن تقل في التأثير العام، سيتوقف عندها العالم بالبحث والقلق ومراجعة الاختيارات، ولعل التهديد بقطع العلاقات بشكل كامل مع الكيان الإسرائيلي ومراجعة اتفاقيات السلام معه هو أحد أهم أسلحة العرب في الضغط والتأثير، مصر والأردن والإمارات والمغرب والسودان وغيرها من الدول العربية يمتلكون هذا السلاح القوي، ويستطيعون التلويح باستخدامه قبل أن يبدأ التنفيذ.

ولعل المتابع لتطور الصراع العربي الصهيوني يدرك أن الأمر ليس مجرد قطع للعلاقات ومراجعة لاتفاقيات التسوية السياسية، بل هو هدم كامل لعقود من العمل الأمريكي “الإسرائيلي” في المنطقة، وتهديد بسحق كل ما حققته دول الاحتلال من نفوذ في هذه المنطقة من العالم في نحو خمسة عقود منذ اتفاقيات السلام مع مصر عام 1979 مرورًا بما حققته من علاقات سياسية واقتصادية مع العديد من الدول العربية، وهي خطوة لا يمكن إلا أن تكون ضربة مباشرة لأحلام أمريكا وإسرائيل في دمج كامل لدولة الاحتلال في المنطقة، والحصول على التطبيع الكامل والتعاون الاقتصادي المستمر والمستدام مع الدول العربية. كل هذه الأحلام والمشروعات ستهددها خطوة قطع العلاقات ومراجعة اتفاقيات السلام من جانب واحد، وستجبر الاحتلال وشركائه على التفكير في جدوى استمرار حرب الإباده، ومقارنة ما سيحققه بالحرب بما يمكن أن يخسره إذا تضررت علاقاته مع الدول العربية، تلك العلاقات التي استمرت عشرات السنين حتى استطاعت “إسرائيل” أن تنجزها، بل إن قادة الكيان المحتل يفتخرون بأنهم استطاعوا تحقيق قدر من العلاقات الرسمية مع عدد من الدول العربية كانت مجرد أحلام غير قابلة للتحقيق منذ عشرين عامًا.

باختصار فإن خطوة قطع العلاقات ومراجعة الاتفاقيات ستجبر الاحتلال على التفكير ألف مرة في الخسائر المؤلمة التي سيتعرض لها إذا واصل عدوانه، وأن ما بناه في الماضي وما يخطط له في المستقبل سيصبح مهددًا بالفشل، وهو ثمن أظنه فوق قدرته واحتماله، ولن تقبله الدول الغربية تحت أي ظرف خاصة الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الأكبر والأهم لحرب الإبادة منذ اللحظة الأولى.

كسر الحصار وإدخال المساعدات:

في القمة العربية الإسلامية التي عُقدت في الرياض خلال نوفمبر الماضي، خرجت القرارات كلها روتينية اللهم إلا قرار واحد يمكن البناء عليه في الطريق لوقف العدوان، اتفق المجتمعون وقتها على كسر الحصار على غزة وإدخال المساعدات، لو التزمت الدول العربية والإسلامية التي حضرت قمة الرياض بهذا البند واتخذت من الإجراءات ما يشير إلى جديتهم في تنفيذه سيتوقف العدوان، على أن شكل التنفيذ سيكون هو الأهم، فالمطلوب هو توجيه رسالة واضحة من دول قمة الرياض إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، مفادها أن تلك الدول قررت كسر الحصار وسياسة العقاب الجماعي غير القانونية، وحددت يومًا لإدخال كل المساعدات المطلوبة لأهالي غزة من غذاء ودواء ووقود وغيرها، وهي في خطوتها هذه تتمسك بالقانون الدولي الإنساني الذي يرفض جريمة العقاب الجماعي ضد المدنيين، ثم تشرع هذه الدول في إرسال وفود رسمية من حكوماتها تحمل المساعدات لأهالي غزة لإدخالها عبر معبر رفح، وتدعو الشعوب الحرة في كل مكان بالعالم لدعم خطوتها ليكون الرأي العام العالمي هو الغطاء السياسي الذي تصنعه هذه الحكومات لخطوتهم المهمة.

هذه خطوة تبدو تصعيدية، لكنها تبقى خطوة سياسية في الأساس، لا تخالف القانون الدولي، ولا تسعى لصدام عسكري، لكنها في نفس الوقت تطرح الدول العربية والإسلامية كطرف فاعل ومؤثر في معادلة حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال، وتعلن بشكل عملي رفضها لاستمرار الحصار والعدوان.

مظاهرات بالملايين في شوارع الدول العربية:

للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مصالح كثيرة ومتعددة في المنطقة العربية، سياسية واقتصادية وأمنية، ولا يخشى الغرب من تهديد تلك المصالح إلا بتحرك الشعوب وغضبها على سياساتهم ومواقفهم.

منذ اللحظة الأولى للعدوان، وحتى الآن، كان غضب الشعوب العربية واضحًا بشكل جلي، ولسنا في احتياج ما يؤكد هذا المعنى، فبمجرد النظر إلى مظاهرات الشعوب في الأيام الأولى للعدوان، والمناقشات والكتابات التي تفيض بها صفحات التواصل الاجتماعي سنكتشف ببساطة مساحة الغضب الواسعة التي تنتاب الشارع العربي بسبب العدوان المجرم، ولعل أفدح الأخطاء السياسية التي ارتكبتها الأنظمة العربية كانت إبعاد الشعوب عن معادلة الصراع والحرب، وحصار حركتها ومنعها من التعبير عن موقفها بشكل سلمي عبر مظاهرات مستمرة وضاغطة تقلق الغرب وتهدد مصالحه، فقد اختارت هذه الأنظمة بخطوتها تلك أن تخصم من رصيد قوة دولهم واحدة من أهم أدوات الضغط والتأثير.

ومع ذلك فإن الأمر لا يزال ممكنًا، فلو استطاعت الدول العربية تحديد يوم واحد للتظاهر الشعبي السلمي في الوطن العربي بأكمله ضد العدوان ربما يحدث التأثير المطلوب، فتحرك عشرات الملايين في شوارع وميادين الدول العربية يرفعون الأعلام الفلسطينية ويهتفون ضد دولة الاحتلال وشركاء العدوان ربما يغير كثيرًا في المشهد السياسي، وفي الرأي العام الدولي، وربما يشجع هذا التحرك الشعوب الحرة في العالم أجمع على المشاركة بالتظاهر والهتاف لفلسطين في نفس اليوم بما يوحد حركة الشعوب في العالم ضد “إسرائيل” وشركائها، وبما يضغط على القادة الغربيين لتغيير مواقفهم الحمقاء المنحازة للكيان المحتل.

إذا أراد الحكام العرب وقف العدوان فعلًا فإنهم سيجدون من البدائل ما يتيح لهم الضغط والتأثير، وكل ما سبق مجرد أدوات وهناك غيرها الكثير، لكن عليهم فقط أن يؤمنوا أولًا أنهم طرف في الحرب وليسوا مجرد وسيط محايد، ثم عليهم ثانيًا أن يمتلكوا من الإرادة ما يجعلهم مؤثرين وفاعلين في لحظة تاريخية دقيقة وغير مسبوقة، سيكون لها ما بعدها على المنطقة كلها بكل تأكيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق