هل حقاً فكر المسلمون في إجلاء النصارى من الأندلس؟
أحمد الظرافي
النصارى في ظل الحكم الإسلامي للأندلس:
لقد كان مبدأ حرية العقيدة غالبًا على حكام المسلمين في الأندلس بعد الفتح، فقد سمحوا طوال مدة عزهم ومجدهم للنصارى بالاحتفاظ بحريتهم الدينية، وكان لهم مطران مركزه طليطلة ومحل إقامته قرطبة، وتركوا لهم أغلب كنائسهم وأديرتهم، كما تركوا لهم حرية الاحتكام إلى شريعتهم وقوانينهم، كما سمحوا لهم بالاحتفال بأعيادهم ومواسمهم، وإقامة علاقاتهم الاجتماعية بحسب أعرافهم القديمة، واحتفظ الذين يملكون منهم أراضي تزرع بملكية أرضهم مقابل مقدار معين من الخراج بحسب طيب الأرض وغلتها؛ وذلك وفقًا لعهد المصالحة بينهم وبين المسلمين، وطبقًا لشروط معينة منها: الالتزام بدفع الجزية وبأحكام أهل الذمة وعدم منع أي نصراني يريد الدخول في الإسلام. ولما كان النصارى يشكلون أقليات كبيرة ضمن المجتمع الإسلامي، في القواعد الأندلسية الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وسرقسطة وبلنسية، فقد أنشأت الحكومة الأندلسية منذ الفتح منصب«القومس»(comes) [1]، ليكون هذا القومس مرجعهم الرئيس في شؤونهم الروحية، وللإشراف على النظام والسكينة، ولجمع ما هو مقرر عليهم من جزية وخراج، وكانت الحكومة الإسلامية تترك لهم في معظم الأحوال المجال لاختيار هؤلاء القوامس. وكان القومس يمارس سلطات مأمور الشرطة على طائفته، وكان يناط به جباية الضرائب، مسؤولًا عنها، يعاونه قاضٍ خاص هو «قاضي العجم»، أو الرقيب عليهم، يفض المنازعات التي تنشب بين النصارى. وكان القومس في كل مدينة من المدن من الشخصيات ذات النفوذ، ومن أهل الحنكة والدهاء والمداراة والمعرفة بالجباية، وكان له في معظم الأحيان مكانة خاصة لدى الأمير أو الخليفة، إذ كان مستشاره في كل ما يتعلق بشؤون النصارى وأحوالهم، كما فعل أرطباس بن غيطشة عندما أشار على أبي الخطار الحسام بن ضرار الكلبي، أمير الأندلس، بتفريق الشاميين عن دار الإمارة قرطبة وإنزالهم في الكور[2]. ولذا فقد اطمأن السكان الأصليون لحكامهم الجدد، وانكسر حاجز الخوف من نفوسهم، منذ ولاية عبدالعزيز بن موسى بن نصير (95-97هـ).والولاة الذين أتوا بعد عبدالعزيز، أمثال السمح بن مالك الخولاني (100-102هـ)، وعنبسة بن سحيم الكلبي (103-107هـ)، وعبدالرحمن الغافقي (112-114هـ)، وعقبة بن الحجاج السلولي (116-123هـ)، وغيرهم من الولاة انتهجوا سياسته المتسامحة نفسها إزاء النصارى، وكان هذا أيضًا هو نهج ملوك بني أمية وديدنهم في عهدي الإمارة والخلافة (138-399هـ). والأمثلة التي تدل على أن ولاة الأندلس وملوك بني أمية قد أحسنوا إلى النصارى ولم يسيئوا إليهم كثيرة معلومة وقد تحدثت عنها كتب التاريخ باستفاضة وأشاد بها المؤرخون الأوربيون أنفسهم[3].
والمهم أنه بسبب هذه السياسة المتسامحة التي انتهجها الحكام المسلمون في الأندلس، ولاةً وأمراء وخلفاء، إلى جانب محاسن الإسلام نفسه سنجد أن أكثرية سكان الأندلس من النصارى وغيرهم قد أقبلوا منذ سنوات الفتح الأولى، ودون أن تحكمهم عقد الخوف والتهويل، على تقبل عقيدة الإسلام، والتحول إليه[4] عن قناعة ودون أي ضغط أو إكراه، فلم يرغم إنسان واحد على أن يترك دينه من غير قناعةٍ واختيار، تطبيقًا لقول الحق سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. وتطبيقاً لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سماحته وعفوه وميله لكي يفتح قلوب الناس قبل أن يفتح بلادهم، بعد أن تلين قلوبهم لعظمة ومحاسن الإسلام وأخلاق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم[5]. وقد جاء ذلك الإقبال على الإسلام بعد أن علموا محاسن الإسلام وعظمته وفطرته، وبعد أن شاهدوا بأم أعينهم سماحة الفاتحين وسمو أخلاقهم، وتحطيمهم للنظام الطبقي غير العادل الذي فرضه القوط عليهم، ونشرهم لمبدأ المساواة بين الناس، وعدم التمييز بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، وبعد أن تنسموا على أيديهم نسيم الحرية التي اكتملت بها إنسانيتهم، وأبدعت في ظلالها عقولهم، وجادت أنفسهم بالخير والبذل والعطاء. وقد كان ذلك التحول المدهش إلى الإسلام من السكان الأصليين في الأندلس بداية التخالط السكاني والتمازج الثقافي. ولم يبقَ على عقيدته سوى قلةٍ من الكاثوليك، وذلك إلى جانب قلةٍ من اليهود، ولكن حتى هؤلاء وأولئك لم يلبثوا أن استعربوا ثقافة ولسانًا وأسلوب حياة، وذلك بعد حقبة قليلة من الزمن.
شبهة المستشرق الفرنسي رينو:
بيد أن المستشرق الفرنسي جوزيف رينو (1795-1867م) صاحب كتاب «تاريخ غزوات العرب على فرنسا، ومن فرنسا على سافواي وبيمونت وسويسرا في القرن الثامن والتاسع والعاشر من التاريخ المسيحي بحسب روايات المؤرخين المسيحيين والمسلمين»[6]، الذي صدر بالفرنسية، في النصف الأول من ثلاثينات القرن التاسع عشر، والذي نقله إلى العربية المرحوم الأمير شكيب أرسلان، ونشره ضمن كتابه «تاريخ غزوات العرب في فرنسا وإيطاليا وسويسرا وجزائر البحر المتوسط».
أقول إن هذا المستشرق أثار شبهة كبيرة في كتابه المذكور آنفًا، فقد زعم أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز فكّر في إجلاء النصارى من إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، قال: وكان الخليفة الجديد عمر بن عبدالعزيز اطّلع على ما دبّ من الخلل إلى موقف العرب بالأندلس فأنفذ إليها السمح بن مالك الخولاني أميرًا، وعهد إليه بإصلاح الأمور ورم الثغور... إلى أن يقول: وكان الخليفة، قد أمر السمح بأن يقدّم له بيانًا عن البلدان المفتوحة وما فيها من النفوس والجبايات ليبرم في أمر الأندلس رأيًّا، فقد كان عمر بن عبدالعزيز شديد الخوف على الإسلام وكان قد هاله بقاء ذلك العدد الكبير من المسيحيين في تلك البلاد، واستشعر من ورائهم خطرًا على مستقبل المسلمين، ففكر في إجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، حيث لا يكون من وجودهم تهلكة على الدولة، إلا أن السمح طمأن مخاوف الخليفة، قائلًا له: إن الإسلام ينمو وينتشر وتمتد شماريخه بسرعة في إسبانيا، وأنه لا يبعد اليوم الذي تصير فيه تلك البلاد بأجمعها تابعة لدين محمد. قال: روى ذلك بعض مؤرخي العرب، وأسفوا من كون السمح بن مالك الخولاني لم يعمل برأي الخليفة في هذا الموضوع[7].
ولا يخفى ما في هذا الكلام من طعن في الفتوحات الإسلامية، فكأن الهدف الأساسي للفاتحين هو الاستيطان في البلاد المفتوحة، وضم الأراضي وحيازتها، ثم تأمين سلامة أرواحهم، وضمان مستقبلهم فيها ولو كان ثمن ذلك هو إجلاء سكان الأقاليم المفتوحة من أصحاب الديانات الأخرى من أوطانهم، واجتثاثهم من جذورهم، وطردهم من أرضهم، كما فعل الصهاينة بأهلنا في فلسطين.
رد الدكتور محمد زيتون على هذه الشبهة:
على أن أحد المؤرخين العرب المعاصرين، وهو الدكتور محمد محمد زيتون، قد طعن في هذه الحكاية لعدم استنادها إلى دليل عقلي أو تاريخي، وكان أول من وقف على هذه الشبهة وحاول تفنيدها في حدود علمي. قال: يذكر ابن عذاري أن عمر بن عبدالعزيز كان رأيه نقل المسلمين من الأندلس وإخراجهم منها لانقطاعهم عن المسلمين واتصالهم بأعداء الله الكفار، فقيل له: إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فعدل عن رأيه ذلك.. إلخ.
ثم عقّب على ذلك بالقول: كل ذلك واضحًا وصريحًا في أن عمر (كان) يريد نقل المسلمين من الأندلس. غير أننا نجد الأمير شكيب أرسلان بعد أن نقل كلام رينو السابق، يقول: هذا الرأي، في نقل مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، لا نجد له أصلًا في المراجع العربية، ولسنا ندري من أين أتى به رينو. (قال) ومبلغ علمي، أنه لم يسبق في تاريخ المسلمين أن أجلي قوم من ديارهم لكثرة عددهم بالنسبة لعدد المسلمين الفاتحين. وأنه لم يُجلَ عن دياره سوى اليهود، عندما حُملوا على ترك الجزيرة العربية، لا لكثرة عددهم، وإنما لإثارتهم الفتن والدسائس والقلاقل ضد المسلمين[8].
قلت: كلام محمد زيتون هذا يقصد به بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، ثم يهود خيبر ويهود فدك، الذين أجلاهم عمر بن الخطاب في خلافته، وذلك تنفيذًا: لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لا يبقين دينان في أرض العرب»[9]، ولخرقهم للعهود والمواثيق. وكان الهدف من هذا الإجلاء تأمين قلب الأمة الإسلامية، ولتستريح هذه الأمة من إفكهم وضلالهم، ومن ثم تنهض جيوش الفتح بحمل الدعوة للمشرق والمغرب، شعارها «الإسلام أو الصلح أو الحرب» والأمان لأهل الكتاب. وهؤلاء اليهود لم يعرفوا شرفًا في حرب الإسلام، ولم يدخروا وسعًا في الكيد له، ولم يراعوا حقوق الجوار، ولم يلتزموا بالعهود، فكان لا بد من إجلائهم وتنظيف الأرض منهم.
استدراك على رد الدكتور زيتون:
بيد أن رد الدكتور محمد زيتون السابق فيه ثغرة، نرجو أن نكون موفقين في سدها، ذلك أن الإجلاء من جزيرة العرب لم يقتصر فقط على اليهود وإنما شمل النصارى أيضًا، ونصارى نجران بالتحديد. ولكن هذه المسألة مسألة خاصة متعلقة فقط باليهود والنصارى في جزيرة العرب: مهد الإسلام ومركز المقدسات الإسلامية، وهي محكومة بنصوص شرعية فهذا أمر ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن سياسة ثابتة لخلفاء المسلمين إزاء اليهود والنصارى في الأمصار والولايات المفتوحة، فقد روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الأخير: «لا يبقين دينان في أرض العرب» (متفق عليه، من حديث أم المؤمنين عائشة). وعن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا» (أخرجه مسلم وغيره). وعن أبي عبيدة قال: آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب...» (أخرجه أحمد وغيره)[10]. وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود خيبر ويهود فدك، من أرض العرب، مستندًا إلى هذا الحديث، خاصة بعد أن أساء يهود خيبر للمسلمين، وأساؤوا إلى عبدالله بن عمر، بل وكم كانوا قد أساؤوا قبل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآذوه وحاولوا قتله. كما أجلى عمر بن الخطاب نصارى نجران، وكانت كعبة النصرانية جنوبًا، عن الجزيرة العربية واشترى عقاراتهم وأموالهم، وذلك أن أهل نجران مارسوا الربا الذي كانوا قد تعهدوا بعدم التعامل به، وازداد ثراؤهم وقوي بأسهم، وسيطروا على البلاد اقتصاديًّا، واقتنوا الخيول، وضعف أمر المسلمين في هذا البلد، فخاف عمر مغبة ذلك، فأجلاهم عنها، ونزل بعضهم الشام ونزل بعضهم النجرانية بناحية الكوفة وبهم سميت. وكتب عمر بن الخطاب إلى نصارى نجران عهدًا بذلك[11]. كما أن عمر بن الخطاب أعطى يهود فدك قيمة نصيبهم في الأرض عندما أجلاهم «فلما أخذوا قيمة بقية أرضهم خلصت كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم»[12].
السوابق التاريخية المتعلقة بإجلاء أهل الكتاب:
من هذا يتضح أن السوابق التاريخية المتعلقة بإجلاء اليهود والنصارى من ديارهم وإعادة توطينهم في مناطق أخرى من دار الإسلام، محدودة جدًا في تاريخ الإسلام، بل كانت مقتصرة على يهود المدينة وخيبر وفدك، ثم نصارى نجران، وبالتالي لا يمكن اعتبارها سياسة ثابتة لخلفاء المسلمين. وفي حدود علمي أنه لم يتم تطبيقها بعد ذلك في أي مكان فتحه المسلمون لا في العراق ولا في الشام ولا في مصر ولا في غيرها، إلا أن يكون قد حدث ذلك في العصور المتأخرة وفي حوادث استثنائية نادرة ومعزولة ولأسباب وجيهة وملحة، فهذه مسألة أخرى.
ومع ذلك فلنفترض جدلًا أن الخليفة عمر بن عبدالعزيز قد كلَّف السمح بن مالك بإجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، فهل كانت الشريعة الإسلامية تجيز له أن يفعل ذلك بعد أن أعطاهم المسلمون الأمان مقابل الجزية والخراج؟
الجواب: ذكر الإمام ابن تيمية: أن المسلمين لما فتحوا البلاد كان الفلاحون كلهم كفارًا، لأن المسلمين كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهذا لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أعطاها لليهود، يعملونها فلاحة لعجز الصحابة عن فلاحتها، لأن ذلك يحتاج إلى سكناها.. فلو أقام طائفة من هؤلاء فيها لفلاحتها تعطلت مصالح الدين التي لا يقوم بها غيرهم، فلما كان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتحت البلاد وكثر المسلمون استغنوا عن اليهود فأجلوهم.. (قال ابن تيمية)، ولهذا ذهب طائفة من العلماء، كمحمد بن جرير الطبري، إلى أن الكفار لا يقرون في بلاد المسلمين بالجزية إلا إذا كان المسلمون محتاجين إليهم، فإذا استغنوا عنهم أجلوهم كأهل خيبر (قال) وفي هذه المسألة نزاع ليس هذا موضعه[13].
وهذا أيضًا شاهد آخر على أن فكرة إجلاء اليهود والنصارى من البلاد التي غلب عليها المسلمون خارج شبه الجزيرة العربية لم تطرح في عصر الفتوحات، وإنما كانت من المسائل الفقهية التي بحثها بعض الفقهاء بعد تبلور المذاهب في القرن الثالث الهجري، ولعل ذلك بسبب قيام بعض الجاليات النصرانية بنقض عهودها مع المسلمين، وكان أول من قال بها هو الإمام الطبري، استنادًا إلى حديث «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب». ومع ذلك فقد كانت هذه المسألة موضع خلاف، كما ذكر ابن تيمية أعلاه. على أن الطبري قد نص على أن «على الإمام إخراج كل من دان بغير دين الإسلام، من كل بلد غلب عليها المسلمون عنوة»[14]، ولم يقل إخراجهم من بلد إسلامي إلى بلد إسلامي آخر، كما في المسألة موضع البحث. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد نص الطبري على أن الإخراج يكون«من كل بلد غلب عليه المسلمون عنوة»، والحال أن الأندلس لم تفتح كلها عنوة، وإنما منها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحًا، بل إن الشمال كله فتح صلحًا[15].
من هم المؤرخون الذين سفهوا رأي الخولاني؟!
ومع كل ذلك فدعونا نمشي وراء هذا المستشرق حتى النهاية، فهو قد أوضح أن هذا الذي قاله وساقه مساق الحقائق المسلمة لم يقله من عند نفسه وإنما قاله استنادًا إلى روايات المؤرخين العرب، فقد ختم كلامه حول هذه القصة بالقول: «روى ذلك بعض مؤرخي العرب، وأسفوا من كون السمح بن مالك الخولاني، لم يعمل برأي الخليفة في هذا الموضوع»، فمن هم أولئك المؤرخون العرب الذين سفهوا رأي السمح بن مالك الخولاني؟
الجواب: قال الأمير شكيب أرسلان: قال رينو في الحاشية أن من جملة هؤلاء الذين سفهوا رأي السمح هذا، ابن القوطية والمقري[16]، فهل لهذا أصل في هذين المصدرين؟!
في الحقيقة، عندما يقابل الأمير شكيب أرسلان كلام رينو بكلام المقري، وعندما نتحقق نحن من ذلك أيضًا، فإننا لا نجد أي أثر أو إشارة ولو من بعيد لما زعمه المستشرق رينو حول رغبة عمر بن عبدالعزيز في إجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا، إلى إفريقيا، وتكليفه السمح بن مالك الخولاني، عامله على الأندلس، بتحقيق هذه الرغبة، بعد أن تحولت إلى قرار واجب التنفيذ[17]. وكذلك لم أجد لها أصلًا في كتاب ابن القوطية، والقصة بكاملها لدى هذين المؤرخين هي كالتالي:
قال المقري نقلًا عن ابن حيان: وكان من رأيه، أي عمر بن عبدالعزيز، أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم (قال) وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار، إلا أن يستنقذهم الله تعالى برحمته[18].
وقال ابن القوطية: وكان عمر بن عبدالعزيز، رحمه الله، قد عهد إلى السمح بإجلاء المسلمين من الأندلس، إشفاقًا مما دخل عليهم، إذ خشي تغلب العدو عليهم، فكتب إليه السمح بن مالك، يعرفه بقوة الإسلام، وكثرة مدائنهم، وشرف معاقلهم»[19].
هذا كل ما ورد في هذين المصدرين بشأن هذه القضية، وهي كما نرى مرتبطة بإجلاء المسلمين من الأندلس وليس النصارى كما زعم رينو، وهذا ما يؤكده مؤرخون آخرون مثل ابن عذاري[20]، وصاحب الأخبار المجموعة[21]، وابن الأثير[22]، والرازي[23] وغيرهم.
وبعد كل ما تقدم من حيثيات، يمكننا القول باطمئنان ومن دون أي شك إن قصة إجلاء مسيحيي إسبانيا وجنوب فرنسا إلى إفريقيا، لا أصل لها في مصادر المؤرخين العرب. وغلط هذا المستشرق الفرنسي لا خفاء به ولا امتراء فيه، وهذا مع افتراض حسن النية، وإلا فهو التدليس القبيح الظاهر، والتزوير الواضح الفاضح.
القصة الحقيقية لمحاولة إجلاء النصارى من الأندلس:
على أن واجب العدل والإنصاف يقتضي مني أن أذكر أنني حينما كنت أقلب بطون الكتب المتعلقة بتاريخ الأندلس من أجل تجميع مادة كتابي «السمح بن مالك الخولاني، أمير الأندلس ورائد الفتوحات الإسلامية في فرنسا» تحققت من أن فكرة إجلاء النصارى من الأندلس قد طُرحت بالفعل، وتم تنفيذها جزئيًّا ولكن في وقتٍ متأخر، وتحديدًا في آخر حكم المرابطين للأندلس (479-541هـ)، وكانت الأندلس إذ ذاك قد تقلصت وصار أكثرها تحت سيطرة ممالك الشمال النصرانية، وكان النصارى بسبب دخولهم في الإسلام في القرون السابقة قد صاروا أقليات صغيرة في قواعد الأندلس الباقية في أيدي المسلمين بعد أن كانوا يشكلون أقليات كبيرة بها بعد الفتح. وعلى الرغم من الحقوق العديدة التي تمتعت بها تلك الأقليات في عهود الولاة والأمراء والخلفاء، فقد تنكرت لعهودها، ولم تدخر وسعًا في مناوأة الحكومة الإسلامية، وتدبير الدسائس ضدها، وكانت عضد الثورات المختلفة في المدن والمقاطعات الثائرة، ولاسيما طليطلة وما يجاورها من المدن القريبة من حدود النصارى[24]. وقد استفحل خطر هذه الجاليات النصرانية، بعد سقوط مدينة طليطلة بأيدي القشتاليين سنة 478هـ/ 1085م، واشتداد وطأتهم على المسلمين، في وقت بلغت الحركة الصليبية، التي انبعثت من وسط فرنسا ذروة تعصبها، وأخذ النفوذ الفرنسي بشتى صوره وأشكاله السياسية والثقافية والدينية يتغلغل في شمال إسبانيا باعثًا فيها روحًا صليبية جديدة ضد المسلمين على أيدي أسقف طليطلة وبعض القساوسة والرهبان الفرنسيين أتباع نظام كلونيCluny [25] الشهير في فرنسا، الذي جرى تأسيسه سنة 910م، والذين استقروا في طليطلة. وثبت تواطؤ النصارى عامة مع إخوانهم نصارى الشمال في تلك الحرب الصليبية ضد المسلمين، وتحول العديد من منهم إلى جواسيس يعملون لحساب الممالك النصرانية في الشمال، التي ضرب بها المثل فقيل إنها أكثر تعصبًا للبابوية (الكاثوليكية) من البابا نفسه[26].وقد كانوا لا يكتمون ترحيبهم بالغزوات النصرانية المتكررة على الأراضي الإسلامية، وكانوا بسبب معرفتهم العربية يقدّم بعضهم العون لجيوش الشمال[27]، كما كانوا يزودونهم بالأقوات والمؤمن عند حصارهم للمدن الإسلامية.وكل هذا وغيره أثار مسلمي الأندلس ضدهم، ودفع الفقهاء لتحريض حكومة المرابطين عليهم، وإصدار الفتاوى التي تقضي بتغريبهم، لوضع حد لخياناتهم ومكائدهم[28].
قال الدكتور أحمد فكري، في سياق حديثه عن المعاهدين في قرطبة: كان هؤلاء المعاهدين يعيشون في أمان ويسر في قرطبة ولم يؤثر في مجرى حياتهم ما نسب إلى بعض رجال الدين منهم من التعصب وإثارة الفتن في عهدي الأمير عبدالرحمن الأوسط (208-238هـ) وابنه الأمير محمد (238-272هـ). وقد هاجر بعض هؤلاء المعاهدين في فترات متباعدة، وخاصة في القرنين الخامس والسادس (الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين) إلى مناطق شمال الجزيرة، وانضموا إلى أهل الممالك المسيحية، وظلوا يُعرفون فيها بالمستعربين، ويحافظون على تقاليدهم الأندلسية[29]. وقد بدأ المعاهدون يتنكرون لمواطنيهم العرب، منذ أيام الفتنة، وظهر خطرهم في بداية القرن السادس الهجري، وبخاصة بعد الحملة الكبيرة التي قام بها ملك أراغون ألفونسو الأول سنة 519-520/ 1125-1126م، على غرناطة[30]، استجابة لنداءات المستعربين الغرناطيين وتحريضاتهم، مما دفع، في سنة 520هـ(1126م)، أبا الوليد بن رشد (جد الفيلسوف الشهير)، قاضي الجماعة، إلى عبور المجاز والتوجه إلى مرّاكش ليشرح لأمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين (500-538هـ) خطر المعاهدين على المسلمين في الأندلس لنقضهم العهد، وخروجهم على الذمة، باستدعائهم نصارى الشمال ومساعدتهم، وقد أفتى ابن رشد بوجوب تغريبهم وإجلائهم عن أوطانهم، وهو أخف ما يؤخذ به من عقابهم، وأخذ أمير المسلمين بهذه الفتوى، وأمر بتغريب المعاهدين، وبادر ولاة الأندلس بتهجيرهم إلى بلاد العدوة، أي المغرب، فتم تهجير جم غفير منهم، بعد أن قُتل عدد منهم. كما قامت القوات الأرغونية الغازية، التابعة لألفونسو الأول، ذاتها بإجلاء عدة آلاف منهم واصطحبتهم برفقتها. وتكرر إجلاء مماثل لهم سنة 531هـ و559هـ، حتى قل عددهم كثيرًا في مدن الأندلس نتيجة لذلك ونتيجة الهجرة أيضًا إلى المدن النصرانية[31]. ولكن جهودهم كانت على أي حال من أهم العوامل في إضعاف الحكومة الإسلامية، وفي تعضيد جهود إسبانيا النصرانية لاسترداد أراضيها المفتوحة من المسلمين. وهذا ما يعتبره المؤرخون الإسبان من وجهة نظرهم أعمال بطولة، ولهذا يخصص العلماء الإسبان لتاريخ النصارى المعاهدين مصنفات وبحوثًا كثيرة[32].
وقد تحامل المستشرق الهولندي رينهرت دوزي عند تناوله لهذا الموضوع على المرابطين أشدّ التحامل، فجردهم من كل مكرمة وألصق بهم كل صفة بغيضة، ومن ذلك اتهامهم بالجهل والوحشية والقضاء على العلم والحضارة في الأندلس، وتطرق إلى هذه القصة بشكل مختلف، فقد أرجعها إلى موقف المرابطين المتعنت تجاه المستعربين، وإسرافهم في اضطهادهم[33]، متغافلًا عن خيانة أولئك النصارى للمسلمين ونقضهم للعهود والمواثيق.
[1] حول أصل هذا المصطلح ومفهومه انظر: ليفي بروفنسال، تعليقاً على كتاب جمهرة أنساب العرب، لابن حزم، الذي حققه ونشره في القاهرة سنة 1948، ص467.
[2]انظر: ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة (1/103) تحقيق محمد عبد الله عنان، مكتبة الخانجي- القاهرة، ط2، 1973.
[3] انظر في ذلك المراجع التالية على سبيل المثال لا الحصر:
روجيه جارودي، الإسلام في الغرب، ترجمة ذوقان قرقوط، دار دمشق - دمشق، ط1، 1995، ص16-17.
زغراد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، نقله عن الألمانية فاروق بيضون وكمال دسوقي، دار الجيل - دار الآفاق الجديدة - بيروت، ط8، 1413هـ/1993، ص476.
لين بول ستانلي، قصة العرب في إسبانيا، ترجمة علي الجارم، مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر، د.ت، ص39.
رينهرد دوزي، المسلمون في إسبانيا (1/47)، ترجمة، حسن حبشي، الهيئة المصرية للكتاب - القاهرة، 1995.
توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن الإبراهيم وآخرين، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1947، ص121،122.
[4] عبدالمجيد نعنعي: تاريخ الدولة الأموية في الأندلس، دار النهضة العربية - بيروت - لبنان. د.ت، ص93.
[5] علي بن عمر بادحدح: الكلمات المتقاطعة، 17-03-2007: موقعه على الإنترنت، رابط:
[6] انظر، أرسلان: تاريخ غزوات العرب في فرنسا، دار الكتب العلمية - بيروت، د.ت، ص15-16.
[7] المرجع السابق، ص52.
[8] زيتون، المسلمون في المغرب والأندلس، 1411هـ/ 1990، ص196.
[9] صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، نشره لويس شيخو، المطبعة الكاثوليكية - بيروت، 1912، ص88.
[10]انظر، مجلة السنة، العدد (59)، ربيع الثاني 1417هـ، ص14-16.
[11] انظر، عصام الدين عبدالرؤوف: اليمن في ظل الإسلام، دار الفكر - بيروت، ط1، 1982، ص51-52.
[12] أبو عبيد، الأموال، تحقيق محمد عمارة، دار الشروق - بيروت، ط1، 1409هـ/1989، ص178.
[13] ابن تيمية، الحسبة في الإسلام، الكتاب الثالث في مجلد (في التراث الإسلامي)، دار الحداثة - بيروت، ط1،1990، ص507، وانظر، خليل إبراهيم ملا خاطر، فضائل المدينة المنورة (1/350) ، ط1، 1413هـ/1993.
[14] فتح الباري، خليل إبراهيم: المرجع السابق (1/350).
[15] انظر، المقري: نفح الطيب (1/273)، تحقيق إحسان عباس، دار صادر - بيروت، 1968.
[16] أرسلان، المرجع السابق، ص52، حاشية (4).
[17] المرجع السابق، ص53 وما بعدها.
[18] المقري، نفح الطيب (3/14).
[19] ابن القوطية، تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق الأبياري، دار الكتاب (المصري - القاهرة، اللبناني - بيروت)، ط2، 1989، ص38.
[20] ابن عذاري، البيان المغرب (2/26)، تحقيق كولان وبروفنسال، دار الثقافة - بيروت، ط3،1983.
[21] مجهول، أخبار مجموعة، تحقيق الأبياري، دار الكتاب (المصري - القاهرة، اللبناني - بيروت)، 1989، ص30.
[22] ابن الأثير، الكامل، طبعة أبو صهيب الكرمي، بيت الأفكار الدولية، د.ت، ص798.
[23] الغساني، رحلة الوزير في افتكاك الأسير، طبعة نوري الجراح (دار السويدي - أبو ظبي، المؤسسة العربية للدراسات - بيروت) ط2، 2002، ص143.
[24] ابن الخطيب، الإحاطة (1/106): حاشية.
[25] أحمد العبادي، في تاريخ المغرب والأندلس، دار النهضة العربية - بيروت، د.ت، ص262، وانظر، أمريكو كاسترو: إسبانيا في تاريخها: المسيحون والمسلمون واليهود، ترجمة على إبراهيم منوفي، المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، 2002 ، ص166.
[26] العبادي، المرجع السابق، ص293.
[27] شاكر مصطفى، الأندلس في التاريخ، منشورات وزارة الثقافة - دمشق ،1990، ص98.
[28] انظر، ابن الخطيب: الإحاطة (1/114).
[29] أحمد فكري، قرطبة في العصر الإسلامي، مؤسسة شباب الجامعة - الإسكندرية، 1983، ص244.
[30] راجع خبر هذه الحملة في الإحاطة (1/109).
[31] فكري، قرطبة، هامش (14) ص271-272، وانظر الإحاطة (1/113-114).
[32] عنان، انظر الإحاطة (1/106) حاشية.
[33] دوزي، المسلمون في إسبانيا (3/163)، وانظر، بيير غيشار، التاريخ الاجتماعي لأسبانيا المسلمة، بحث منشور بكتاب الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس (2) ، تحرير سلمى الخضراء، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، ط1،1998، ص972، 986، العبادي: مرجع سابق، ص267.