مصطلح الإسلام السياسي: الحقيقة والتلبيس وتأسيس برنارد لويس (3)
يستمر برنارد لويس في إبراز التمييز بين طبيعتي الدين المسيحي والدين الإسلامي "فالفصل بين الكنيسة والدولة، وهو الأمر العميق الجذور في الديانة المسيحية، لم يكن له أي وجود في الإسلام، مع الإشارة إلى أن اللغة العربية التقليدية، واللغات الأخرى التي تشتق منها مفرداتها الفكرية والسياسية من العربية، كانت تفتقر إلى كلمات مثنوية مطابقة للروحي والزمني، وللكهنوتي والعلماني والديني والدنيوي. والجدير بالذكر أن الكلمات الجديدة التي تعبر عن الفكرة الدنيوية ما وجدت سبيلها إلى الوجود، في التركية أولا، ومن ثم في العربية، إلا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتأثرا بالأفكار والمؤسسات الغربية أيضا، وحتى في المصطلحات الحديثة، ليس هناك مرادف إسلامي لكلمة الكنيسة، بما تعنيه من "هيئة كهنوتية". وما مختلف الكلمات التي تعبر عن المسجد الجامع، إلا ما يدل على ذلك البناء الذي يكون مكانا للعبادة وحسب، دون أي تجريد،أو أية سلطة، أو أية مؤسسة" (لويس، لغة الإسلام السياسي، ص13-14).
وعن مجتمع الخلافة الراشدة بالخصوص يقول لويس: كانت الحقيقة الدينية والسلطة السياسية في تجربة المسلمين الأوائل -كما درست ونقلت إلى الأجيال اللاحقة- وحدة لا تنفصم، تضفي أولاهما على أخراهما قدسية، وتحافظ أخراهما على أولاهما
وقال:" تعتبر العلمانية بالدلالة الحديثة – أي فكرة اختلاف الدين عن السلطة السياسية، والكنيسة عن الدولة، والقول بأنه من الممكن أو من الواجب الفصل بينهما- فكرة مسيحية" (لويس، أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين، ص 143)، وإن تعمقنا في دراسة مصطلح العلمانية يقود إلى اكتشاف أن أصوله قائمة في تعاليم المسيح – عليه السلام-، وكذا كل تطوراته اللاحقة، إنما تشكلت في تاريخ العالم المسيحي بعد ذلك، وأحداث الاضطهاد الكنسي، في عهوده الأولى، وما ارتكبته الكنيسة بعد ذلك قد أقنعت كثيرا من المسيحيين أن الانفصال بين الكنيسة والسياسة ضروري (لويس، أين الخطأ؟، 144).
وقال لويس أيضا: "المسجد كنيسة المسلمين حقا، بمعنى أنه مكان عبادة جماعية، ولكن ليس بوسع المرء الكلام على "المسجد"، كما يتكلم على "الكنيسة"، كمؤسسة ذات هرمية وقوانين خاصة بها، في مقابل الدولة" (لويس، أزمة الإسلام، ص 47).
ومن ثم فلا موقع -وفقا للويس- للعلمانية في الفكر والتطبيق الإسلاميين، على عكس المسيحية، حيث تم التأكيد مرارا، على أنه يوجد لدى هذه الأخيرة انفصال عن المرجعية الدينية، وتوجد مصطلحات لديها مثل "Lay"، وتعني غير إكليريكي، أو "Temporal"، أي دنيوي، أو "Secular"، أي علماني، وهذا أمر غريب على الفكر والتطبيق الإسلاميين. ومن الجدير بالإشارة أنه لم تكن ثمة نظائر لهذه المصطلحات في اللغة العربية، حتى وقت قريب نسبياً، لكنه تم استعارتها لاحقا من المسيحيين الناطقين بالعربية، أو ابتكرت حديثا (لويس، أزمة الإسلام، ص 48).
وعن مجتمع الخلافة الراشدة بالخصوص يقول لويس: "كانت الحقيقة الدينية والسلطة السياسية في تجربة المسلمين الأوائل -كما درست ونقلت إلى الأجيال اللاحقة- وحدة لا تنفصم، تضفي أولاهما على أخراهما قدسية، وتحافظ أخراهما على أولاهما" (لويس، أزمة الإسلام، ص 46).
وأما مصطلح "رجال الدين"، ذلك الشائع في الأدبيات المسيحية، بما لا مزيد عليه، وإن كان من المؤسف أن المصطلح قد انتقل إلى المجتمع الإسلامي فبات البعض يتداوله -بدون تدقيق- علما على اشتغال المتخصصين في علوم الشريعة في الإسلام، لكننا نرى برنارد لويس يعيد الأمور إلى طبيعتها، فيؤكد أن علماء الدِّين قد يوصفون بأنهم "أكليروس" وفق ما يتم تداوله في علم الاجتماع (الغربي)، وكأنهم رجال دين محترفون بعد تأهيلهم، لكن لويس يعود ليقرر أن "لا كهنوت في الإسلام، لا وساطة كهنوتية، بين الله والمؤمن، لا ترسيم للكهنة، لا أسرار مقدسة، لا طقوس، لأي مكان أن يؤديها إلا كاهن مرسم" ( لويس، أزمة الإسلام، ص 47).
أخيرا: حق لك أن تتساءل الآن مرة أخرى: إذا كان من صك المصطلح لأول مرة في هذا السياق؛ هو برنارد لويس، مع كونه على ذلك المستوى من الكيد للإسلام، وهو في الوقت ذاته لا يشايع فكرة فصل الإسلام عن السياسة -كما رأينا، وكما يفعل أغلب مروجي هذا المصطلح في بيئتنا- بل ولا يقبل حتى بمصطلح "رجال الدين" أن يوصف به علماء الشريعة في الإسلام؛ فكيف لنا أن نستوعب مسوغ ذلك السبق لصك المصطلح ومراميه؟
كون برنارد لويس أول من صك المصطلح، وأنه بذلك المكر والدهاء، مع كونه بهذا الإنصاف الظاهري والموضوعية اللافتة؛ أمر لا يتعارض أبدا، مع كونه يسعى -في الوقت ذاته- إلى البحث عن الكيفية التي يتم بها احتواء ما يعده خطر داهما طبيعيا في الإسلام "التقليدي" ذاته، بحيث يتهدد المشروع الاستعماري الغربي
وهنا أعود بك -قارئي العزيز- لأذكرك أن كون برنارد لويس أول من صك المصطلح، وأنه بذلك المكر والدهاء، مع كونه بهذا الإنصاف الظاهري والموضوعية اللافتة؛ أمر لا يتعارض أبدا، مع كونه يسعى -في الوقت ذاته- إلى البحث عن الكيفية التي يتم بها احتواء ما يعده خطر داهما طبيعيا في الإسلام "التقليدي" ذاته، بحيث يتهدد المشروع الاستعماري الغربي، ذلك أن لويس -بوصفه باحثا متعمقا في دراسة تاريخ الإسلام- يدرك أن التهويش بمثل تلك التلفيقات "المكشوفة التي يروج لها بعض الباحثين الغربيين، وحتى بعض العرب والمسلمين، من كون الإسلام مجرد رسالة روحية، وأن جانب الشمول فيه وبخاصة في المجال السياسي؛ أمر طارئ عليه، من قبل جماعة تبحث عن السلطة باسم الدين؛ حديث يتناقض مع أبجديات الفكر الإسلامي وأولياته، ومن ثم اتجه إلى الإقرار ابتداء بأن الإسلام ذا اللغة السياسية هذا، هو الإسلام ذاته، الذي لا يعرف المسلمون سواه، عبر تاريخهم الطويل، إذ لا ينفصل الجزء السياسي منه عن بقية الأجزاء، وعن طبيعة الإسلام الأصلية وتكوينه وفلسفته وأهدافه، منذ جاء به النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الإسلام الذي يسعى بكل إمكاناته لتحرير الإنسانية كلها، ودعوتها حكاما وشعوبا، من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان المحرفة، إلى عدل الإسلام وسماحته -على حد تعبير ربعي بن عامر لرستم الفرس- كما تدعوهم اليوم إلى التحرر والاستقلال من وصاية المركزية الأوروبية والغربية عامة واستعمارها العسكري والفكري، ناهيك عن سعي الإسلام -أمس واليوم- لتحقيق الحضور الفاعل خارج بلدانه الأصلية، والانتشار المستمر، في كل اتجاه، كما كان شأنه عبر التاريخ، سواء باسم الفتوحات الإسلامية، أم الدعوة المجردة، امتد ذلك حينا، أو انحسر حينا آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق