الصحفي الفلسطيني يكسب معركة العقول والقلوب
الدور الذي يقوم به الصحفيون الفلسطينيون في تغطية العدوان على غزة يستحق التحية، فما قاموا به من عمل مهني استشهادي في نقل الحقيقة للعالم جهد أسطوري لا يقل بطولة عن جهاد المقاتلين الذين يتصدون لآلة الحرب الصهيونية، ولولا وجودهم وعملهم في ظروف خطرة، يحيط بهم الموت من كل مكان ما عرف أحد بالمجازر التي تجري، ولكانت الإبادة قد تمت في السر كغيرها من الإبادات التاريخية.
بسبب تأثير الصورة والرسائل ولقطات الفيديو التي يتم بثها في كل أنحاء العالم تم استهداف الصحفيين بالقتل والاغتيال وقصف عائلات بعضهم مثل وائل الدحدوح وأنس الشريف مراسلا قناة الجزيرة، وتهديد الكثير منهم لدفعهم إلى النزوح جنوبا، في محاولة يائسة لمنع توثيق جرائم الحرب التي يقوم بها جيش الاحتلال، وفرض التعتيم على القصف الجبان للمدن والأحياء السكنية، ولمنع تصوير الأطفال والنساء الذين يستشهدون يوميا.
اتخاذ الاحتلال الصحفيين هدفا يؤكد حجم الغل الذي يكنه الإسرائيليون لشهود الحقيقة، ويعكس حالة الجنون التي أصابت قادة الكيان الصهيوني؛ فالصحفي الفلسطيني استطاع بامكانيات بسيطة هزيمة الإعلام الدولي ونقل وقائع العدوان لحظة بلحظة إلى كل أنحاء الكرة الأرضية، عبر قناة الجزيرة وقليل من الفضائيات الأخرى، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي سحبت الجمهور من الإعلام التقليدي.
استهداف الصحفيين بالقتل
حسب لجنة حماية الصحفيين قتل الجيش الإسرائيلي 46 صحفيا فلسطينيًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحتى الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، وفي تقرير لنقابة الصحفيين الفلسطينيين فإن الاحتلال ارتكب 160 جريمة بحق الصحفيين في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، منها استشهاد 16 من الصحفيين العاملين في المؤسسات الإعلامية المختلفة بقطاع غزة، واعتقال 10 صحفيين.
وأكد تقرير نقابة الصحفيين الفلسطينيين رصد 30 حالة قصف واقتحام لمكاتب ومؤسسات ومنازل الصحفيين بقطاع غزة وفي الضفة الغربية، وتم توثيق 43 حالة احتجاز طواقم ومُنع أغلبها من التغطية في الضفة الغربية، وسجل التقرير في الأيام العشر الاولى من شهر ديسمبر 12 إصابة في صفوف الصحفيين، إضافة لرصد نحو 11 حالة من التهديد بقتل الصحفيين من جهات إسرائيلية.
نجحت الصهيونية العالمية في السيطرة على وسائل الإعلام الدولية لتقديم صورة موحدة تخدم “إسرائيل” والموقف الغربي الرسمي الداعم لها، لكن الصحفيين الفلسطينيين استطاعوا كسر الاحتكار الإعلامي، وأوصلوا صوت غزة إلى كل العالم، وأفسدوا المكر المعادي الذي يزيف الحقائق، ويمجد المعتدي ويشيطن المظلوم كما اعتادوا في كل الصراعات.
الصحفي الفسطيني نموذج للجرأة والبسالة
في الحروب السابقة اعتاد جمهور المشاهدين متابعة وسائل الإعلام الكبرى ومشاهدة المراسلين الحربيين مع الجيش الأقوى الذي يملك الدبابات والطائرات لنقل مشاهد الانتصار، فلا يخاطر الصحفيون الغربيون بالتواجد مع الطرف الأضعف خوفا من الموت، لكن في العدوان على غزة انقلبت هذه الصورة حيث نجح الصحفي الفلسطيني الشجاع في تقديم صورة غير مألوفة في العصر الحديث، فهو يتحرك بين جثامين الضحايا وتحت القصف ووسط المباني المدمرة لينقل صور الفظائع والجرائم البشعة، التي وقف الضمير العالمي أمامها في حالة صدمة.
ينسب لقناة الجزيرة الفضل في تغطية الحروب من الجانب الآخر الأضعف، الذي يتجاهله ديناصورات الإعلام الدولي، ففي عام 2001 عندما ظهر المراسل الشهير للقناة تيسير علوني لتغطية الغزو الأمريكي لأفغانستان كمراسل حربي أجنبي وحيد في بلد يتعرض للعدوان كان عملا استثنائيا جسورا، حاذ يومها الإعجاب وأصبح نجما يتابعه قادة وشعوب العالم، حتى أن جورج بوش كان لا يتابع المحطات الأمريكية وينتظر يوميا رسائل علوني.
بعد حرب أفغانستان تغيرت تغطية الإعلام الحربي وأصبح الجمهور يتابع الصور القادمة من الجانب الأضعف عسكريا، فرأينا المراسلين في غزو العراق 2003 يغطون من بغداد وينقلون المشاهد الحية من المعركة، وها نحن نرى اليوم في غزة نموذجا أكثر بسالة وجرأة حيث المعركة ليست مجرد حرب عسكرية تقليدية وإنما إبادة ورغبة في قتل كل حي يتحرك، وهنا تبرز أسطورة الصحفي المقاتل.
الصحفي الفلسطيني وكسب معركة العقول والقلوب
نجح الصحفيون الفلسطينيون في إحداث تحولات كبرى في الرأي العام الدولي، فبسبب بث الصور والمشاهد من مكان الحدث ولحظة وقوعه فشلت الرواية الإسرائيلية في إثبات صدقها، ولم ينجح كبار القادة في أمريكا وأوربا الداعمين للعدوان الإسرائيلي في توجيه الرأي العام لإدانة حماس وتبرير الهجوم على غزة، وظهر هذا التحول في اتجاهات الرأي العام في التظاهرات المليونية في العواصم الغربية، الرافضة للإبادة والمطالبة بالوقف الفوري للحرب.
تجاهلت الشعوب المحطات التلفزيونية التي تغطي من الجانب الإسرائيلي، وأقبلوا على الجزيرة ومواقع التواصل التي أصبحت هي المصدر الموثوق الذي تتابع من خلاله مجريات الحرب، وبسبب ما يقدمه الصحفيون الفلسطينيون تحولت قطاعات من الشعوب والنخب غير العربية وغير المسلمة إلى مؤيدين للحق الفلسطيني، وشاركوا في إعادة بث الصور والمشاهد إلى دوائر أوسع، فأحدثوا حالة غير مسبوقة من كراهية الصهيونية ستظهر آثارها الهائلة فيما بعد.
لقد أثبت الجهد الإعلامي الفلسطيني أنه عنصر رئيسي مكمل للصمود الفلسطيني وداعم للقضية، لا يقل دوره عن المقاومة العسكرية البطولية التي كسرت الغطرسة الإسرائيلية وأعادت تقديم صورة ناصعة للنضال الفلسطيني، وكشف حجم المعاناة التي يعيشها الشعب تحت احتلال غاشم يعيش على سفك الدماء وتخريب العمران ويعادي الحياة.
في غزة انتصر الصحفيون الفلسطينيون على الإعلام الصهيوني الدولي، وكما نجح الصمود الشعبي والعسكري في هزيمة الاسرائيليين وتعريتهم في غزة فإن الصحفي الفلسطيني نجح في كسب معركة السيطرة على العقول والقلوب في قارات العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق