لماذا يستطيع أمثال مدحت شلبي أن يحكموا مصر؟
إنها لعنة الجهل المسلح.. وحين يُمسك الجاهل بالسلاح تخضع له رقاب الآخرين.
يعيد الفيديو المشهور لمدحت شلبي الحديث مجدداً عن مستوى ثقافة العسكر الذين يحكمون بلادنا بالظلم والقهر. فاللواء السابق الذي بلغ السبعين من عمره لا يعرف خريطة الوطن العربي، ويطلب بكل براءة من ضيفه الموريتاني أن يتحدث باللغة الموريتانية، ثم يندهش للغاية حين يعرف أن موريتانيا بلد عربي وأن أهلها يتكلمون العربية كلغة أم.
يشبه الأمر أن تسأل إنجليزياً وببراءة:
أين تعلم الإنجليزية؟ ولماذا اسمه يبدو إنجليزياً للغاية هكذا؟! ثم يتصادف ولسوء الحظ أن يكون هذا الإنجليزي من بلد اشتهر بالشعر الإنجليزي.
لأن مدحت شلبي نفسه لا يستطيع التحدث بالعربية لخمس دقائق من تلقاء نفسه، فهو بالضرورة لا يعرف أن موريتانيا وعلماء بلاد شنقيط هم الذين يضرب بهم المثل في الحفظ وإنشاء الشعر، حتى كاد كل علم لديهم يتحول إلى منظومة شعرية، حتى القوانين الوضعية نظمها بعض علمائهم في قصائد شعرية بلغت آلاف الأبيات.
على أن هذا ليس أخطر ما في الأمر؛ الخطورة الحقيقية كامنة في أن مدحت شلبي وأمثاله هم النخبة السياسية والإعلامية الحاكمة الآن في مصر، لا يعرف الواحد منهم وقد بلغ السبعين خريطة الوطن العربي ولا أسماء البلاد العربية، فضلاً عن أن يعرف ما وراء ذلك عن تاريخها وثقافتها وشعوبها.
ليس هذا الموقف الأول ولن يكون الأخير، إنما هو حلقة في سلسلة ممتدة لا تبدأ برئيس يرى نفسه طبيب الفلاسفة ولا تنتهي بعسكري صنع جهازاً لعلاج الإيدز بالكفتة!
إنها لعنة الجهل المسلح.. وحين يُمسك الجاهل بالسلاح تخضع له رقاب الآخرين، ومنهم من يطمع فيما لديه من الدنيا فينشئ فيه الأشعار ويفلسف له جهالاته، ويبتكر له النظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من تخريفاته حكمة وفصل الخطاب.
لكن: إذا كانوا جهلة فكيف تسنى لهم أن يحكموا ويقهروا العلماء والمثقفين؟ وإذا كان السيسي وفريقه على هذا القدر من الحماقة فكيف استطاعوا خداع أساتذة الجامعة حتى أنزلوهم من سدة الحكم وألقوهم في غيابات السجن وعلَّقوهم على أعواد المشانق؟!
يمكن أن يكون هذا السؤال مثيراً للاستغراب في حالة واحدة: أن يكون هؤلاء قد وصلوا إلى ما هم فيه بإمكانياتهم وقدراتهم الذاتية، أما وحيث كانوا مجرد أدوات تابعة ومُسَيَّرة ومُوَجَّهَة بواسطة الريموت الأمريكي، فإن العجب يزول.
يتعلم العسكر وعناصر الأمن في بلادنا فنون الحكم والسيطرة على الشعوب، والكليات الأمنية والعسكرية في البلاد العربية متطورة المناهج في هذا الجانب، وقد أتيح لي قبل سنوات الجلوس إلى أحد أولئك الذين درسوا في ظرف استثنائي في كلية أمنية فاطلعت على شيء من هذا الجانب. وهو ما يفسر كفاءة العنصر الأمني في مراوغة وتوظيف وخداع من كانوا أكبر منه سناً وأغزر علماً وأوسع ثقافة، مثلما يستطيع الجاسوس أن يتقن مهمته في التنكر والتقنع بشخصية أخرى ويخدع بهذا من يفوقه في سائر العلوم والمعارف الأخرى.
وما قصة أمتنا في خلال القرن الماضي إلا قصة أمة باسلة بذلت الدماء والأرواح ثم سُرِقت منها الثورات وحروب التحرير والاستقلال على موائد التفاوض وبالاختراقات الأمنية وبتصعيد العملاء والجواسيس.
لم يكن عبد الناصر –مثلاً- أذكى الناس في مصر، لكنه استطاع أن يصعد فوق أكتاف الجميع، بعض السر يتكشف حين تنظر في كتب مايلز كوبلاند وولبر كراين إيفيلاند وغيرها من الكتب التي روت كيف صُنِع حكم عبد الناصر، ولكن الذي يهمنا الآن أنه بينما يضطرب المفكرون والمثقفون ويختلفون اختلافاً واسعاً حول ما يجب فعله فيما بعد الثورة فإن الخبراء الأمنيين لا يختلفون كثيراً على إجابة هذا السؤال، في كتاب مايلز كوبلاند "لعبة الأمم" سنجد نصائح ثمينة لحكومة جاءت بعد ثورة، هذه النصائح تمثل خلاصة العلوم الاجتماعية والسياسية والخبرة التاريخية، قُدِّمت لعبد الناصر الذي لم يكن مؤهلاً لأن يصل إليها بنفسه.
ولا ريب أن السيسي، وقد اعترف أنه كان على تواصل يومي بوزير الدفاع الأمريكي في فترة ما قبل الانقلاب وما بعدها، لديه من يأمر ويشير ويوجِّه من الخبراء الأمريكان، فإن قدراته الذهنية كما تتضح من خطاباته أضأل وأقل من أن تُمَكِّنه من ممارسة الحكم بكفاءة.
فالركن الأول من إجابة هذا السؤال يكمن في أن هؤلاء العسكر وأجهزتهم الأمنية لم ينتصروا على أساتذة الجامعات والمثقفين بمجرد مواهبهم الذاتية، وإنما لأن خلفهم دعماً جباراً من مراكز صناعة الحكام والحكومات وإسنادها، لا بمجرد الخبرة الأمنية والعسكرية فحسب، بل بالخبرة السياسية والتاريخية كذلك.
والركن الثاني أن دراسة العلوم الأمنية أهم في وظيفة الحكم من دراسة العلوم الأخرى، والمبتدئ في الدراسات الأمنية يستطيع أن يُوَظِّف الخبير في الهندسة والكيمياء وغيرها. والعلوم الأمنية ليست فرعاً مستقلاً من العلوم بل هي في واقع الحال خلاصة العلوم الإنسانية: السياسة والاجتماع والإدارة وعلم النفس ولكن في صورة عملية أكثر من كونها دراسة نظرية.
تدريبٌ واحد على فنون الإقناع أكثر أهمية ونفعاً عملياً من دراسات مطولة في علم النفس والاجتماع ونحوه. ومنذ أن انفصلت العلوم الاجتماعية عن الفلسفة النظرية، أو لنقل: منذ أن تخلص حقل العلوم الاجتماعية من هيمنة الفلسفة وصار يعتمد على التجارب العملية لا على البناء النظري الفلسفي، منذ ذلك الوقت فإن العلوم الاجتماعية أمكن توظيفها عملياً على يد المؤسسات من بعد أن كان الحال مقتصراً على كونها مواهب إنسانية يتمتع بها الزعماء.
ومن دون الخوض في هذا التفصيل النظري بين فروع العلوم، فالذي يهمنا في هذا السياق أن التدريب الذي يتعرض له عنصر أمني ليؤدي مهماته بكفاءة يجعله أقدر على هضم وتوظيف خلاصات العلوم الاجتماعية أكثر بكثير من أساتذة تدريسها نظرياً في الجامعات! بل ويمكنه توظيف هؤلاء لمصلحته أيضاً!
مدحت شلبي الذي يعرف تفاصيل حياة لاعبي الكرة الأجانب لا يعرف أن موريتانيا دولة عربية، لكن الوظيفة التي يتولاها مدحت شلبي في تسريب القناعات الدولتية السيساوية لجماهير الكرة تأتي بثمارها.
وأحمد موسى الذي هو مثال في الجهل وانحطاط الأخلاق وقذارة اللسان يؤدي وظيفته في غراسة أفكار السيسي ونظامه في شرائح شعبية واسعة. لم يكن الجهل العام مانعاً من أداء الوظيفة الصغيرة بكفاءة ضمن المنظومة الأكبر.
إذا وسَّعنا دائرة النظر أكثر، فسنرى عسكرياً مثل القذافي يرى أن حل المشكلة في فلسطين بتسمية إسرائيل وإنشاء مسجد أقصى في أي مكان، هذا القذافي استطاع أن يحكم بلداً أربعين سنة!! المسألة ببساطة أن المعرفة التي تلقاها وأتقنها هي معرفة وسائل السيطرة على الحكم (مسنوداً برغبة أجنبية طبعاً) أكثر من معرفته بقيمة وقداسة المسجد الأقصى.
لذلك يجلس أمثال القذافي في البحرين، يجتمعون لبيع مقدسات المسلمين، وربما يتمكنون من تنفيذ مخططهم هذا وإجبار الناس عليه، وليس يشعر أحدهم أنه يرتكب عار التاريخ وفضيحة الدهر وأنها السبة واللعنة التي ستطارد ذِكره ونَسْلَه من بعده. ذلك أن المعرفة التي تلقاها في المدارس الأجنبية أو الكليات الأجنبية أو البعثات الخارجية (وأغلب طبقة الحكام في بلادنا الآن نشؤوا في مدارس أو على الأقل كليات أجنبية أو بعثات خارجية) لم يكن في محتواها قداسة فلسطين والمسجد الأقصى. بل غاية ما يمكن أن تمثله فلسطين والأقصى في منظومتهم المعرفية أن تكون شعاراً يُستعمل ويُوَظَّف كأداة في سياستهم الداخلية والخارجية.
كان لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني (1916 – 1922) يحفظ أسماء القرى في الأرض المقدسة (فلسطين) في حين كان يجهل جنرال عربي الأهمية العسكرية للقدس فلم يحفل بسقوطها كما روى أمين الحسيني في مذكراته، ومع هذا فلم يكن الجنرال العربي خائناً بل كان عربياً مخلصاً كما ذكر الحسيني، لكن القدس وأهميتها العسكرية وموقعها الجغرافي لم يكن ضمن المعرفة العسكرية التي تلقاها.
لهذا ينتصرون علينا رغم أنهم جهلة بأبسط ما نعرفه، ولهذا ينهزم أمامهم أساتذة الجامعات رغم أنهم علماء ومثقفون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق