دافع عن الأتراك وأحب الخلافة..
جوانب مثيرة في حياة مصطفى كامل
"لو لم أكن مصريا لوددتُ أن أكون مصريا"، جملة طالما حفظها المصريون عن زعيمهم الكبير مصطفى كامل، ذلك الشاب الذي تفتحت عيناه على مقاومة الاحتلال البريطاني بكل ما أوتي من قوة حتى أضناه التعب والمرض فختم على حياته وهو لا يزال في ريعان شبابه وحيويته، لكنّ كثيرا من المصريين لا يكادون يعرفون خبايا هذه السيرة التي لم تكن منكفئة على المفهوم الوطني بمعناه الذي رسّخه الاحتلال البريطاني؛ ولا دوره الصحفي الفذ الذي كان فاتحة الصحافة الثورية والوطنية في العالم العربي وضد الصحافة العميلة والصفراء، ولا علاقاته ودفاعه عن العثمانيين وسلطانهم وقضية الجامعة الإسلامية، ولا دوره في دعم التعليم والاهتمام به.
فكيف نشأ هذا الزعيم الملهم؟ وكيف أحب الكفاح والنضال ضد المحتل البريطاني؟ وما أهم أطوار حياته وخباياها؟ وكيف رآه الإنجليز وحاولوا مرارا اغتياله بصورة معنوية والحط من شأنه؟ ولماذا خرجت جموع الناس فاهتزت مصر كلها لوفاته وأحدثت صدمة للإنجليز؟!
سنوات الصبا واليُتم والتعلم!
ولد مصطفى كامل في حي الصليبة في القاهرة في 14 أغسطس/آب سنة 1874م لرجل عسكري صارم، عمل ضابطا في سلاح المهندسين في جيش محمد علي وأبنائه، فجمع بين الصرامة العسكرية، والصبغة المدنية؛ فقد عمل في أواخر عهده مهندسا بالحكومة، وكان معروفا بالاستقامة والشهامة وطيب العنصر والأخلاق الكريمة، وكان له من غير شك فضل كبير في تكوين شخصية ابنه مصطفى كامل.
مصطفى كامل في صباه
وحين بلغ الفتى مصطفى الخامسة من عُمره استدعى له والده أحد الفقهاء لتعليمه مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، حتى دخل المدرسة الابتدائية في منطقة السيدة زينب، لكن والده وافاه الأجل ومصطفى في بدايات سن الفتوة في العام 1886م، ورغم ذلك تأهل إلى دخول المدرسة الثانوية في العام التالي لوفاة والده، وفي هذه المدرسة بدأت علامات النجابة والذكاء والفصاحة تلفت أنظار أساتذته، حتى إن علي باشا مبارك، وزير المعارف وقتها، تعرف على مصطفى كامل، وأعجب بفصاحته وشجاعته، وقال له مرة: "إنك امرؤ القيس"، وبشّره بأنه سيكون عظيما، حتى إنه أقنع الوزير بمثالب نظام الامتحانات[1]، وكان له الفضل في تغييره حينذاك.
التحق مصطفى كامل بمدرسة الحقوق الخديوية في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1891م، وكانت حلم الطلبة والأعيان، فقد كانت تخرج طبقة من المحامين والمثقفين، ونجح في امتحان السنة الأولى، ثم التحق بكلية الحقوق في فرنسا في العام التالي، واستطاع الجمع بين الكليتين، وحصل على شهادة الحقوق من كلية تولوز في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1894م.
في تلك السنوات كان الاحتلال الإنجليزي قد رسّخ وجوده في مصر، وقضى على أي محاولة للمطالبة برحيله، ونفى زعماء الثورة العرابية الذين كانت أسماؤهم وسيرتهم حاضرة رغم ذلك بين المصريين، فقد حاول ذلك الضابط الفلاح أحمد عرابي أن يقلم من أظافر السلطة المطلقة للخديو إسماعيل وتوفيق، ويرفض التدخل السافر للإنجليز والفرنسيين في الشؤون الداخلية لمصر بحجة التحكم في ميزانيتها خدمة لأصحاب الديون، ويدعم إنشاء الحياة البرلمانية والديمقراطية في مصر، ويدعم بكل قوة وصول رجال وطنيين إلى مناصب الوزارات والحكومة، وكل ذلك لم يعجب الخديو والبريطانيين من خلفه الذين جاءوا بحجة دعم الخديو أمام "العاصي" عرابي، وانتهى المطاف به بنفيه طوال أكثر من عشرين عاما في جزيرة سريلانكا في المحيط الهندي.
شب مصطفى كامل على هذا الوعي، وذلك الغضب الكامن في الصدور، كما فهم جيدا أهداف الاحتلال الإنجليزي الخبيثة التي كانت تستولي على ثروات البلاد وجيشها، وتمتد للسيطرة على عقول أبنائها من خلال التعليم والثقافة والصحافة الموالية المؤيدة لبقاء الاستعمار.
ولهذا السبب عزم على دخول مدرسة/كلية الحقوق حينها، وهو ما نراه في رسالته التي أرسلها بعد إتمامه الثانوية إلى أخيه الضابط في السودان، يقول فيها بعدما أضناه التعب: "أؤمل أن تعود إليّ القوى لأدخل مدرسة الحقوق الخديوية، فقد عزمتُ على الانضمام إلى صفوف طلابها؛ لأنها مدرسة الكتابة والخطابة ومعرفة حقوق الأفراد والأمم، وأنت تعلم أني أميلُ إليها كثيرا، وعزمتُ كذلك على تأسيس جمعية أسميها جمعية "إحياء الوطن""[2].
كان من بين زملاء مصطفى كامل في مدرسة الحقوق صديقه "فؤاد سليم" وكان والده لطيف باشا سليم أحد الذين شاركوا في الثورة العرابية، ولقد عمل على تكوين هيئة تضم صفوف المعارضة للاحتلال في سنة 1893م، فانضم مصطفى كامل إلى هيئة المعارضة هذه، وكان يومئذ في التاسعة عشرة من عمره، وفي ذلك العام نفسه أخرج في مدرسة الحقوق رواية "فتح الأندلس" التي حملت دروسا في الوطنية وتذكيرا بمجد العرب وبطولاتهم وعشقهم للحرية والفداء، واستطاع أن يتخذ من التراث التاريخي سبيلا لبث الأفكار الوطنية[3] ونشر الوعي وارتباط الأجيال المصرية بتراثها وتاريخها وحضارتها.
مصطفى كامل ومشروعه الإسلامي!
منذ اللحظة الأولى التي عاد فيها مصطفى كامل إلى مصر بعد حصوله على الليسانس، تفرّغ للمحاماة؛ لأنه كان قد قرر منذ وقت مبكر ألا ينخرط في سلك الوظائف الحكومية، وفي المحاماة كانت لديه قضية واحدة هي قضية مصر وحريتها واستقلالها، فلم يحدث أن ترافع عن قضية فردية واحدة، وفي 4 فبراير/شباط سنة 1895م كتب عن آماله في المستقبل إلى أحد أصدقائه يقول: "إن لي آمالا تُخالجُ فؤادي ليلا ونهارا، أعتقدُ أنها إن تحققت أنقذت الوطن من الخطر، وأعادته إلى منشئه الأول وأحسن، وسوف تعلمون كُنه هذه الآمال".
ما لا يعرفه الكثيرون أن مصطفى كامل كان ينطلقُ من الإسلام وتشريعه وحضّه على مقاومة الظلم والعدوان، ويدعو صراحة دون مواربة إلى الجمع بين الإسلام والسياسة، بل السياسة لا تنفك عن الإسلام في تصوره، وأن أولى درجات الوعي في مقاومة المحتل هو الاستمساك بالإسلام أثناء ممارسة السياسة، يقول: "ولماذا لا نتمسك بديننا في السر والجهر، وهو دين الفضائل والمكارم والهدى، وإذا كان الغربيون يعتقدون أن الدين أساس السياسة، فكيف يقوم بيننا من يدّعي أن الدين شيء والسياسة شيء آخر"، ويقول في موضع آخر: "بأي كتاب نقتدي وبأي دستور نهتدي؟ نقتدي بكتابٍ مجيد، ودستور فريد، شرَّعه لنا فاطر السموات والأرض، وما فرّط فيه من شيء، كتاب شريف، وقرآن منيف"[4].
كانت الإستراتيجية التي تبنّتها جماعة المثقفين المصريين قد تعرضت لضربة شديدة عقب حادث فاشودة عام 1898م، حيث خرجت فرنسا منهزمة من منطقة فاشودة في جنوب السودان، وكان المثقفون المصريون ومن بينهم مصطفى كامل يأملون في أن تفتح هذه الواقعة الباب لمفاوضات جديدة يتم من خلالها تحقيق الجلاء عن مصر، لكن ذلك لم يحدث، وتعرّض التحالف إلى الانقسام والتشرذم، فخرجت مجموعة أحمد لطفي السيد، والتي شكّلت فيما بعد مجموعة حزب الأمة وفضّلت التعاون مع الاحتلال البريطاني، بينما اتجهت مجموعة الشيخ علي يوسف وأنصار الخديو عباس حلمي الثاني إلى المهادنة الكاملة للاحتلال وإن كانت قد ظلت تحلم بتحقيق الجلاء عن طريق المفاوضات بين إنجلترا والدولة العثمانية.
أما مصطفى كامل والمؤيدون له فقد تنبّهوا في الحقيقة إلى السعي لحثّ الذات المصرية وجذورها الحضارية والإسلامية على المواجهة[5]، ونشر الوعي من خلال توسيع رقعة التعليم وإنشاء الجرائد الوطنية الموالية للإسلام والوطن والتي تؤمن بفكرة الجامعة الإسلامية.
وكان نشاطه في مجال نشر التعليم واسعا ومضنيا، وبدأ كبار الأعيان المؤيدون لمصطفى كامل في تحقيق مسعاه، فأسس حسين بك القرشوللي مدرسة على نفقته الخاصّة بالحلمية سنة 1899م، وفي العام نفسه لبّى شابان من حي باب الشعرية دعوة مصطفى كامل فأقاما مدرسة "مصطفى كامل" الأهلية، ثم أعلنا عن تنازلهما عن إدارة المدرسة إلى مصطفى كامل نفسه، الذي تولى إدارتها وتوجيهها خلافا لتوجهات سياسة المحتل البريطاني في مصر، والتي كان التعليم فيها يسير على سياسة المنصر الشهير دنلوب، وكانت اللغة الرسمية هي الإنجليزية.
ونشر مصطفى كامل في جريدة "اللواء" سياسته التعليمية، وعلى أي أسس تقوم، قائلا: "إني أتشرف اليوم بإعلان الجمهور أن التعليم في هذه المدرسة مقرون بالتربية؛ لأني أعتقد أن التعليم بلا تربية عديم الفائدة، بل ربما كان كثير الأضرار، وأقصد بالتربية؛ الإسلامية المحضة؛ لأن أساس التربية الدين، وكل أمة يتربى أبناؤها على غير قواعد الدين تكون عرضة للدمار والانحطاط"[6].
كان مصطفى كامل مع تمسكه بالإسلام مُنطلَقا لكامل مشروعه الوطني، وفلسفته الشخصية، يرى أن العلاقة بالدولة العثمانية علاقة متينة لا يجب أن تنفصل بأي حال من الأحوال، ولذلك ففي شهر يونيو/حزيران 1899م أنعم عليه السلطان عبد الحميد الثاني برتبة المتمايز فصار لقبه مصطفى بك كامل، وكان لهذا الإنعام المعنوي القادم من عاصمة الدولة العثمانية دفعة مهمة لتقوية موقف الحركة الوطنية في مصر بزعامته.
فمصطفى كامل لم يرَ في الأتراك أعداء يوما، وكان يدرك جيدا البوصلة وخرائط الأعداء والأصدقاء، وأن الأتراك أقرب للأمة المصرية من الإنجليز المحتلين الغاصبين، ويظهر هذا أشد الوضوح في خطبه وأحاديثه وكتاباته، ففي لقاء له مع مراسل جريدة "نيويورك هرالد" في خريف سنة 1896م، سأله المراسل عن علاقة مصر بتركيا ووجهة نظر المصريين تجاه الأتراك، فأجابه مصطفى كامل قائلا:
"إن سياسة مصر نحو الدولة العثمانية، وهي السياسة التي يجري عليها الوطنيون الصادقون؛ هي سياسة حُسن التقرب منها، وتوطيد العلاقات الحسنة معها، والتاريخ يُعلّمنا ألا نتّبعَ سياسة حيالها غير هذه السياسة".
بل إن مصطفى كامل كان يذهبُ إلى أن السبب الرئيسي في احتلال الإنجليز مصر يكمنُ في التنافر الذي وقع بين الخديو توفيق من جانب وبين السلطان عبد الحميد الثاني، واستغلال الإنجليز هذا الخصام وتوسيعه والإيقاع بين الجانبين، يقول: "وقد نجح الإنجليز في التفريق بينهما باتباع سياسة ذات وجهين"[7].
السلطان عبد الحميد الثاني والخديو توفيق
بل إن مصطفى كامل كان يدين بالولاء والتبعية للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني الذي يصفه بأنه "أمير المؤمنين" و"خليفة رب العالمين" و"فخر آل عثمان، وفريدة عقد السلاطين العظام مولانا السلطان الغازي عبد الحميد خان" و"خليفتُنا المحبوب السلطان الجليل القدر عبد الحميد خان الثاني"، ويُطلق على إسطنبول "عاصمة الإسلام والخلافة"[8].
في مواجهة المحتل البغيض!
اشتبك مصطفى كامل منذ تخرجه في كلية الحقوق بكل جوارحه وطاقته ووقته للدفاع عن مصر ودينها وثقافتها وارتباطها بالدولة العثمانية، ولم يترك محفلا إلا وألهب حماسة الناس، أو صحيفة إلا وكتب فيها ينقض كل ادعاءات وتخرصات الاحتلال البريطاني وأعوانه التي كانت تقول إن المصريين غير قادرين على حكم أنفسهم.
كانت وعود الإنجليز بالجلاء السريع تتبخّر كلما تقدم الزمن، واستقر لهم المقام في البلاد، بل إن هذه النغمة تبدلت في تقارير اللورد كرومر المندوب السامي البغيض الذي كان يُعامل المصريين بتصور عنصري واستعلائي فضلا عن معاونيه الذين كانوا يُصرّحون بأن الجلاء عن مصر "قد يحتاج إلى جِيلين من الزمان في تثبيت دعائم الإصلاح الذي تم، وإعطائه صفة الدوام؛ لأنه لو تُركت البلاد وشأنها الآن لانتكست سريعا، وانبعثت الشكاوى القديمة، وعادت تصرفات الماضي السيئة، ونُسيت الدروس الجديدة، وكانت النهاية شرًّا من البداية"[9].
وبسبب هذا الكذب الإنجليزي، فقد ازدادت وتيرة الهجوم وأعمال المقاومة ضد القوات البريطانية من قِبل المصريين، الأمر الذي جعل اللورد كرومر يُنشئ ما يُسمى بالمحاكم المخصوصة التي أخذت تكيل الاتهامات دون رقيب ولا حسيب على كل من يُشتبه فيه من المصريين، وكانت تتكون من مستشار إنجليزي وضابط من جيش الاحتلال وقاضٍ إنجليزي ورئيس محكمة مصر أو الإسكندرية، فهاجمها مصطفى كامل أشد المهاجمة، وكتب في شأنها مقالا في "الأهرام" بتاريخ 4 مارس/آذار سنة 1895م، عنوانه "صواعق الاحتلال"، جاء فيه:
"هذا شأنهم معنا، شأنُ القوي مع الضعيف، ينتهكون كل حُرمة، ويطالون كل عزيز نفيس، فلقد احتلوا البلاد بحجة الإصلاح، وليس في تاريخ الاحتلال إلا آثار الضغط واستبداد تنطق حوادثه حادثا بعد حادث. إن مراد الإنجليز امتلاك البلاد وجعلها هندا يسبح أهلها من البحر المتوسط إلى منابع النيل بذكر أبناء (نهر) التايمز، ويسجد الشيخ والوليد لهم إجلالا وتعظيما"[10].
ومنذ هزيمة الفرنسيين في جنوب السودان، وسيطرة الإنجليز الكاملة بمعاونة الجيش المصري، الذي جعلوه مواليا لهم بصورة كلية، على السودان، فإن اتفاقية سنة 1899م القاضية باستقلال السودان وانفصاله عن مصر وتعيين الحدود بين الجانبين والقوانين المنظمة لهذه الاتفاقية التي أبرمها عن الجانب المصري آنذاك بطرس غالي، جعلت مصطفى كامل يشتاط غضبا، وسعى بكل جهده إلى فضح هذه الاتفاقية وخضوع الجانب المصري فيها، وتبيين مثالبها القانونية الباطلة، فأرسل إلى صحيفة "الجولوا" الفرنسية مقالا بتاريخ 6 فبراير/شباط 1899م جاء فيه:
"إن اتفاقية السودان المزعومة بين مصر وإنجلترا قد جاءت برهانا جديدا على عدم مراعاة إنجلترا للعهود والمؤتمرات، الشيء الذي يعتبره المصريون جميعا باطلا لأنه مخالف للأنظمة الأوروبية والقوانين الدولية، فإنه أولا ليس لحكومة مصر أي حق في عقد اتفاقية كهذه الاتفاقية؛ لأنها تخالف نصوص الفرمانات السلطانية (العثمانية) الصادرة إلى خديو مصر... إننا وكل رجال القانون نعتبر هذا السلخ "الانفصال" غير قانوني؛ لأن الفرمانات صريحة في أن ليس لمصر الحق في التنازل أو استبعاد أي جزء من أجزائها عنها بإرادتها؛ إذًا فالسلخ غير جائز، وعقد الشركة عمل باطل، وفيه اعتداء صريح من إنجلترا المحتلة للبلاد"[11].
أدرك مصطفى كامل ما للصحافة من أهمية كبرى في نضاله ومشروعه الوطني، فقد كان الناس يُقبلون عليها بكليتهم، وأصبحت الصحافة مرآة الواقع، ومصدرا أساسيا ومهما للغاية في نشر الوعي بين الناس في كل مستوياتهم الاجتماعية، وهي الأداة التي استغلها الإنجليز لصالحهم حين أنشأوا صحيفة "المقطم" الموالية لهم، والمدافعة عن وجودهم، والمسفّهة للمناوئين للإنجليز وعلى رأسهم مصطفى كامل وغيره.
ومن هنا قرر مصطفى كامل إنشاء جريدة "اللواء"، وشرع في هذا الأمر في شهور سنة 1899م، وأصدر العدد الأول منها في يوم الثلاثاء 2 يناير/كانون الثاني 1900م في فاتحة القرن العشرين لتكون صوت الحركة الوطنية المصرية في مواجهة المشروع الإنجليزي وأعوانه، وكتب في "اللواء" محمد فريد الذي تولى زعامة الحركة الوطنية بعد وفاة مصطفى كامل، وأمير الشعراء أحمد شوقي، ومحمد فريد وجدي الموسوعي، ومحمد لبيب البتانوني، والكاتب محمد لطفي جمعة، وغيرهم كثيرون، وصارت "اللواء" "مدرسة" تُعلّم المصريين حقوقهم وواجباتهم، وتبثّ فيهم روح الوطنية والأخلاق، وتبصّرهم بحقائق بلادهم ومساوئ الاحتلال وأفعاله، وتستحثّهم على الجهاد في سبيل الاستقلال.
أوجعت مقالات مصطفى كامل وزعماء الحركة الوطنية في "اللواء" الإنجليزَ بشدة، فأوعزوا إلى جريدتهم "المقطم" بالهجوم السافر على مصطفى كامل
وعلى صفحات هذه الجريدة كتب مصطفى كامل عن قدرة المصريين وتاريخهم المجيد، وأنهم هم الذين نصَّبوا محمـد علي باشا واليا عليهم بإرادتهم، وأنهم الذين هزموا الإنجليز في حملة فريزر سنة 1807م، كما ذكّرهم بما فعله الإنجليز من جرائم حرب عند احتلالهم الإسكندرية سنة 1882م، والعلاقات الوثيقة، والمصير المشترك الذي يجب أن يظل قويا مع العثمانيين.
وقد أوجعت مقالات مصطفى كامل وزعماء الحركة الوطنية في "اللواء" الإنجليزَ بشدة، فأوعزوا إلى جريدتهم "المقطم" بالهجوم السافر الذي كان يصل إلى حد السباب والاستهزاء والتحقير من مصطفى كامل، فتقول في أحد أعدادها إنه يُحرّض على الثورة، "فمن يُفهم هذا الغلام المفتون أن مثل هذا الهذيان لا يسعُ صاحبه إلا المارستان"[12].
ظل نضال مصطفى كامل يشتد، وساعده يقوى، والجماهير وعموم المثقفين يلتفون حوله، وهو الشاب الذي كان في بداية الثلاثينيات من عمره، حتى وقع الاتفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا سنة 1904م بشأن اعتراف فرنسا بالاحتلال البريطاني على مصر، وكان له أسوأ الأثر على نفس مصطفى كامل، فقد كان يأمل في دعم فرنسا في هذا الملف، لكنه لم ييأس، وظل يكتب ويخطب ويحرّض ضد الإنجليز، ويسعى بكل طاقته لنشر التعليم بين عموم المصريين باللغة العربية، ووفق أهداف الإسلام ومراميه.
حادثة دنشواي.. والنهاية
على أن حادثة دنشواي في يونيو/حزيران 1906م كانت علامة فارقة في تاريخ مصر، وفي علاقة الحركة الوطنية بالإنجليز، فهذه الحادثة التي اعتدى فيها بعض الضباط الإنجليز على فلاحين مصريين في قرية دنشواي بالمنوفية، والذين دافعوا بدورهم عن أنفسهم وبيوتهم بعد سقوط عدد من الجرحى، فاشتبكوا مع الضباط الإنجليز، والذين فرّ أحدهم وسقط ميتا جراء ضربة شمس، فعزم الإنجليز على الانتقام بإنشاء مُحاكمة صورية عاجلة اشترك فيها وزير العدل "الحقانية" بطرس باشا غالي، وأحمد فتحي زغلول باشا رئيس محكمة مصر الابتدائية وأخو سعد زغلول، والتي أفضت في النهاية إلى إعدام خمسة من الفلاحين الأبرياء وسجن وجلد الآخرين[13].
أدهشت الحادثة والإعدام الوحشي جموع الناس، وكان مصطفى كامل في فرنسا حينذاك للاستشفاء، فقد كان المرض يزداد به، وكان الناس في القاهرة ينتابهم شيء من الخوف والوجل، لكن ما إن وصلت أخبار هذه المجزرة إلى مسامعه، نهض فكتب في جريدة "الفيجارو" الفرنسية الشهيرة عن هذا الإجرام الإنجليزي في حق الأبرياء، قائلا: "إن يوم 28 يونيو من عام 1906م سيبقى ذكره في التاريخ شؤما ونحسا، وهو خليق بأن يُذكر في عداد أيام التناهي في الهمجية والوحشية"[14].
كانت كتابات وحملات ولقاءات مصطفى كامل -رغم مرضه الذي كان يزداد عليه- لا تتوقف، وقد آتت أكبر ثمارها حين رضخ الإنجليز وقرروا إقالة اللورد كرومر
انتقل مصطفى كامل من فرنسا إلى لندن عاصمة المحتلين، وفيها رفع صوته عاليا، وفضح جرائم الإنجليز في مصر، واستبداد اللورد كرومر، والسلطة المطلقة التي يتمتع بها، ومدى ما تعانيه البلاد من عدم وجود حرية أو دستور، وترتب على جولات مصطفى كامل في بريطانيا، ولقاءاته بكبار رجالات السياسة فيها، والجاليات المسلمة وممثليها، أن ارتفع شأن حركة المقاومة المصرية ضد الاحتلال، واهتمام الصحف العالمية بالقضية المصرية، وفي نهاية المطاف رأى الإنجليز أنفسهم أمام هذا الضغط العارم، وصورتهم التي فُضحت، أن يعيّنوا المصريين في بعض الوزارات الكبرى، حيث عيّنوا سعد زغلول وزيرا للمعارف، وقد هاجم مصطفى كامل هذا التعيين بكل ضراوة، واعتبره إهانة لسعد زغلول، وتبعية لكرومر.
كانت كتابات وحملات ولقاءات مصطفى كامل -رغم مرضه الذي كان يزداد عليه- لا تتوقف، وقد آتت أكبر ثمارها حين رضخ الإنجليز وقرروا إقالة اللورد كرومر في أبريل/نيسان سنة 1907م، وكان هذا الاستعفاء انتصارا كبيرا لمصطفى كامل ورفاقه، فقد تولى هذا اللورد البغيض إدارة شؤون مصر؛ حاكما متفردا متدخلا في كافة شؤونها لمدة 24 عاما متصلة، يقول عنه مصطفى كامل: "ماذا نذكر من سياسة اللورد كرومر وخطته في مصر؟ نذكر أنه الضارب لعرش الخديوية بيد من حديد، نذكر أنه الذي فتح السودان برجالنا وأموالنا ثم جردنا من كل حق وسلطة فيه، نذكر أنه الذي سلب الحكومة المصرية والوزارة الأهلية كل وجود ونفوذ وحياة، نذكر أنه الذي حرم الفقراء من التعليم في مدارس الحكومة، وحارب اللغة العربية، نذكر أنه الذي رمى المصريين بكل جهل وتقصير، وأعلن للملأ وجوب سيادة الإنجليزي على المصري، نذكر أنه الطاعن على الدين الإسلامي"[15].
في العام التالي لرحيل كرومر بخزيه من مصر، سقط مصطفى كامل ذلك الشاب الذي بلغ الرابعة والثلاثين من عمره في براثن المرض بسبب مجهوده الكبير، وكان سقوطه هذه المرة قويا، لقد أفنى ذلك الشاب حياته في خدمة دينه ووطنه، وفي الدفاع عن شرف أمته، وأحيا في قلوب وعقول المصريين هممهم، وأعاد الثقة إلى نفوسهم، ولم يخش قط من هجوم المهاجمين، وغطرسة الإنجليز وقوتهم، ورحل في العاشر من شهر فبراير/شباط 1908م، وهو زعيم بمواقفه ومبادئه وثباته وقلمه ولسانه الذي هزم أعتى المجرمين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق