محمد مرسي.. الإنسان النادر في تاريخ السياسة
د. محمد الجوادي
كان محمد مرسي واحدا من أبناء الريف المصري النوابغ الذين يحرص ذووهم بما توارثوه من قيم حضارية وإيمانية على إتاحة أقصى ما يمكن لهم من تعليم، وهو تعليم صعب وعر بحكم بقايا سطوة الاستعمار البريطاني القاسية على التعليم الوطني؛ ومع هذا فقد كانت هذه البقايا من مستوى جيد كفيل بالحفاظ على الهوية وباحترام الذاتية والوطنية والشخصية؛ وقد التزم له أهله شأنهم في هذا شأن كل أبناء الأرض المصرية الأوفياء لدينهم وثقافتهم القومية بكل ما يحفظ له شخصية سوية في مستقبل لا يعرفونه لكنهم يؤهلون أبناءه له؛ وهكذا درس هذا الفتى الواعد في الكتّاب بالموازاة لدراسته في التعليم المدني؛ ومارس ما هو متاح من الرياضة البدنية والكشفية في حدود ما تقدر عليه موازنات أقرب إلى العدم منها إلى العوز.
اكتسب من هذه الممارسات كلها أقصى درجات الجدية العملية مع أقصى درجات الالتزام الخلقي؛ وانصهر طموحه الشخصي تماما وللأبد في الطموح الوطني، وتجلى هذا في أحلك لحظات المحنة التي مر بها الوطن في ١٩٦٧ وما بعدها حتى إنه كان لا يزال ذائبا تماما حين نال الشهادة الثانوية العامة بعد الهزيمة الساحقة بترتيب متفوق جدا في مدينة الزقازيق عاصمة إقليمه، وهكذا فإنه اختار أن يكون مهندسا ليكون حسب المعتقد الشعبي في ذلك العهد "طوبة" تعلى من الوطن الذي لابد له أن يقاوم عدوا شرسا؛ هكذا آثر محمد مرسي هذا الطريق على الطريق الآخر الأكثر جاذبية وهو طريق الطب الذي كان كفيلا له بالإيحاء الواثق بتحقيق ذاته وفرديته على نحو أسرع ضمانا وأكثر أمانا؛ ومن العجيب أن كل اختيارات محمد مرسي بعد ذلك كانت تكرارا وصدى لهذا الاختيار الصعب المبكر بين أن يكون جزءا من نسيج عام، وبين أن يحرص على إثبات ذاته وتفرده، وأن يسعى في هذا السبيل مع كل خطوة.
اليوم تصعد روحه إلى بارئها فتلتقي بأرواح من سبقوه إلى دار المستقر، فإذا منهم من يعرفونه على اختلاف أزمانهم وأديانهم وعقائدهم، يعرفونه ويقدرونه لأنهم يرون فيه قمة حقبة الاستقلال التي ساروا فيها خطوات موفقة أو غير موفقة |
وحين كان على محمد مرسي أن يختار أولى خطواته في هذا الطريق المهني والوطني فإنه رحب بأن ينتمي للحياة الجامعية المدنية على الرغم من جاذبية الارتباط بالمؤسسة العسكرية الذي كان متاحا له مرة بعد أخرى؛ بل إنه وهو المعيد المتفوق آثر بكل يقين أن يكون جنديا مجندا في أي سلاح على أن يكون ضابط احتياط في سلاح المهندسين، وقد كان من حسن حظ الوطن أنه قضى فترة تجنيده في سلاح الدفاع الجوي؛ وهكذا.. وهكذا حين اختار شعبته ثم تخصصه ثم رسالته ثم بحوثه.
ثم إن الحياة واجهته مرة بعد أخرى بسؤال الهوية والبحث عن الذات في زمن متغير، ومن العجيب أن هذا الشاب المفعم بالطموح والعنفوان والقدرة كان في إجابته على كل سؤال من أسئلة التخيير ينحاز بعنف أصيل إلى الذوبان في الجماعة، من دون أن يفكر فيما تستطيعه ذاته تحقيقه لنفسها من تفوق مرموق، وتألق متاح عن قرب؛ ومن الإنصاف أن نلاحظ أن هذه الشهادة في حق محمد مرسي ووطنيته الفائقة وإيمانه بشعبه وأهله تأتي على لسان شخصية ذات تكوين مختلف تماما وفقها الله لأن تحفر لنفسها مواقع قصوى في كل خطوة من خطوات مهنيتها وهواياتها على حد سواء؛ والحق أن مثل هذا الاختيار لم يكن سهلا على محمد مرسي ولا بعيدا عنه لكن محمد مرسي كان مؤهلا له لأنه كان من عباد الله الصالحين الذين وصفتهم آيات القرآن الكريم في سورة الفرقان بدءا من وصف الحق جل جلاله لهم بأنهم من الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما..
وبعد أن أتم محمد مرسي دراساته العليا في جامعة أمريكية مرموقة عاد إلى وطن لم يكن احتياجه له بقدر احتياج مجتمع العلم الأمريكي له، ولم يكن التقدير المتوقع له في هذا الوطن ليفوق ما كان متاحا له في البيئة العلمية الأمريكية بكل تأكيد، لكن محمد مرسي ظن عن حق أن بلاده تنهض، وأن إقليمه ينهض، وأن قريته نفسها تنهض، وأنه لا يحق له أن يخون تلك النهضة؛ التي كانت ملامحها بارزة بوضوح في بداية الثمانينيات، وقد ظل هذا هو منطقه نفسه حين قرر وهو في أعلى هرم السلطة أن ينحاز للشعب لا للسلطة، وللشرعية لا للميكافيلية، وللسلمية لا للصراع؛ وكان هذا هو منطقه وهو يواجه بمفرده حلقات التآمر القاسي من الدهاقنة والعملاء والمغيبين مستندا فقط إلى إيمانه ومحافظا على ركوعه لله وحده وسجوده لله وحده في عصر غابت فيه الروحانية حتى عن الحياة الروحية، وغامت فيه الرؤية حتى في سحابة النهار، وذلك بسبب كثافة الضلالات التي صنعتها القوى القادرة القاهرة، لكن محمد مرسي بقي رغم القسوة البالغة طالبا للشهادة حتى نالها شهيدا وشاهدا على ما لم يستطع غيره أن يبلوره من الإيمان على مدى ما يقرب من قرن كامل من الزمان منذ الحرب العالمية الأولى.
واليوم تصعد روحه إلى بارئها فتلتقي بأرواح من سبقوه إلى دار المستقر، فإذا منهم من يعرفونه على اختلاف أزمانهم وأديانهم وعقائدهم، يعرفونه ويقدرونه لأنهم يرون فيه قمة حقبة الاستقلال التي ساروا فيها خطوات موفقة أو غير موفقة، فيتعجبون من أن يكون هذا العبد الضعيف قد سبقهم جميعا إلى الانحياز المطلق إلى الصواب الذي احتازه في كل خطوة، فلم يعرف الضعف ولا الخوف ولا التنكر ولا الالتواء ولا التغرب ولا الانخلاع من الذات، وليس عجيبا أن نرى صفا طويلا من السابقين وهم يتطلعون إلى إنجازه فيرمقونه بإعجاب، ونتأمل الوجوه فنجد في هذه الصفوف رموزا متناقضة من طراز الخطابي والعظمة والشهبندر وويليام تل وغاندي ومانديلا وواشنطن وديجول وتشرشل وجيفارا وسيكوتوري وسوكارنو ولوممبا ونكروما ومندريس وتيتو وهوشي منه وسيهانوك وبوتو وجناح... وهم يرون صورة غير مسبوقة لروح قادرة تجلى فيها الإخلاص العميق والمتجرد للعقيدة الصادقة بعيدا عن ضلالات الانتماء والعصبيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق