الاثنين، 24 يونيو 2019

نقطة غائبة في الحديث عن انتخابات اسطنبول الأخيرة

نقطة غائبة في الحديث عن انتخابات اسطنبول الأخيرة التي خسرها حزب العدالة والتنمية ( ) وتتعلق أيضا بوفاة الرئيس الشهيد رحمه الله
بقلم أ. محمد إلهامي
يتجدد الحديث عن الديمقراطية بعد خسارة حزب العدالة والتنمية لانتخابات اسطنبول الكبرى في هزيمة قاسية.
والديمقراطية في بلادنا كالحلم الجميل والسحاب البعيد، يرنو إليه الناس ولا يحلمون بتذوقه، وما إن بدا أنهم يكادون يصلون إليه حتى قُتِل الحلم على يد الانقلاب العسكري، ومات #مرسي -رحمه الله- في نفس أسبوع خسارة حزب #أردوغان لاسطنبول الكبرى.
والكل يسأل: لماذا؟ هل العيب فينا؟ أم في الشعوب؟ أم في الديمقراطية نفسها؟ أم في ذلك كله معا؟ أم هناك سر آخر لا نعرفه ولا ندريه؟
تتعدد مذاهب الناس في الإجابة، ثم في دعم إجاباتهم بالتحليل والتفسير والمعلومات.. وأنا أنوي في هذا المنشور لفت النظر إلى أمر يكاد يغيب فيما أراه من التحليلات، رغم أنه حاضر فيها جميعا ولكن بين السطور وتحتها.
المعنى الأجمل للديمقراطية هو أن يكون الشعب حرا في اختيار حاكمه ونظام الحكم.. وهذا هو المعنى الذي يتغنى ويتغزل فيه كل داعية إلى الديمقراطية وكل مُرَوِّجٍ لها..
حسنا، سنعتمد هذا التعريف، وسنتمسك به.
لكن هذا التعريف يطرح احتمالا خطيرا، وهو: ماذا لو اختار الشعب حاكما كريها أو اختار نظام حكم يقوم بسياسات بغيضة مثل قتل الأقليات الدينية أو العرقية أو التخلص من المرضى والمعاقين باعتبارهم لا يسهمون في النهضة أو ما شابه؟
هنا يبدأ أول انقسام عميق في الموقف من الديمقراطية..
1. هناك فريق يقول: هذه هي الديمقراطية ولتأتِ بما جاءت به مهما يكن بغيضا أو كريها، ولتتحمل الفئات القليلة والمنبوذة نتائج اختيارها العيش في ظل أغلبيات لا تريدها ولا تطيقها وتتوق للخلاص منها.
كذلك فليتحمل الشعب نتيجة اختياراته، وليحاول تصحيحها في الاختيار القادم.. فإن لم يستطع أن يكون له اختيار قادم لأن السلطة تحولت إلى الديكتاتورية (وأخذت السلم معاها فوق) فليدفع الشعب ثمن اختياراته ولتكن هذه حلقة من تجربته التاريخية ربما يتعلم منها فيما بعد.
وإلا فإن البديل الآخر هو الديكتاتورية، لأنه حجر على رغبة الشعب مهما كانت بغيضة ومصادرة لرأيه مهما كان كريها، والديمقراطية القادرة على تصحيح نفسها أفضل من إلباس الديكتاتورية ثوب الديمقراطية، وتصير الديمقراطية مجرد عنوان جميل لمحتوى مفروض بالقوة والقهر على الشعب لا يجوز له تعديله أو إعادة التفكير فيه.
2. وهناك فريق يقول: الديمقراطية وحدها غير كافية لجعل حياة الناس أفضل، وبالتالي فيجب أن يكون لها مرجعية ثقافية أعلى منها تمنع وتحول دون أن تكون الديمقراطية مجرد وسيلة يتسلقها العنصريون والقتلة والسفاحين الذين يمكنهم أن يخدعوا الشعب يوما، ويتخذون الديمقراطية سلما لتطبيق غاياتهم الكريهة..
ثم ينقسم هؤلاء بحسب مرجعياتهم الثقافية حول المرجعية العليا التي تعلو فوق الديمقراطية وتحكم نتائجها، فيتحدث كل قوم على أن مرجعيتهم هي الأرقى والأعلى والأمثل. وهي التي يجب أن تكون فوق الديمقراطية ومقيدة لنتائجها.
وحيث انتصرت الليبرالية في الغرب فقد صارت الليبرالية (التي تعني حقوق الإنسان وحقوق الأقليات والحفاظ على الحريات... إلخ) هي المرجعية الثقافية الحاكمة للديمقراطية.
وأما في العالم الإسلامي فليس هناك ديمقراطية أساسا كما هو معروف، ولكن قسما ضخما من العلماء والمفكرين المسلمين كتبوا طويلا وجادلوا كثيرا بأن المرجعية الإسلامية هي أعلى وأقوى المرجعيات الأخلاقية التي تحفظ وتصون اختيار الشعب من أن ينحرف نحو سياسات بغيضة وكريهة لأنه يحفظ حقوق الأقليات ويصون الحريات الشخصية وله تجربة حضارية طويلة تشهد له بهذا، وهي أعمق وأطول وأرقى من التجربة الغربية نفسها التي لم يتجاوز عمر الليبرالية فيها على أقصى تقدير أربعة قرون.
كل هذا الكلام السابق لا يهمني الآن، وليس هو مقصود المنشور، وإنما وضعته تمهيدا لما هو الآتي، الذي هو مقصود المنشور أصالة:
قلنا إن التعريف الأجمل للديمقراطية هو أن يكون الشعب حرا في اختيار حاكمه ونظام الحكم.
حسنا..
يستلزم هذا التعريف أن يتمكن الشعب من الاختيار الحر، ويستلزم أيضا أن تكون نتيجة اختياره ملزمة للجميع.
هنا نغادر عالم الفلسفة والتنظير وننزل إلى عالم الواقع.
من كان يظن أن عالم الواقع عالم أخلاقي يحترم اختيارات الشعوب ويلتزم بالتعامل معها فالرجاء منه مغادرة هذا المنشور فورا.. والحمد لله الفيس واسع  لأن بقية الكلام لن يعجبه.
ومن كان يرى أن عالم الواقع هو عالم صراع مصالح متوحش، لا رحمة فيه ولا أخلاق ولا إنسانية فقد وصلنا معا إلى نصف الحل.
ينقسم العالم إلى أقوياء وضعفاء، الأقوياء متفاوتون في القوة، والضعفاء متفاوتون في الضعف، صراع المصالح يساهم كل طرف فيه بما يستطيعه ليحسن وضعه ويزيد من قوته، صراع بلا رحمة ولا إنسانية ولا أخلاق.
وقد تطورت الديمقراطية لتكون من أدوات الصراع، أدوات يستعملها الضعيف لتحسين وضعه، كما يستعملها القوى لزيادة مساحة نفوذه وهيمنته.
فحين يأتي بلد ضعيف يريد ممارسة الديمقراطية فإنه لن يتمكن من هذه الممارسة إلا بقدر ما تسمح له بهذا موازين القوة من حوله.. القوة تتجسد في السلاح والجيوش التي تشن الحروب وتسقط الأنظمة، وفي الأمن والمخابرات التي تنفذ الاغتيالات وتثير الفوضى والاضطرابات، وفي الاقتصاد الذي يدمر العملة الوطنية ويسحب رؤوس الأموال ويشتري الذمم، وفي الإعلام الذي يشن حملات التضليل والخداع للجماهير ويحرضها على التمرد ويثير فيها الأحقاد التاريخية والنزاعات القبلية.. وهكذا!
لهذا فتاريخ الديمقراطية الجميل في أوروبا وأمريكا، والذي تتغزل فيه أدبيات الديمقراطيين، يوازيه تاريخ آخر في بقية العالم من الانقلابات على الديمقراطيين واغتيالهم وشن الحروب عليهم لأن اختيارات الشعوب تضايق مصالح الأقوياء.. والأقوياء ليس لديهم الأخلاق الكافية التي تدفعهم لاحترام رغبات الشعوب، لكن لديهم الأخلاق الكافية لقتل هذه الشعوب واستعبادها!
في بعض البلاد استطاع الأقوياء توظيف أداة الديمقراطية في سبيل مصالحهم، فنجحوا في جعل عملائهم حكاما ولكن باختيار الشعب نفسه، وفي بعض البلاد لم يحققوا هذا النجاح لأن الشعوب لم تزل إذا أتيحت لها فرصة الديمقراطية جاءت بمن هو ضد مصالح الأقوياء. من هذه البلاد البلاد العربية، ولا تكاد تجد مذكرات مسؤول أمريكي يتعرض لموضوع الديمقراطية في العالم العربي إلا ويقول صراحة أو ضمنا بأن هذه المنطقة تتناقض فيها قيم نشر الديمقراطية مع مصالحنا فنضطر لتقديم مصالحنا والتضحية بالديمقراطية.
نحن في واقع ولسنا في الفضاء النظري، الغفلة عن موازين الواقع وممارسة الاشتباك الفكري يحرف أنظارنا عن حقيقة الأزمة وعن حقيقة الحل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق