الجمعة، 7 يونيو 2019

أزمة المشروعية في العالم العربىّ


أزمة المشروعية في العالم العربىّ

د . محمد عباس
نشرفي ٧-يونيو-٢٠٠٢


لكم كان محزنا ومهينا ما نشرته وكالات الأنباء، وصحف مصرية، أن الغبى المجرم المجنون بوش، قد تعمد استدعاء الرئيس مبارك إلى واشنطن، يوم الخامس من يونيو، نكاية وزراية ومهانة.

وبرغم افتقاد أى نوع من التوافق مع الرئيس إلا أن الإهانة وصلت إلى نخاعى..

لن أناقش الزيارة.. ولا أتوقع من نتائجها إلا شرا.. تطبيقا لقاعدة لم تكذبني قط.. وهى أن هذا النظام ما خير بين أمرين إلا اختار أسوأهما.. والأمر الآن أسوأ حتى من ذلك.. فالرئيس لم يستدع لواشنطن للاختيار بل للإجبار.. إجبار يدفع الجزر المتناثرة المعزولة التي لم تستسلم بالكامل بعد إلى الاستسلام النهائي.

***

منذ أسبوعين كان فهمي هويدى يطرح تساؤلا داميا عن حالة الفصام التي أصابت الدولة، فالشعارات التي يرددها المسئولون على شاشة التلفاز، يضرب الطلاب بالرصاص إذا ما رددوها في الشارع، تنكل بهم الشرطة وتحبسهم النيابة ويسجنهم القضاء، ويتساءل هويدى إذا ما كان في مصر دولتين؟..

والإجابة مريرة.. فليس في مصر دولتان فقط.. بل عشرات الدول..!! فبرغم أن بلادنا قدمت أول حضارات الدنيا وأول دول في التاريخ، ومنها تعلمت القبائل كيف تصير دولا، إلا أن المأزق الذي يخنق الدولة ويكاد يهدد وجودها، يكشف مباشرة عن أزمة شاملة في العلاقة بين السلطة والمجتمع، واحتياجهما معا إلى مراجعة المبادئ الأولية لقيام السلطة والدولة، وبلدنا : أقدم حضارة ودولة في التاريخ، عليها أن تتعلم من جديد كيف تكون دولة.

***

إنني لا أقصد الرئيس مبارك بشخصه، ليس خوفا من مواجهته، ولا حتى عزوفا عنه ويأسا منه، لأن المأزق التاريخي الذي نندفع إليه، يضعه على الرغم منا وبالرغم منه، في نفس شبكة الصياد المتأهبة لابتلاعنا جميعا..

الأزمة التي نواجهها أكبر بكثير من أن تتعلق بشخص رئيس هنا أو ملك هناك

***

لست أعنى أيضا أزمة أنظمة سياسية تحكم بأحزاب مزورة الأصوات، ولا خلل بنيان اجتماعي وفكري جعل القانون سكينا في يد مجنون، وجعل تطبيق كل فكرة يؤدى عكس المستهدف منها تماما، فالاستفتاء الذي يقصد به أن تعمل الأمة كلها رأيها وفكرها وعقلها في مشكلة تواجهها قد أدى في التطبيق إلى تغييب الأمة وتغليب رأى النظام وقمع معارضيه، والقطاع العام الذي أنشأته بعض النظم العربية وقصد به الحفاظ على حقوق العمال، قد أدى إلى نشوء طبقة من كبار المنحرفين تحالفت مع السلطة بل وسيطرت عليها أحيانا، حيث أدت الآلة الاقتصادية الجبارة إلى تقوية السلطة لتسحق بهذه القوة العمال، مما أدى في النهاية إلى بيع القطاع العام نفسه، في أجواء فساد لا تتصور، أما نسبة الــ 50 %عمالا وفلاحين التي ابتدعتها بعض النظم فقد استخدمت لإهدار حقوق العمال والفلاحين، وقوانين العيب صدرت لتستر العيب ولتحمى مقترفيه، وقانون الطوارئ الذي صدر بحجة حماية الوطن ينخر كالسوس في جسد الوطن، وقوانين التعليم لإفساد التعليم، وتحت راية العدالة تسحق العدالة، ويصفى المعارضون ، وترتكب السلطة أفدح الجرائم التي يؤثمها قانونها الموضوع، وتوضع قوانين الصحافة لتفريغ الصحافة من كل قيمة.

لست أقصد أيضا المؤسسة العسكرية في العالم العربي.. والتي تحولت من وظيفتها المفروضة وهى حماية الاستقلال، إلى وظيفة بائسة وهى تكريس التبعية، وبدلا من أن تواجه العدو، راحت تمنحه منصات تدريب حية يتدرب فيها على غزو العالم العربي، وبالرغم من مئات المليارات التي تنفق عليها، فإنها خلال ما يقرب من ثلث قرن لم تطلق على العدو رصاصة، بينما كان ضحاياها من شعوبها بمئات الآلاف، والأرقام المنشورة، وهى بالطبع أقل بكثير من الأرقام الحقيقية ، تظهر على سبيل المثال مائة وخمسين ألف ضحية في الجزائر فقط. حتى أن المحصلة النهائية تجعلنا نتمنى لو لم تكن لنا جيوش على الإطلاق، لأن ما قامت به هذه الجيوش أساسا، هو تدعيم أنظمة فاسدة دفعت بالأمة كلها للهزيمة والخراب، و أنه بافتراض عدم وجودها، لأمكن لكل شعب عربي أن يكون منظمات مقاومته، تماما كما حدث في لبنان.

***

يثور التساؤل أحيانا: لماذا نكصت كل الدول العربية عن مواجهة إسرائيل عدا لبنان وفلسطين؟..

والإجابة الدامية تقول: لأن لبنان وفلسطين فقط ليس فيهما جيش قوى ولا دولة مسيطرة‍‍..

لشد ما هي مهينة تلك الإجابة لكل الدول .. ولكل الجيوش التي اقتصر جهدها على ضمان استمرار النظم الفاسدة لهذه الدول.

***

لا يفوق التأثير الضار للمؤسسة العسكرية في العالم العربي إلا مؤسسة أخرى هي المؤسسة التي يطلق عليها زورا مؤسسة الأمن، بينما هي مؤسسة الترويع والرعب والخوف.

والشرطة في الأصل مؤسسة مدنية، إلا أنها في عالمنا العربي تحولت إلى مؤسسة متوحشة، فقدت الضمير كله ولم يعد لديها أي وازع أخلاقى، تحولت إلى عصابة أشد إجراما من أعتى العصابات، ولسوف نحتاج، عند انفراج الغمة ولو قليلا، إلى مئات بل آلاف من الباحثين، ليكشفوا لنا كيف أمكن تحويل أفراد مؤسسات بأسرها إلى وحوش، لا أقول حتى إلى مجرمين، فالمجرم إذ يرتكب جريمته يعرف أنه يرتكب جريمة، فلا يفخر بها إلا بين مجرمين، وفى حوادث الاغتصاب مثلا، فإن المجرم الشاذ المجنون وحده هو الذي يستمتع باغتصاب امرأة أمام زوجها أو أبيها أو أخيها، بينما يفتخر رجال الأمن في عالمنا العربي بجرائمهم، بقدرتهم على اختراق القانون، وفى جرائم الاغتصاب وهتك الأعراض فالأمر أشهر من أن يحتاج إلى تعليق.

في سوريا على سبيل المثال، نجحت أجهزة الأمن في تحقيق انتصار ساحق على الشعب السوري، فعدد القتلى والسجناء غير معروف بالضبط، لكن عدد المختفين يصل إلى خمسة عشر ألفا.. خمسة عشر ألفا من الشعب السوري لا الإسرائيلي. خمسة عشر ألفا هم المختفون فقط..

ترى.. في تاريخ المواجهة التي تمتد نصف قرن أو يزيد.. كم كبدت سوريا إسرائيل من القتلى؟‍‍

***

وعلى الرغم من ذلك فإن أداء المؤسسة العسكرية، ومؤسسة الأمن المدنية التي تعسكرت أكثر من الجيش ليسا هما الأزمة التي نواجهها.

فالأزمة أبعد حتى من وقف التعذيب والتزوير والفساد، بل لعل التعذيب والتزوير مجرد عارض، ونتيجة لعدم حل الأزمة المستحكمة والمستفحلة.

الأزمة أبعد بكثير من محاولة حصرها في نطاق ضيق نستطيع أن نشير إليه لنقول هذا هو الداء فهاتوا الدواء، إنها أزمة الأسس التي يقوم عليها توازن السلطة وتوزيع الصلاحيات والمسئوليات ومعايير التداول الطبيعي والسلمى للسلطة، أزمة الخلل في بناء السلطة ونموذجها وقيمها، وطريقتها في ممارسة القيادة الاجتماعية في الحكم وفى المعارضة معا، فلو كان نظام الحكم سليما، لو لم يكن مصابا بسرطان يعبر عن نفسه بآلاف الظواهر التي قد تخدع بأن المرض سيزول حين نعالج الظواهر، ولو توفرت سلطة حقيقية راشدة عاقلة موضوعية لما قاد إخفاق الحكومة في فترة ما إلى أزمة في الحكم، ولما أدى فشلها إلى تفجر أزمة في الحكم والسلطة والمعارضة والمجتمع، بل إن هذا الإخفاق حين يحدث في نظام سليم الأسس، مكتمل المعايير، قد يمثل فرصة تاريخية للتغيير الإيجابي، و إلى انتقال السلطة دون مشكلة إلى فريق آخر أكثر كفاءة والتزاما .

لست أقصد بالسلطة شخص الحاكم، بل أعتقد أنه هو الآخر - في بعض من الجانب الفاجع للمأساة - ضحية لذلك الخلل الجسيم في النظام، كما لا نقصد أيضا مجلس الوزراء، ولا حتى السلطات الثلاث، بل نقصد - كما يعبر الدكتور برهان غليون في كتابه نقد السياسة - جملة المبادئ والمعايير العامة التي تحدد العلاقات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمع، والتي تتجسد عبر مؤسسات مختلفة ومحددة الصلاحيات، تضبط إيقاع المجتمع، وتساعده على تنظيم علاقاته وجنى ثمار نشاطاته وجهوده في تراكم كمي وكيفي، كما تمنع إهدار جهد الأمة، ونزفها في العمولات والرشاوى والفساد والتهريب والتصرفات الطائشة والقرارات الحمقاء واستغلال السلطة .

مفهوم السلطة الذي نقصده أوسع بكثير من منصب الحاكم وقواد جيشه ووزرائه وكبار مسئوليه، ولقد سبق الحديث النبوي الشريف علوم السياسة والاجتماع حين قال : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالسلطة التي نقصدها تشمل ضمن ما تشمل سلطة الأسرة والمدرسة والحى والقرية والمدينة والجماعة الدينية أو المذهبية أو الحزب، ثم الجماعة الوطنية ثم القومية ثم الإسلامية . وفى كل سلطة من هذه السلطات تتبلور المعايير التي تصوغ في النهاية وجدان الأمة، وتقوم كل سلطة من هذه السلطات على أنماط ومعايير لا يجب الخلط بينها، كالنمط الأبوى في الأسرة، والنمط العلمى في المدرسة أو الجامعة، والدينى في المسجد والسياسى في الحزب والدولة . بيد أن كل هذه الأنماط والمعايير لا تتحرك في فراغ، و إنما يحكمها جميعا، يكفلها وينظم العلاقات بينها سلطة الدولة، وهى في النهاية الضامن الرئيسى لسلامة كل السلطات الأخرى، ومتى ضعفت هذه السلطة السيادية الكبرى، أو فقدت رشدها، ومقاييسها الأخلاقية والعقلية، تعرضت جميع السلطات الأخرى للاهتزاز، وفقد معها المجتمع اتزانه ووسيلته لترتيب أوضاعه وحسم خلافاته وتحديد أولويات نشاطه وتحقيق توازنه العام ومعرفة طريقته ووجهته .

كل الأزمات التي نواجهها إذن ليست إلا عرضا لمرض، وليست هي المرض، فعندما تفقد السلطة الكبرى المعايير والمنطق تفقد كل السلطات الأخرى اتجاهها كما تفقد القافلة المرتحلة قائدها ودليلها فتفقد الطريق، لتسير كل مجموعة في اتجاه مختلف، يسبق ذلك ويصحبه ويعقبه، صراعات دامية حول أيهم على صواب، و على اقتسام زاد الرحلة .

يشكل الحاكم - ليس كمجرد فرد - عنصرا من عناصر السلطة السيادية الكبرى ، عنصرا تختلف نسبة تأثيره فيها أو تأثيرها فيه طبقا لقوته، لا نقصد بالقوة هنا قوة الحرس ولا مناعة الحصون ولا ضخامة المخابرات والجيش والشرطة، بل نقصد بها قوة مبادئه ومعاييره وقيمه الأخلاقية و المعنوية وشخصيته، وقدرته على إقناع الأمة في الداخل والعالم في الخارج بمنظومته الفكرية، والتي تتشكل من مجموع المنظومات الفكرية لمختلف الاتجاهات في الدولة، إنه كالمايسترو في فريق موسيقى، يمكن بسوء إدارته أن يفسد عمل المجموعة كلها مهما بلغت براعتهم .

إن عجز الحاكم في مثل تلك المجتمعات، وافتقاد ه للمنطق والمشروعية، ونزوله إلى حلبة الصراع بدلا من أن يظل حَـكـَــمْا، يعتبر عاملا من العوامل المهمة التي تؤدى إلى عجز السلطة السيادية الكبرى في المجتمع حيث يترتب على هذا العجز انفلات عناصر السلطة جميعا، وبحثها، كل على حدة، وحسب ما تقع عليه يدها على نسق جديد تستطيع من خلاله أن تعيد بناء علاقاتها بالواقع، وأن تعين معايير جديدة لسلوكها كى لا تفقد توازنها الكامل وتفنى، ذاك العجز وهذا الانفلات، وانعدام القيم والمعايير والمنطق والمنهج تؤدى في النهاية إلى نوع من التشتيت والضياع وفقدان القدرة عند كل مؤسسة على أن تتعرف على مكانتها ودورها ومسئوليتها في مجمل النظام الاجتماعى . خطورة هذا الخلط، أن كل مؤسسة تفقد معرفتها للوظيفة الخاصة بها، فتسعى إلى القيام بكل الوظائف التي يمكنها من خلالها أن تثبت نفسها، وتضفى على وجودها الشرعية والنجاح وتؤمن لنفسها السيادة . وهنا ينفرط عقد الأمة، فمجلس الأمة أو الشيوخ مثلا بدلا من أن يمثل الشعب ويحتفظ بعلاقات سليمة من الأخذ والعطاء و إرساء المعايير والقيم يصبح سيد قراره، يتحدى أحكام القضاء، ويسن القوانين التي تهدر حق الأمة في السيادة، و يفقد وظيفته كعين للأمة على السلطة . نفس الشيء يحدث لجهاز الشرطة، إنه يكف عن تطبيق القانون العام، مهمته الأساسية التي أنشئ من أجلها، كى يصوغ لنفسه قانونه الخاص، الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، يعز ويذل ويعذب ويعفو ويحمى نهب السادة لممتلكات الآخرين بالسلاح ( كتب د. محمد السيد سعيد تقريرا عن ذلك فاعتقل بسببه وعذب تعذيبا شديدا ، اقتنع بعده بضرورة أن يتحول من أحد الكوادر الهامة في اليسار المصرى إلى عضو نشط في الحلف الصهيونى الأمريكى) ، إن جهاز الشرطة في مثل هذا المجتمع يستولى أيضا على اختصاص القضاء، ويصبح السلطة العليا في الجامعة فلا يعين فيها من لا يرضى عنه، بل ويتسلل إلى أماكن لا يمكن تصور تسلله إليها، كالأدب والفن والمسرح . وهو مع ذلك كله يتخلى عن واجبه الأساسى في حماية الناس وضبط العملية الانتخابية وتحقيق الأمن بمفهومه الذي يعرفه به العالم .

في ظل غياب السلطة، يتصرف المجتمع بكل هيئاته ومؤسساته و أجهزته، وصحافته وجامعاته، وحتى أحزابه المعارضة، تصرف طلاب مدرسة غاب عنها المدير والناظر والمدرسون والموظفون أو انشغلوا بمصالحهم الذاتية، حيث ينتفى الغرض ، تتوقف العملية التعليمية و هي الهدف، ورغم وجود اللوائح والكشوف فلا شئ ولا أحد يبقى في مكانه، وحتى المعارضين لما يحدث، لا يبقون في أماكنهم، بل يحاولون شغل الأماكن المعنوية الخالية للناظر والمدرسين، فإذا أضفنا إلى ذلك، أن إدارة المدرسة، تقمع بكل الشراسة والعنف، وتفصل كل طالب ينادى بعودة النظام إلى المدرسة، استطعنا أن نكمل عناصر التشبيه .

***

يقع الحاكم في المصيدة التي أعدها لشعبه، لقد أقنعته مؤسسات السوء أن هذا الشعب خطر عليه، وتكفلت بموافقته في تدمير كل عناصر القوة في هذا الشعب، لكن الرئيس الأمير الملك لم يدرك أنه في اللحظة التي بدأ يفعل فيها ذلك، قد فقد مشروعيته، وتحول من مؤسسة ضابطة للسلطات جميعا إلى مؤسسة من المؤسسات التي تتصارع على السلطة، وفى أحيان كثيرة يكون الحاكم هو أقوى تلك المؤسسات المتصارعة على السلطة، وذلك ما يبقيه حاكما، لكنه في أحيان أخرى لا يكون الأقوى، ولا يبقيه في الحكم سوى لعبة التوازنات بين المؤسسات المتصارعة على الحكم، ولأنه لا توجد قوة منها قد حققت التفوق على مجموع القوى الأخرى، ولأن كل قوة تخشى من أن تستأثر القوة الأخرى بالسلطة، لتنكل بها، فإن الحل الأسلم للكل، وبصورة مؤقتة يكون هو الإبقاء على الحاكم الضعيف في الحكم.

والعلاقة بين هذه المؤسسات المتصارعة على الحكم علاقة وحشية دامية لا خلق فيها ولا ضمير، إنها ليست علاقة التنافس على بناء الوطن بل على نهبه، ولست العلاقة على ممارسة مكارم الأخلاق بل العكس، ليصبح على القمة في تلك المؤسسات: القاتل والسارق واللص.

كل مؤسسة من تلك المؤسسات، وكل قوة من تلك القوى، تدرك تماما أنها عدوة للشعب كما أن الشعب عدو لها، وأنها تفتقد كل مشروعية للحكم، ليست مشروعية الشريعة فقط، بل مشروعية القانون الوضعى ذاته، ولأنهم يدركون ذلك، ويدركون ضراوة الصراع الوحشى بينهم، والذي لن يزيح المهزوم عن الساحة فقط، بل سيقتله، نعم سيقتله بعد أن يفضحه ويشهر به ويسجنه، لذلك كله، فإن كل قوة من هذه القوى تسعى إلى مزيد من القوة، تبحث في الداخل عما يقويها، وفى كثير من الأحيان يكون الحاكم هو مصدر تلك القوة، لكن لفترة مؤقتة فقط، فمع ازدياد ضراوة الصراع، وازدياد قوة تلك الأطراف، يزداد ضعف الحاكم، وتضمحل قدرته على مد الآخرين بالقوة، وعندئذ ، تمتد أعين تلك القوى إلى الخارج لتستمد منه القوة، فإذا كان الخارج عدوا، يريد بالأمة شرا، كما هو الواقع في أحوالنا في العالم العربي، فإن التنافس بين مؤسسات الحكم في كل دولة، شاملة الرئيس الملك الأمير، لا يكون على خدمة الوطن، أو التفانى في سبيله، بل يكون على خيانته، والتضحية به، ذلك أن الأمر عندما يصل إلى تلك الدرجة، فإن قوانين اللعبة في المجال الداخلى تنقلب إلى عكسها، فالداخل عاجز عن إعطاء ميزة رئيسية تمكن إحدى القوى من الحكم وحدها، أما الخارج، فهو قادر على ذلك، وعند هذه النقطة، تنهار كل السدود المانعة للخيانة والتدنى والانحطاط، وتسقط المحرمات جميعا، فما من دنية تمنعهم ولا من خيانة تمنعهم، ويتحول الحاكم الرئيس الأمير الملك الخليفة، من مصدر القوة الرئيسى إلى مركز الضعف الأكبر، لأنه لم يعد لديه مزيد يحققه، و أقصى ما يتمناه هو الحفاظ على الوضع القائم، أما الفئات التي حوله، تلك التي أغرته بالشعب حتى حرمته العافية والسلامة والصحة والقوة، والتي امتصت الشعب حتى نضب، قد حولت قرون استشعارها نحو الخارج، لتصبح عنصر التهديد للحاكم، والبديل المتاح له.

في هذه اللحظة يضيع الوطن على مائدة اللئام، فمصدر القوة، وهو الخارج، العدو المتربص، يجد من يتوسلون إليه ، ويعرضون البيع بأرخص الأسعار، والحاكم أيضا يشارك في المزاد، لكنه يدرك، أنه محكوم بحدود معينة سيفقد بعدها الحكم، لذلك، وليس بسبب أي داع من دواعى الأمانة والشرف، أو الإحساس بالمسئولية، تكون مرونته أقل، والخيارات المتاحة أمامه أكثر محدودية من تلك المرونة والخيارات المتاحة أمام المؤسسات التي صنعها هو بنفسه.

***

في علم الأمراض، لا يمكن أن تشاهد كل أطوار المرض في نفس المريض، و إنما ترى المراحل المختلفة في مرضى مختلفين، وبالدراسة الفاحصة، تستطيع أن تشخص المرض في بداياته، كما تستطيع التنبؤ بمساره ونهاياته. وتستطيع أيضا أن تدرك الاحتمالات المختلفة للصور الخادعة لهذا المرض، عندما يقترن بمرض آخر، أو عندما يخفف من ظواهره قوة احتمال المريض مثلا. والطبيب الذي ينتظر كى يشخص المرض عند اكتماله لا يصلح طبيبا بل حفار قبور.

في السياسة أيضا يجرى الأمر على نفس المنوال.وينطبق عليها نفس المعايير.

وما أريد أن أقوله أن السياسة في عالمنا العربي كله – والإسلامى أيضا – مريضة. وربما يكون النموذج المكتمل منها هو نموذج السلطة الفلسطينية، حيث يبدو الرئيس عرفات هو الأضعف، وتبدو أكثر العناصر خيانة وارتباطا بالعدو الخارجى هي بالذات أكثرها قوة. لكن حفارى القبور فقط هم الذين يعتبرون السلطة الفلسطينية هي المريض الوحيد، ولا يدركون أن الأمر ليس مرضا و إنما هو وباء.

***

ترى .. هل أجبت على تساؤل فهمى هويدى حين تساءل كيف تقتل الشرطة طالب الإسكندرية الذي لم يفعل سوى أن رفع في الشارع الشعارات التي يرددها كبار المسئولين في أجهزة الإعلام.

***

أعتقد أنني أجبت على تساؤل فهمى هويدى..

و أعتقد أنني قدمت دراسة أكاديمية لم أدخل فيها العنصر المقصى والذي يجب أن يكون هو الحاكم المهيمن.. ألا وهو الدين.

كما أنني تحدثت عن مؤسسات الحكم والجيش والشرطة، ولم أتحدث عن فئة أشد سوءا منهم جميعا.. ألا وهى فئة النخبة.. تلك الفئة التي تقوم بدور القواد في زمن سلطان العهر..

و إلى المقال القادم إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق