الرياض وأنقرة.. التبريد أم التصعيد؟
واضحٌ أن الحملة التي دشّنتها أوساط سعودية ضد سياحة السعوديين في تركيا أخيراً، كانت تصعيداً جديداً، وقد جاءت الخطة، تبعاً لقرار أبو ظبي التي شنت حملة عنيفة على السياحة في تركيا، من دون قرار منع رسمي، لكنه أشعر مواطنيها بخطورة مزعومة على السياح الخليجيين في تركيا، بكمية افتراءاتٍ ممنهجة، وهذا لا يعني ألا تكون هناك مضايقات، أو مواقف سلبية وتعدّيات، تحصل للسياح العرب في تركيا، لكن ليس بهذه الصورة.
الأمر الآخر أن هذه التجاوزات، مما يسمّى الشعب السياحي، أي موظفي الفنادق وسائقي الأجرة أو النوادل، أو المرشدين أو فرق المبيعات المتعددة، وغيرهم، خارج عامة الشعب، ممن يمارس بعض السلوكيات السيئة، ليس ظاهرة جديدة، لكنها لم تؤثر على موقع تركيا السياحي، المناسب للمواطنين العرب، الخليجيين خصوصاً.
وتركيا الأفضل حتى اليوم، لتوازنها السياحي، من حيث تعدّد فرص المتعة للعائلة الخليجية والتسوق، والطبيعة، وروح الانسجام مع معاهد الشرق ومساجده، فقد بات هناك منهجية تفاهم، لا تُغني عن ضرورة أن يأخذ السائح حذَره، ويختار جيداً خطواته وبرنامجه، مع بقاء تركيا آمنةً بالجملة للسياح.
وإذ تعرض هذه المقالة لإثبات أن القضية مسيسة في الموقف من السياحة التركية، فإنها لا تغفل مسارين رئيسيين في التقدير العربي، للعلاقات مع الإخوة الأتراك تحتاج إلى شفافية، لا بد من ذكرها، حتى تكون رسالة المقال واضحة المعالم وشفّافة:
المسار الأول أن إشكالية مشاعر الكراهية للعرب قديمة، بسبب تقدير تاريخي مزيّف لموقفهم من الدولة العثمانية، على الرغم من أن الحلقة التاريخية التي يُزعم فيها ذم العرب، أو نعتهم بالخيانة، تراكمت عند سقوط الدولة العثمانية، مع الثورة العربية التي دفعت إليها إنكلترا، مستغلة الانحطاط العثماني المريع. ومع ذلك تنتشر هذه الفكرة ضد العرب كأمة وشعب، في
أوساط المعارضة، المؤيدة لإسقاط الرئيس أتاتورك العثمانيين وتتردّد في حزب العدالة والتنمية (الحاكم). ويقوم حل هذه الإشكالية على تدشين علاقة تكافؤ وتعاون بين العرب والأتراك، تقوم على اتحادهم في أمم الشرق وفي الرسالة الإسلامية، والتعاون النهضوي والتنموي، والثقافي القيمي الأخلاقي، وتترك تلك الأمم في العهود السابقة، بما فيها تاريخ الدولة العثمانية، تحت مسؤولية البلاغ الإلهي الملهم: "تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تُسألون عما كانوا يعملون". وهنا ينفتح الأتراك على العرب، ويتجنّبون العودة إلى صراعات الجدل التي سبقت انهيار الدولة العثمانية، وعهود استبدادها وتخلفها الذي أضرّ بالأتراك وبالعرب جميعاً، ولا يسقط ذلك تاريخها الإيجابي، وحقها الحضاري ولا السياسي في مواجهة البغي الغربي، مع تفهم العربي لرمزية التاريخ العثماني للقومية التركية.
المسار الثاني هو صعود نزعة شعوبية جديدة ضد العرب، وانتشارها في العهد الثاني لحزب العدالة والتنمية بعد زحف اللاجئين، وأبرز محفزاته: تراجع الفكرة الرسالية للحزب، والتي بُعثت إلى أمم الشرق من خلال مشروع النهضة منذ 2002، وانبعاثه في مضمار القيم الذي كان يسعى إلى استقطاب الشعب التركي بكل شرائحه، ثم التفت إلى التاريخ الاجتماعي للجوار، لمخاطبة العرب بروحٍ حضاريةٍ تكاملية، أمام المصالح الاقتصادية، والتورّط المغرق لمؤسسات أو مشاريع العدالة، تعتمد المصلحة المالية في العلاقات مع العرب لا غير.
وهذا يهدد المستقبل الاجتماعي الحسّاس لتركيا، مع محيطها العربي، على الرغم من كل العاطفة التي حملها العرب للعودة التركية إلى روح الرسالة الإسلامية، فعدم وجود مشروع ولغة تواصل خارج المصالح الاقتصادية للمؤسسات التركية مضرٌّ جداً بروح الشعوب الثقافية لكل من الأتراك والعرب، حيث لا يوجد أي اهتمام يذكر من المؤسسات التركية بالعرب، إلا من خلال الجانب المادي، أو الاستقطاب الإعلامي الدعائي لتركيا الحديثة، وتعظيم جذورها العثمانية.
المسار الثالث هو صدمة الأتراك بعد محاولاتهم الحثيثة مد جسور مصالح مع الخليج، وخصوصا السعودية، ومع مصر، والحملات الإعلامية التي فجّرها مشروع محور أبو ظبي بين العرب وتركيا الحديثة، ثم التقارب والضخ الإعلامي لصالح التقارب مع الفكرة الصهيونية ذاتها، وهو ما قاد إلى انهيار الثقة في هذا المشروع، ثم انخراط تركيا في مشروع جيوسياسي واسع مع الروس والإيرانيين، أضر بالعرب كثيراً.
والمشكلة هنا أن الموقف التركي لا يواجه محور أبو ظبي فقط، وإنما يتوسّع ليؤثر سلباً على
الجيوسياسية العربية، بل واستقرار دول الشرق المسلم، وتجنب الحرب وانسحاب الأتراك من أي مواجهةٍ مع إيران، وتنسيقهم معها في أكثر من موضع، لا يمنع من بقاء مساحة ضرورةٍ، تؤمن مصالحها مع العرب، وتخفّف من اندفاعها المحموم مع المشروع الآروروسي.
هنا سيعترض الأمر بأن خطايا سياسة الرياض لم تدع مجالاً لأنقرة. والحقيقة أن هذا الحديث ليس دقيقاً، فعلى الرغم من الاتفاق على هذا التقييم لمواقف السعودية الجديدة من أنقرة، إلّا أن هناك ضرورات لبقاء توازن تقديري بين العاصمتين، إذ حروبهم الباردة المتصاعدة لم ولن تفيد الشعوب، ولا مستقبلها التنموي، ولا حتى مفاهيم الحقوق والحريات التي يعمل محور أبو ظبي على نقضها.
وقد بعثت تركيا أخيرا رسالة حذرة، تسعى إلى تبريد هذا التوتر، خصوصا في ظل التحديات التي يواجهها حزب العدالة والتنمية، مقابل تصعيد سعودي أحمق، يأتمر بتوجيه أبو ظبي، ولكن هناك مساحة قائمة، قد تفرضها توازنات المستقبل للدولتين، ويكون لمستقبل الحكم فيهما دور حيوي، يقود إلى تهدئة ممنهجةٍ، هي في الصالح القومي للبلدين.
كما أنها، خلافا لتصورات بعضهم، قد تنعكس إيجابياً على أزمة الخليج، بتهدئة الموقف وتجميده، حيث لن تتراجع تركيا عن علاقتها الحيوية مع قطر التي باتت ضمن مصالحها القومية بحزب العدالة وبغيره، وهو ما تحتاج الرياض لإدراكه، بعد خسائرها الواسعة التي عزلتها وجدانياً عن العرب من المحيط إلى الخليج.
وإذ تعرض هذه المقالة لإثبات أن القضية مسيسة في الموقف من السياحة التركية، فإنها لا تغفل مسارين رئيسيين في التقدير العربي، للعلاقات مع الإخوة الأتراك تحتاج إلى شفافية، لا بد من ذكرها، حتى تكون رسالة المقال واضحة المعالم وشفّافة:
المسار الأول أن إشكالية مشاعر الكراهية للعرب قديمة، بسبب تقدير تاريخي مزيّف لموقفهم من الدولة العثمانية، على الرغم من أن الحلقة التاريخية التي يُزعم فيها ذم العرب، أو نعتهم بالخيانة، تراكمت عند سقوط الدولة العثمانية، مع الثورة العربية التي دفعت إليها إنكلترا، مستغلة الانحطاط العثماني المريع. ومع ذلك تنتشر هذه الفكرة ضد العرب كأمة وشعب، في
المسار الثاني هو صعود نزعة شعوبية جديدة ضد العرب، وانتشارها في العهد الثاني لحزب العدالة والتنمية بعد زحف اللاجئين، وأبرز محفزاته: تراجع الفكرة الرسالية للحزب، والتي بُعثت إلى أمم الشرق من خلال مشروع النهضة منذ 2002، وانبعاثه في مضمار القيم الذي كان يسعى إلى استقطاب الشعب التركي بكل شرائحه، ثم التفت إلى التاريخ الاجتماعي للجوار، لمخاطبة العرب بروحٍ حضاريةٍ تكاملية، أمام المصالح الاقتصادية، والتورّط المغرق لمؤسسات أو مشاريع العدالة، تعتمد المصلحة المالية في العلاقات مع العرب لا غير.
وهذا يهدد المستقبل الاجتماعي الحسّاس لتركيا، مع محيطها العربي، على الرغم من كل العاطفة التي حملها العرب للعودة التركية إلى روح الرسالة الإسلامية، فعدم وجود مشروع ولغة تواصل خارج المصالح الاقتصادية للمؤسسات التركية مضرٌّ جداً بروح الشعوب الثقافية لكل من الأتراك والعرب، حيث لا يوجد أي اهتمام يذكر من المؤسسات التركية بالعرب، إلا من خلال الجانب المادي، أو الاستقطاب الإعلامي الدعائي لتركيا الحديثة، وتعظيم جذورها العثمانية.
المسار الثالث هو صدمة الأتراك بعد محاولاتهم الحثيثة مد جسور مصالح مع الخليج، وخصوصا السعودية، ومع مصر، والحملات الإعلامية التي فجّرها مشروع محور أبو ظبي بين العرب وتركيا الحديثة، ثم التقارب والضخ الإعلامي لصالح التقارب مع الفكرة الصهيونية ذاتها، وهو ما قاد إلى انهيار الثقة في هذا المشروع، ثم انخراط تركيا في مشروع جيوسياسي واسع مع الروس والإيرانيين، أضر بالعرب كثيراً.
والمشكلة هنا أن الموقف التركي لا يواجه محور أبو ظبي فقط، وإنما يتوسّع ليؤثر سلباً على
هنا سيعترض الأمر بأن خطايا سياسة الرياض لم تدع مجالاً لأنقرة. والحقيقة أن هذا الحديث ليس دقيقاً، فعلى الرغم من الاتفاق على هذا التقييم لمواقف السعودية الجديدة من أنقرة، إلّا أن هناك ضرورات لبقاء توازن تقديري بين العاصمتين، إذ حروبهم الباردة المتصاعدة لم ولن تفيد الشعوب، ولا مستقبلها التنموي، ولا حتى مفاهيم الحقوق والحريات التي يعمل محور أبو ظبي على نقضها.
وقد بعثت تركيا أخيرا رسالة حذرة، تسعى إلى تبريد هذا التوتر، خصوصا في ظل التحديات التي يواجهها حزب العدالة والتنمية، مقابل تصعيد سعودي أحمق، يأتمر بتوجيه أبو ظبي، ولكن هناك مساحة قائمة، قد تفرضها توازنات المستقبل للدولتين، ويكون لمستقبل الحكم فيهما دور حيوي، يقود إلى تهدئة ممنهجةٍ، هي في الصالح القومي للبلدين.
كما أنها، خلافا لتصورات بعضهم، قد تنعكس إيجابياً على أزمة الخليج، بتهدئة الموقف وتجميده، حيث لن تتراجع تركيا عن علاقتها الحيوية مع قطر التي باتت ضمن مصالحها القومية بحزب العدالة وبغيره، وهو ما تحتاج الرياض لإدراكه، بعد خسائرها الواسعة التي عزلتها وجدانياً عن العرب من المحيط إلى الخليج.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق